تتوعد إسرائيل الفلسطينيين في قطاع غزة بغزو بري لاستئصال شأفة حماس، وتنذرهم لإخلاء حوالي مليون فلسطيني من المدنيين من مدينة غزة وشمال القطاع وتأمرهم بالتوجه للجنوب. ويساند العالم الغربي (المتحضر) إسرائيل في حربها المنتظرة للقصاص من الهجوم الدموي الذي شنته حماس داخل إسرائيل يوم 7 أكتوبر. ويترقب العالم كله ماذا سيفعل الرامبو الإسرائيلي على الأرض في غزة بعد تسوية مبانيها بالأرض بضربات جوية لا تميز بين أهداف عسكرية ومدنية ومستشفيات ومساكن مزدحمة بالمدنيين ويأملون في اخراج قيادات حماس الي العراء أو دفعهم للنزول لشبكة الأنفاق التي بنوها تحت مدينة غزة وتصل الي إسرائيل شمالا والحدود المصرية جنوبا ويسمونها "المترو". وطبعا تخطط إسرائيل لاستخدام أحدث الأسلحة الأمريكية لتدمير أنفاق "مترو" حماس والقضاء على كل قيادات الحركة. ولن أناقش هنا احتمالات نجاح هذه المخططات العسكرية الإسرائيلية حيث فشلت الولاياتالمتحدة في تطبيق خطط عسكرية مماثلة في فيتنام وأفغانستان والعراق رغم الفارق الكبير بين حجم تلك الدول وحجم القطاع وإمكانية محاصرته عسكريا بعد أن قطعت إسرائيل عنه الكهرباء والمياه والغذاء في عقاب جماعي يجرمه القانون الدولي الإنساني واستنكره العالم الغربي عندما اتهم روسيا بتطبيقه لحصار أوكرانيا. وطبعا لن أناقش ازدواج المعايير الغربية في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وتلك التي يطبقونها على روسيا في أوكرانيا. إن خلاصة ما أريد هنا هو طرح سيناريو بديل لكارثة محققة إذا تم دفع الفلسطينيين عن طريق الأعمال العسكرية الإسرائيلية الي الجنوب نحو الحدود المصرية بحيث لا يبقي أمام مصر -إنسانيا- سوي توطينهم كلاجئين في سيناء، وهو أمر أعلنت الحكومة المصرية مرارا أنها لن تقبله وتحرمه كل القوانين الدولية. ولا يخفي على أحد أن إسرائيل تطالب منذ نصف قرن -على الأقل- أن تتحمل مصر مسئولية قطاع غزة وتتولي الأردن مسئولية الجزر المنعزلة التي لن تضمها إسرائيل من الضفة الغربية وبالتالي تنقطع الصلة بين الضفة والقدس والقطاع وينتهي للأبد حلم الدولة الفلسطينية علي حدود 1967. وقد كرست السياسات الإسرائيلية كلها تنفيذ هذا المخطط عن طريق نشر المستوطنات في الضفة والقدس وانتهاك وضع مدينة القدس العربية وحصار غزة وانتهاج سياسة التمييز والفصل العنصري تجاه العرب الفلسطينيين سواء في الأراضي المحتلة أو داخل إسرائيل. وأتت الحرب الراهنة لتوفر فرصة متاحة لتفريغ غزة المزدحمة حيث أنذرت الحكومة الإسرائيلية حوالي نصف سكان القطاع أو ما يقرب من مليون فلسطيني لإخلاء شمال القطاع والتوجه جنوبا خلال أربع وعشرين ساعه مما يدفعهم نحو الحدود مع سيناء غير المزدحمة بالسكان، وهي جريمة حرب إسرائيلية أخري لا يجب السكوت عليها. وتطرح مخاطر أمنية لا حصر لها ضد أمن واستقرار مصر وتنتقص من سيادتها وتزيد من الأعباء الاقتصادية التي ينوء بها كاهل مجتمعها ويهدد تماسكه واستقراره. ويستند اقتراحي البديل لهذا السيناريو الكارثي الي طرح محاولة لتحويل الحرب الراهنة الي مقدمة لاستئناف جهود ومفاوضات السلام الفلسطيني الإسرائيلي علي أساس المبادئ المتفق عليها بين الجانبين وتحظي بأكبر تأييد دولي، ألا وهي مبادلة علاقات سلام عربية إسرائيلية في مقابل انسحاب إسرائيلي الي حدود عام 1967 مع تعديلات طفيفة لتلك الحدود متفق عليها عن طريق مبادلة الأراضي الفلسطينية الحدودية في الضفة الغربية والتي تحتوي أكبر كثافة للمستوطنات الإسرائيلية وتمثل حوالي 20% من مساحة الضفة بدون القدس بمساحة متساوية من صحراء النقب الإسرائيلية التي تفصل (ويمكن أن تربط) بين غزة والقطاع واسرائيل. وهناك مقترحات وخرائط متعددة تم طرحها على موائد المفاوضات لمناطق صحراء النقب التي يمكن لإسرائيل التنازل عنها للفلسطينيين في إطار هذه المقايضة التي يجب أن تكون متكافئة ومتفق عليها بين الجانبين. وأري ان الحرب الراهنة في غزة توفر فرصة لبدء تطبيق مثل هذه المقايضة. وبدلا من دعوة الفلسطينيين الذين يعيشون في مدينة غزة للتوجه جنوبا يجب دعوة الراغبين منهم في تجنب ويلات الحرب للتوجه شرقا الي جزء من فلسطين التاريخية في صحراء النقب في غلاف قطاع غزة الشرقي والذي يخلو من كثافة المستوطنات الإسرائيلية المنتشرة في الضفة أو شمال القطاع مما يتيح للنازحين مساحة تقترب مساحتها من مساحة القطاع. ويمكن لمصر أن تقوم بدورها المعهود في كل الحروب الإسرائيلية مع غزة من استقبال المساعدات في مطار وميناء العريش ونقلها عبر معبر كرم أبو سالم (أو كريات شالوم بالعبرية) على حدود مصر وغزة وإسرائيل جنوب صحراء النقب حيث تفحصها السلطات الإسرائيلية للتأكد من خلوها من أية أسلحة أو ذخائر ويتم نقلها الي الفلسطينيين تحت الحصار الإسرائيلي في صحراء النقب وفي غزة على جانبي السور الذي يفصل غزة عن النقب والذي أنشأته إسرائيل بعد انسحابها عسكريا من القطاع عام 2005. وبالطبع يجب أن تعيد إسرائيل فتح المعبرين في شمال هذا السور اللذين أغلقتهما بعد الانسحاب. وسوف تمثل كل هذه الإجراءات ترتيبات مؤقتة للتعامل مع المتطلبات الإنسانية لعواقب الحرب علي المدنيين الفلسطينيين، ولكنها يمكن أن تمثل أساسا يمكن البناء عليه من خلال مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية التي يجب أن تدعو مصر لاستئنافها كجزء من مبادرتها التي اقترحها هنا. وكما حولت مصر حرب أكتوبر منذ خمسين عاما الي فاتحة لجهود السلام بينها وبين إسرائيل واتبعتها بقية الدول العربية لاحقا، يمكن لمصر اليوم تحويل حرب غزة الراهنة الي منصة لاطلاق مفاوضات للسلام ترعاها القوي الدولية وتساهم فيها كل الدول العربية الراغبة في تحقيق ذلك السلام. وفي مواجهة "حكومة الحرب" التي أعلنتها إسرائيل لتوحيد صفوف أحزابها وقواها السياسية، فإنني اقترح أن تستضيف مصر اجتماعا بين كل الفصائل الفلسطينية لتشكيل حكومة سلام وتضع حدا للانقسام الفلسطيني الذي طالما استخدمته إسرائيل لتبرير مماطلتها في التفاوض وفي تعطيل تنفيذ اتفاقات السلام. وبعد أن تعلن مصر هذه المبادرة وتحصل على التأييد العربي والإسرائيلي لها، يجب أن تدعو القوي الدولية وخاصة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لدعمها لكي يمكن للأمم المتحدة المساهمة في تنفيذها ومراقبته. تتمتع مصر بصلات طيبة بكل أطراف النزاع المباشرين وغير المباشرين. ولا شك أن موقعها الجغرافي وثقلها السياسي والاستراتيجي في المنطقة وتهديد الحرب الجارية للأمن القومي المصري ولاستقرار الشرق الأوسط كله تمثل مجتمعة عناصر ضغط عليها للتحرك السريع ومقومات تؤهلها لطرح هذه المبادرة. ويضاف لها أن كل الأطراف الإقليمية والدولية وخاصة الولاياتالمتحدة لابد وأن تخشي من عواقب تلك الحرب علي زيادة تمكين المتطرفين وإضعاف شوكة المعتدلين إقليميا. ويهدد تصعيد هذه الحرب وتوسيع نطاقها الي جر أطراف إقليمية ودولية أخري مثل حزب الله وإيران بل وروسيا ومن ثم تورط الولاياتالمتحدة ودول غربية أخري ويعرض عشرات الألوف من القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة للخطر مما يزيد من عواقب التصعيد ومن الرغبة في تجنبه. ولست طبعا في حاجة لشرح الاعتبارات والضغوط الداخلية والإقليمية على مصر التي تحتم التحرك لتجنب العواقب الكارثية علي مصر للغزو الإسرائيلي المقبل لقطاع غزة وما سوف ينجم عنه من مآس إنسانية علي الشعب الفلسطيني في القطاع الذي يحظى بتأييد وتعاطف غالبية المصريين رغم اختلاف مشاربهم السياسية.