كأوراق الدومينو تتساقط الحكومات الموالية لفرنسا في غرب ووسط إفريقيا الواحدة تلو الأخرى، في تطور ملحوظ يشي بتغيير سريع تتضح ملامحه يوما بعد يوم في مفردات وقواعد اللعبة بتلك المنطقة من العالم. فإعصار الانقلابات اجتاح تسع دول أفريقية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وكان أحدثها دولة الجابون وذلك بعد أقل من شهر على الإطاحة برئيس النيجر محمد بازوم. وأمام تلك الانقلابات رُفع سلاح العقوبات الدولية في محاولة للعودة إلى الديمقراطية، إلا أنه لم يأت بالنتائج المرجوة، وفقا لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية. وبينما رأت الصحيفة أن المزيد من الحكومات المنتخبة في المنطقة يواجه نفس السيناريو، حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن "جميع الرؤساء في أنحاء المنطقة على دراية بالمصير الذي ينتظرهم"، ما لم تستعاد الديمقراطية، ونسي الحديث عن السبيل لتحقيق ذلك، في ظل عجز عن التدخل لحل أزمة النيجر حتى الآن. من جهتها، وصفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية الانقلاب الذي أطاح برئيس الجابون علي بونجو بأنه "صفعة جديدة" للمصالح الفرنسية في أفريقيا، بعد سلسلة الانقلابات التي حدثت مؤخرا في مالي وبوركينافاسو والنيجر. وأشارت الصحيفة إلى أن الجابون، التي كانت مستعمرة فرنسية حتى عام 1960، ظلت تحت حكم بونجو وعائلته حليفا قويا لباريس، حتى مع "ضعف القبضة الفرنسية على مستعمرات سابقة". ونوهت الصحيفة بسيطرة شركات فرنسية على صناعة النفط في الجابون، مضيفة أن هناك قوة فرنسية قوامها 400 عسكري على الأقل متمركزون في الجابون، الكثير منهم في قاعدة في العاصمة ليبرفيل. وعقدت الصحيفة مقارنة بين ردود الفعل الدولية حيال ما حدث صباح الأربعاء في الجابون وما شهدته النيجر، فذكرت أن انقلاب الجابون قوبل بتنديد دولي فوري، إلا أنه "على عكس النيجر، التي هددت دول مجاورة بالتحرك عسكريا لإنهاء انقلاب الشهر الماضي فيها، لم يكن هناك اقتراح ل(استخدام) القوة". وذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية أن بونجو (64 عاما) تعرض لمحاولة انقلاب في عام 2019، عندما سيطرت مجموعة من العسكريين على محطة الإذاعة الحكومية، قائلين إنهم يريدون "استعادة الديمقراطية". وأوضحت الصحيفة أنه تم إخماد التمرد سريعا وأعدم اثنان من المشتبه في تخطيطهم له. وبعد ساعات من إعلان عسكريين السيطرة على السلطة في الجابون وإلغاء نتائج الانتخابات التي مهدت الطريق أمام بونجو لولاية ثالثة، ظهر الرجل في مقطع مصور يقول فيه إنه محتجز وطلب المساعدة من "جميع أصدقائنا حول العالم"، كما دعا الشعب الجابوني إلى إدانة الانقلاب وأن يرفعوا صوتهم بذلك. إلا أن المظاهرات التي خرجت في الشارع تأييدا لعزله، ربما برهنت على أن هناك سخطا على سياساته ورفضا لاستئثار طبقة معينة بثروات البلد العضو في منظمة أوبك وسابع أكبر الدول الأفريقية إنتاجا للنفط، وسط اتهامات لبونجو بالمحاباة والمحسوبية، علما بأن الرجل الذي تولى سدة الحكم في عام 2009 كان امتدادا لحكم والده الذي ظل في السلطة طيلة نحو أربعة عقود. وذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز أن الجابون تنتج حوالي 200 ألف برميل نفط يوميا، "ما يساعدها على أن تكون واحدة من أعلى دول أفريقيا على صعيد متوسط دخل الفرد، إلا أن ثرواتها لا توزع بالتساوي. فأكثر من ثلث سكان الجابون البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة يرزحون تحت خط الفقر ومحرمون من الخدمات الأساسية". وعززت صحيفة نيويورك تايمز هذا الطرح بنقلها عن البنك الدولي أن "حوالي 40% من الشعب (الجابوني) بين 15 و24 عاما عاطلون عن العمل". وبينما ركزت صحيفة واشنطن بوست على أن الجابون لم تعان من هجمات للمتشددين أو انعدام للأمن على نطاق واسع، كما هو الحال في معظم أنحاء غرب أفريقيا، إلا أن "قبضة الأسرة الحاكمة على السلطة تعرضت لضغوط خلال السنوات الأخيرة"، مشيرة إلى محاولة انقلاب عام 2019 بعد أشهر من إصابة بونجو بجلطة دماغية أبعدته عن الساحة لعدة أشهر. وبعيدا عن هذه الأسباب، يرى الكثير من المراقبين أنه لا يمكن فصل ما حدث في الجابون عن السياق أو الإطار الأشمل، مرجحين ضلوع روسيا متمثلة في مجموعة فاجنر العسكرية الخاصة فيه، معتبرين أن موسكو أحرزت هدفا جديدا في مرمى الغرب وأن المواجهة بين الجانبين لا تقتصر على ساحات المعارك في أوكرانيا، وإنما تتوسع رقعتها كل يوم في القارة السمراء. فالجابون وبونجو حافظا على علاقات اقتصادية ودبلوماسية وثيقة مع فرنسا، التي أدانت حكومتها الانقلاب العسكري وأكدت مجددا "رغبتها في احترام نتيجة الانتخابات". وألقت واشنطن بوست الضوء على التبعات الاقتصادية التي ربما تترتب على انقلاب الجابون، مستبعدة حدوث هزة في أسواق النفط العالمية حال تأثر إنتاجها نظرا لأنها "منتج صغير نسبيا". وأشارت الصحيفة إلى أن الأهم هو دور هذا البلد في إنتاج المنجنيز الذي يستخدم في صناعة أقوى أنواع الصلب. وأضافت أن النيجر هي ثاني أكبر منتج لليورانيوم في أفريقيا وتصدر معظم إنتاجها لفرنسا، وفقا للرابطة النووية الدولية. ورصدت الصحيفة في الوقت نفسه أن معظم الدول التي شهدت انقلابات عسكرية في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، لم تتأثر فيها عمليات التعدين على الرغم من التغيير في السلطة. وفي ظل خروج العديد من الدول الأفريقية مؤخرا من العباءة الفرنسية مع تولي أنظمة عسكرية مناوئة لها السلطة فيها، وتمسك باريس بمناطق نفوذها في القارة وإصرارها على عدم السماح بأن يحل الوجود الروسي بديلا لهذا النفوذ، يخشى مراقبون من أن تتحول القارة السمراء خلال الفترة المقبلة إلى ساحة كبيرة لحرب بالوكالة بين أقطاب عالمية.