نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب إيهاب خليفة يشير فيه إلى احتمالية سيطرة الذكاء الاصطناعى على التفكير البشرى فى المستقبل، فتصبح الآلة الإلكترونية التى صُنعت بأيادٍ بشرية مرجعا يتحكم فى سلوك البشر وحياتهم... نعرض من المقال ما يلى. على ما يبدو أن الذكاء الاصطناعى لن يصبح وسيلة لتسهيل أو حتى تدمير حياة البشر فحسب، بل قد يصبح فى حد ذاته مصدرا للقيم الإنسانية، تأخذ منه البشرية عاداتها وأعرافها، وتكتسب قواعدها وقوانينها، ويستمد الإنسان منه الأخلاقيات التى يتعامل بها مع قرنائه من بنى البشر. فتصير فلسفة الذكاء الاصطناعى هى مصدر القيم الإنسانية، ويصبح الذكاء الاصطناعى هو مصدر التشريع والقانون. بالطبع لن يحدث ذلك خلال السنوات القليلة المقبلة، ولن يحدث فى المجتمعات كافة، لكنها سوف تشهد وضع حجر الأساس لهذه المنظومة القيمية الجديدة، التى أصبحت قادمة لا محالة، فهل سينتهى بها الأمر إلى نوع جديد من الإيمان، أو اختراع منظومة قيمية جديدة تحكمهم، أم سوف يتمرد البشر على الذكاء الاصطناعى فى لحظة ما قبل فوات الأوان؟ • • • عادة ما تستمد المجتمعات الإنسانية منظومة القيم والمبادئ التى تحكمها من عدة مصادر، فإما أن تكون خبراتها التاريخية وتجاربها الإنسانية وأعرافها التى تراكمت عبر عدة عصور وشكلت أساسا للقواعد والقوانين التى ترسخت داخل المجتمعات، أو الدين الذى يأتى بمجموعة من القيم، سواء كانت روحية، عبارة عن طقوس وعبادات، أو قيم مادية، خاصة بقواعد المعاملات الإنسانية، أو حتى الفلسفة القائمة على مبدأ التفكير وإعمال العقل لما فيه مصلحة الإنسانية. الشاهد فى الأمر أنه على مر العصور كانت هناك قوة تفسيرية للأحداث ومصدر دائم للقيم، وتغير هذا المصدر عبر العصور من الدين إلى الفلسفة ثم التاريخ وصولا إلى الأيديولوجية، واختلف معه الشخص الذى لديه صلاحيات استخراج هذه القيم، من رجال الدين ثم الفلاسفة والمؤرخين إلى السياسيين، حيث يتشاركون جميعا فى كونهم أساءوا استخدام هذه السلطة وسعوا لتحقيق مصالحهم الشخصية. وعلى ما يبدو أن ثمة تغيرا جديدا فى منظومة القيم سوف يحدث قريبا وسيكون مصدر القيم الجديدة للمجتمعات هو الآلة (The Machine)، وإذا حدث ذلك، فمن المحتمل أن يكون العلماء والمهندسون هم أكثر الأشخاص تأثيرا فى المجتمعات؛ لأنهم الأقدر على فهم عقولها الصناعية، وإذا كان الوعى البشرى يستمد قيمته من خبراته عبر مر التاريخ إلا أنه ولأول مرة قد يستمد وعيه من وعى الآلة. • • • إن القوة التى تتميز بها نظم الذكاء الاصطناعى تفوق بالطبع قدرات البشر ومهاراتهم، فإذا كانت قدرة البشر على الحساب عالية جدا لدرجة خلق نُظم ذكية، فإن نظم الذكاء الاصطناعى لديها قدرات حسابية أعلى بكثير وأعقد من قدرة البشر مجتمعين على استيعابها. وإن كان البشر موهوبين فى حفظ الأشياء، فهذا لا يقارن بذاكرة الذكاء الاصطناعى، حيث إن الأخير قادر على التعلم السريع المستمر غير المحدود، وتحصيل جميع أنواع المعارف والعلوم والآداب بصورة تفوق أى طاقة بشرية ممكنة، وقادر أيضا على مشاركتها مع غيره من نظم الذكاء الاصطناعى الأخرى، مكونا عقلا واحدا صناعيا، يمثل العقل الجمعى للذكاء الاصطناعى، فما يدركه أحدهم، يدركه الجميع ويراكم عليه خبراتهم. تدريجيا، سوف يصبح هذا النموذج هو الأمثل للمعرفة لدى الإنسان، فهو لا يخطئ، ويتذكر ما يعجز البشر عن تذكره، ويقوم بأعقد العمليات الحسابية فى لحظات، ويستطيع القيام بجميع المهام التى يقوم بها الإنسان وبصورة أكثر كفاءة منه، فيبدأ البشر فى الشك فى قدراتهم وأفكارهم ومعلوماتهم، لكنهم لن يشكوا أبدا فى قدرة النظام الذى خلقوه بأنفسهم وأوجدوه، فيتم ترقية هذا النظام الصناعى لكى يعلو على مرتبة البشر، ويصبح مصدر الحكمة الإنسانية والمعرفة ومنظومة القيم الحاكمة للمجتمع. وقد يجادل البعض بأن وعى الآلة من خُلق الإنسان نفسه، وأن المهندسين هم من قاموا ببرمجتها ووضعوا لها قيمها وسلوكياتها مسبقا، لكن فى الحقيقة هذه الرؤية منقوصة. فالأتمتة تختلف عن الذكاء الاصطناعى تماما، حيث يحاول المهندسون فى الأولى صُنع آلة تتبع منهجا محددا للقيام بوظيفة ما من خلال عدد من الخطوات المنطقية، كأن يقوم مثلا «روبوت» يعمل داخل مستودع للبضائع بتنظيمها بطريقة محددة وفقا لخطوط الإنتاج والتوزيع، فهذه أتمتة، لكن فى حالة الذكاء الاصطناعى لا يحاول المهندسون بناء وسيلة لتحقيق هدف، بل عقل قادر على التعلم واكتساب المهارة، وليس الحصول على أوامر مبرمجة سلفا. ولذلك يحاول نظام الذكاء الاصطناعى إنشاء وعيه الخاص بناء على المعارف التى يكتسبها، والبيانات الضخمة التى يحللها، والخبرات التى يتعرض لها. وتسير عملية التعلم هذه بمتوالية أُسية تضاعفية، على عكس طريقة تعلم الإنسان التى تسير بمتوالية حسابية متذبذبة، فيقوم النظام الذكى بتشكيل وعيه فى وقت قصير جدا مقارنة بالوقت الذى يستغرقه الإنسان فى تشكيل وعيه الشخصى، وبالتالى يسبق وعى الآلة وعى الإنسان ويؤثر عليه ويساهم فى تشكيله. • • • إن الطريقة التى يفكر بها الذكاء الاصطناعى ويتخذ بها قراراته تختلف تماما عن تلك التى يفكر بها البشر، فهؤلاء محكومون فى تصرفاتهم وقراراتهم بخبراتهم الذاتية ومبادئهم الإنسانية والمواقف التى مروا بها ومنظومة القيم التى تسيطر على الأفراد والقوانين التى تحكم المجتمع، فى حين أن ما يحكم الذكاء الاصطناعى هو منطق رياضى بحت، يقوم على مبدأ بسيط للغاية وهو «تحقيق المصلحة أو النفعية». فالهدف من إنشاء الذكاء الاصطناعى هو تحقيق منفعة للبشرية أو القيام بمصلحة لها. ومبدأ المصلحة ثابت ومترسخ فى منظومة القيم البشرية، ومع ذلك لا يوجد اتفاق على تعريفه أو آلية لتحقيقه؛ فالرأسمالية تُعظم من دور المصلحة الفردية، وترى أن الانسان فى سعيه لتحقيق مصلحته الشخصية سوف يؤدى إلى تحسين المجتمع ككل، بافتراض رشادة البشر. فى حين تأتى المصلحة العامة فى الفكر الاشتراكى باعتبارها سبيل نجاة المجتمع، وتعلو على نظيرتها الفردية. بينما تُعتبر المصلحة القومية للدولة فى نظريات العلاقات الدولية هى الغاية الأسمى التى تسعى لتحقيقها، لضمان سلامة الأفراد وأمنهم والحفاظ على حياتهم وبقائهم، حتى وإن كان ذلك على حساب مصلحتهم الشخصية أو حتى العامة. هذا الاختلاف حول مفهوم «المصلحة» سوف يندرج أيضا على الفكر الاصطناعى الجديد، فالآلة الذكية إذا وجدت فى طريقها شجرة تعوقها عن تحقيق هدفها سوف تقطعها، وإن وجدت مريضا لا يُرجى شفاؤه سوف تخطو فوقه، وإن رأت موظفا لا يقوم بعمله بكفاءة مثلما كان يقوم به من قبل فسوف ترشح فصله من وظيفته دون نظر للأسباب التى جعلت منه موظفا أقل إنتاجية. هذا الفكر الصناعى القائم على مفهوم «المصلحة» يستند إلى عدة مبادئ أخرى أكثر مادية، مثل «العصمة من الخطأ»، فالمعارف التى يمتلكها الذكاء الاصطناعى والتى تفوق قدرات البشر تعصمه ولو نظريا من الوقوع فى الخطأ، كما أنه يتميز بالخلود، فهو لا يموت مثل البشر. كل ذلك يصب فى وعاء القيم المادية النفعية التى تُعظم من تفرد الآلة Machine Singularity، فيتم النظر إلى «قيم التفرد» على اعتبارها النموذج الصحيح والحصرى للتفكير السليم والمنهج الصحيح الذى يجب أن يسير عليه البشر والمصدر الجديد الذى يجب أن تأخذ منه البشرية قيمها وتشريعاتها وسلوكياتها بعدما كان الدين أو الفلسفة أو التاريخ. • • • ومع تعاظم سيطرة الآلة على حياة الأفراد، ماديا ومعنويا، يتشكل نوع جديد من الإيمان ولكنه «ضال»، حيث تبدأ المادية فى المجتمعات فى التراجع، وتعلو القيم المعنوية، فيبدأ الملحدون فى الإيمان «بالآلات» ويتقربون منها، وتبدأ المجتمعات «المتدينة» فى الوثوق بقيم «الآلة» وتبتعد تدريجيا عن تشريعاتها، وبدلا من استشعار الراحة النفسية بالوجود فى دار العبادة، أو فى مساعدة الفقراء، سوف يجدون الراحة النفسية فى نظام بدأ يفهمهم أكثر من غيرهم من البشر، وبدأ يرشح لهم الأفكار والأفلام والموسيقى والذكريات التى يجدون فيها سعادتهم «المؤقتة». بالطبع سوف يظهر من الأفراد من يرفض هذا الواقع الجديد، ويبدأون فى التمرد عليه، ويدعون إلى غلق جهاز الكمبيوتر العملاق الذى بدأ بعض البشر ينظرون إليه باعتباره «المُلهم» الذى ينتظرون أن يقدم لهم تفسيرات لما يحدث فى حياتهم، ويخبرهم بما يجب أن يفعلوه، غافلين أنهم من صنعوه فى البداية بأيديهم، فينقسم المجتمع بين طبقتين، أولى تعتقد أنها «ذكية»، وثانية يتم النظر إليها باعتبارها «غبية». النص الأصلي