فى اجتماع مجلس حقوق الإنسان حول جرائم نجع حمادى وقنا، جلست أتطلع وأستمع.. وجدت الزمن يعود بى إلى «لجنة العطيفى» التى انعقدت بعد أحداث الخانكة وسمعت فيها تقريبا نفس الأقوال.. وبين الخانكة ونجع حمادى ثمانية وثلاثون عاما، ومائة وعشرون جريمة بين اعتداءات وقتل وتخريب وحرق منازل ومنشآت والاعتداء على أديرة ورجال دين... إلخ. جاءت كلها تعبيرا مؤلما عن حالة من التوتر الطائفى ظلت تتزايد وتعكس صراعا له دوافع من التعصب الدينى والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد. استمعت فى اجتماع الأمس إلى ما قيل منذ سنوات. نفس الاقتراحات والتصريحات وأصبح السؤال: ماذا فعلنا طوال هذه المدة وهل هناك اختلاف بين الأمس واليوم؟ ****** عقب أحداث الخانكة جاء الوزير المسئول إلى مجلس الشعب ليؤكد أنه «مجرد مشاجرة بين سيدتين تتعلق بنشر الغسيل!!». ثم دأبنا نطلق على هذه الجرائم أسماء متباينة أقل قبحا من حقيقتها فهى «أحداث مؤسفة» أو صراع على أرض يمكن أن يقوم بين أبناء العقيدة الواحدة، أو أن الجانى مختل عقليا، أو دافعه الثأر أو أنها جريمة جنائية (وهو وصف لا أفهمه.. كل الجرائم جنائية لا يوجد «جريمة جنائية» و«جريمة مشروعة» أو «جريمة محبة»!). ولعل ذلك كان رد فعل نفسى يقوم على إنكار الحقيقة بسبب قبحها، ويرفض الاعتراف أن مجتمعنا أصابه مرض التعصب والكراهية بعد أن كنا مثلا للتعايش والتكافل. فهل جريمة نجع حمادى مجرد جريمة أخرى جديدة سوف نتعامل معها كما سبق؟ وهل هناك مفاهيم اتضحت وأخرى تستحق الاهتمام والتصحيح؟ ****** هذه المرة لم نسارع إلى إطلاق أسماء أخرى على جريمة بشعة بكل المقاييس وظهر رأى عام قوى يرفض الجريمة ويعترف أنها جريمة «طائفية». فالشهداء قتلوا لا لسبب سوى أنهم مسيحيون ولم نسرع إلى عقد صلح بين أطراف غير متكافئة لينتهى الأمر دون محاسبة ومحاكمة وعقاب سريع رادع وعقدت جلسة المحاكمة دون تأخير. إن إطلاق الوصف الصحيح على الجريمة يعد تصحيحا لمفهوم خاطئ استمر طويلا فما هى بعض المفاهيم الأخرى التى تحتاج تصويبا. حاول البعض تخفيف قبح الجريمة بالقول بأن المتهم لا ينتمى إلى جماعات دينية متطرفة.. وله سوابق جنائية لكن ذلك يجعل الأمر أسوأ إذ يعنى أن هذا السلوك المنحرف لم يعد حكرا على جماعات متطرفة بل سلوك أفراد المجتمع.. وهذا مكمن الخطر. ارتكب البعض عن قصد أو بحسن نية خطأ جسيما بتحويل القضية عن حقيقتها التى علينا أن نواجهها ونركز عليها كفتنة طائفية، وجعلوها احتقانا بين أبناء الدين الواحد. إن المشكلة ليست كفاءة المحافظ أو علاقاته بالمطارنة أو رضاء المسيحيين عن قراراته فهذه قضية ثانوية اختلفت فيها الآراء يمكن تأجيلها. إن خلط الأوراق أدى إلى أن عددا من الأفراد والفضائيات بدءوا يناقشون هذا الأمر الفرعى تجاهلا للقضية الأساسية. أخطأ البعض بالإشارة إلى «الثأر فى مجتمع القبائل». مصر ليست مجتمع قبائل. مصر كانت وظلت مجتمعا زراعيا، ريفيا، هيدروليكيا، يقوم على نهر النيل الذى يربط الوادى كله معا ويربط بين أبنائه جميعا.. كل ما يؤثر فى أى جزء منه يؤثر فيه كله. إننا شعب يحب الاستقرار والأمان والارتباط بالمكان. لم نكن أبدا مجتمع جفاف لقبائل بدو رُحل، تجوب الأرض بحثا عن الحياة والموارد، وتعيش فى صراع التنافس والبقاء مع غيرها من القبائل. لقد نزحت بعض القبائل العربية إلى مصر مع الفتح العربى، حسب ما يبين لطفى السيد فى كتابه «القبائل العربية فى مصر» لكنها لم تغير طبيعة المجتمع المصرى. ترددت مقولة «الخطأ من الطرفين» و«العنف من الجانبين» فى تجاهل تام لمبدأ الفعل ورد الفعل. أذكر دراسة حول «سيكولوجية الأقليات» شرح فيها الأستاذ أنواع الأقليات العرقية الاثنية الدينية العددية.. إلخ مبينا أن الأقليات العددية لا تبادر أبدا بالصدام لأنها تعلم أنها محكومة بحجمها الأقل.. لكن إذا تزايد الضغط عليها فإنها عندئذ سيكون دفاعها قويا. هذه حقيقة حذرنا منها وما كنا نريد الوصول ليوم تنتقل فيه عدوى الرفض أو العداء إلى الجانب الآخر. واليوم فإن كل ما يخفف وطأة التمييز وأضراره سوف يكون عاملا لتخفيف رد الفعل المضاد أن تصحيح الفعل هو الوسيلة الوحيدة لتخفيف رد الفعل. لا يجوز أن يقال إن هذه الجريمة «مسألة داخلية» ليس لأحد التدخل فيها، فلم يعد فى عالم اليوم ما يعتبر «شأنا داخليا». عندما داهمت دبابات الجيش الشيوعى الصينى الشباب المطالب بالحرية والديمقراطية هبَّ العالم كله. أحداث 11 سبتمبر لم تعتبر شأنا داخليا. ولا أزمة دبى المالية، وعندما نرصد الانتخابات واختيار القيادات فى الدول الأخرى التى تؤثر فى سياستنا لا نقول أنه شأن داخلى، وعندما ظهرت نتيجة الاستفتاء بشأن عدم بناء المآذن فى سويسرا هبَّت كل الدول الإسلامية تناقش وتدافع عن المآذن رغم أن المسلمين فى سويسرا طلبوا تركهم يتعاملون مع هذا الموضوع بالأساليب القانونية الخاصة بهم. عندما قتلت الشهيدة مروة تألمنا جميعا وأرسلنا محامين للتأكد من عدالة المحاكمة. فكيف حادث «نجع حمادى» الذى راح ضحيته 7 شباب مصريين خلاف المصابين، يعتبره المسئولون شأنا داخليا ويرفضون تعليقات من الخارج!؟ من الخطأ أيضا بل من الخطر الإشارة إلى «الاستقواء بالخارج» وإدانة كل «أقباط المهجر» بسبب الأسلوب غير اللائق الذى عبر به قلة منهم عن غضبهم وثورتهم على تكرار هذه الحوادث.. إن أغلب جماعات «المصرين» فى الخارج ملتزمة متزنة تجمع مصريين مسيحيين ومسلمين، كلهم حريصون على أمن مصر واستقرارها ولهم نفس المطالب التى نطالب بها فى مصر. إن الخطر هو الاستقواء من الجماعات المتطرفة التى تمد أعوانها داخل الوطن بالمال والسلاح من أجل التخريب وقلب نظام الحكم. هؤلاء هم مصدر الخطر والأولى بالمواجهة والنقد. بسبب هذه الجرائم هناك إحساس متزايد لدى المسيحيين أن الإسلام يرفضهم ويعتبرهم «كفرة مشركين» وأن المسلمين بصفة عامة يكنون لهم الكراهية التى يعبرون عنها بالاعتداءات المتكررة. وهذا غير صحيح فالإسلام يكرم المسيحية والمسيحيين ويضع السيد المسيح والعذراء مريم فى مكانة خاصة ورسول الإسلام أوصى بأهل الذمة وعلى الأخص بأقباط مصر. إن مسئولية المدرسين ورجال الدين الإسلامى والمسيحى تأكيد هذه الحقيقة. هنا يكون استثمار الآيات لدعم المواطنة وغرس السلام صحيحا، مثل آيات قرآنية تدعو لحسن معاملة المسيحيين. صحيح أنه من الصعب غرس مبدأ «أنت تقتلنى ومع ذلك أحبك» لكن هذا هو جوهر المسيحية التى تقول «أحسنوا إلى الذين يسيئون إليكم»، و«لا تقهروا الشر بالشر بل اقهروا الشر بالخير» فهل من بين القساوسة باستثناء البابا من يقوم بتهدئة النفوس بهذه الآيات؟ ***** إن جرائم قنا ليست مجرد اعتداءات جديدة فى سلسلة يمكن أن تستمر. لم يعد الوقت يتسع لبطولات زائفة أو فرقعات إعلامية أو التمسك بطقوس الأديان دون جوهرها.. إننا نعيش نقطة تحول سوف تحدد مسار مستقبل مصر. أصبحنا فى مسيس الحاجة إلى سياسات عادلة، وقرارات حازمة، ومواقف رادعة وتصحيح مفاهيم خاطئة، ظلت تبث فى المجتمع ثقافة الفرقة والتباعد، أصبح تصحيحها واجبا وطنيا يتعلق بالأمن القومى والسلام الاجتماعي والتنمية، حفظ الله مصر.