أوضحت الأحداث الأخيرة أن نخب أمريكا السياسية والاقتصادية والعلمية تسىء الحكم على الصين إلى حد بعيد، ولذلك تضاعفت الخلافات مع الصين. ولنأخذ فى اعتبارنا: تخفيض قيمة العملة الصينية الأساسية (الرينمنبى) وتأثيره على التجارة وتعطل مفاوضات الانبعاث الحرارى العالمى فى كوبنهاجن، والتأييد الصينى الضعيف للجهود الساعية إلى منع إيران من حيازة الأسلحة النووية، وكذلك سجلها السيئ فى حث كوريا الشمالية على التخلى عن ترسانتها النووية المتواضعة، وبيع الأسلحة الأمريكية لتايوان، وتهديد جوجل بمغادرة الصين بدلا من تغاضيها عن الرقابة المستمرة. تنظر الولاياتالمتحدة والصين إلى العالم من منظورين مختلفين كل الاختلاف. وكان الدرس الذى خرج به الأمريكيون من الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية هو أن الانعزالية هزيمة ذاتية. وقد جرى تجربتها بعد الحرب الأولى، وثبت فشلها. وكان على الولاياتالمتحدة المشاركة فى الخارج لحماية اقتصادها وأمنها الطبيعى. وظلت هذه الأفكار المبرر الأساسى للالتزامات العسكرية الخارجية وتشجيع الاقتصاد العالمى المفتوح. فالمطلوب هو الاستقرار، وليس إقامة إمبراطورية. تتوق الصين كذلك إلى الاستقرار. لكن التاريخ والمنظور مختلفان، كما يبين مارتين جاك فى كتابه الرائع «عندما تحكم الصين العالم». وبدءا من حرب الأفيون الأولى (1839-1842) عندما أصرت إنجلترا على استيراد الأفيون من الهند قاست الصين سلسلة من الهزائم العسكرية والمعاهدات المهينة التى تمنح إنجلترا وفرنسا وغيرها من الدول مزايا تجارية وسياسية. وفى القرن العشرين، جرى بلقنة الصين من خلال الحرب الأهلية والغزو اليابانى. ولم تتمتع الصين بحكومة وطنية موحدة إلا بعد انتصار الشيوعيين فى الحرب الأهلية فى 1949. وكان لتلك التجارب ميراثها: الخوف من الفوضى والاستغلال الأجنبى. ومنذ عام 1978، تضاعف الاقتصاد الصينى نحو 10 مرات. وكان الافتراض الأمريكى السائد هو بما أن الصين أصبحت أكثر ثراء، فلابد أن تتلاقى مصالحها وقيمها مع المصالح والقيم الأمريكية. إذ ستعتمد الصين بصورة متزايدة على ازدهار الاقتصاد العالمى. ومن شأن الأسواق المحلية الأكثر تحررا تخفيف قبضة الحزب الشيوعى، وليست الولاياتالمتحدة والصين على اتفاق دائما، لكن الخلافات بينهما يمكن حلها. لكن الأمور لا تسير على هذا النحو. فالصين الأكثر ثراء أصبحت أكثر حزما، كما يلاحظ جاك. وعانت هيبة الولاياتالمتحدة من المزيد نتيجة للأزمة المالية التى نبعت من الولاياتالمتحدة. لكن الفجوة تزداد عمقا: فالصين لا تقبل بشرعية النظام العالمى لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تستصوب هذا النظام الذى يقضى بالمسئولية الجماعية بين القوى العظمى (بقيادة الولاياتالمتحدة) عن الاستقرار الاقتصادى والسلم. وتعكس السياسات الصينية مفهوما مختلفا: الصين أولا. وعلى عكس انعزالية حركة أمريكا أولا فى ثلاثينيات القرن العشرين، لا تعنى مقولة الصين أولا فك الارتباط بالعالم. بل تعنى الارتباط بالعالم وفق شروط الصين. فالصين تقبل بالنظام القائم وتدعمه عندما يخدم احتياجاتها، مثلما كان الحال عندما انضمت لمنظمة التجارة العالمية فى عام 2001. وإلا فهى تلعب وفق قواعدها ومعاييرها الخاصة. ويتضح انحياز السياسة التجارية بصورة واضحة عندما تتعرض لاثنتين من المسائل الحاسمة: زيادة قوة العمل وندرة السلع. ويهدف تخفيض قيمة العملة الصينية إلى المساعدة فى توفير 20 مليون فرصة عمل أو أكثر سنويا، كما يشير جاك. والصين تجوب العالم بحثا عن الاستثمار فى المواد الخام الآمنة، وخاصة البترول. ولم يكن الهدف من «الإصلاح الاقتصادى»، كما يقول جاك، «التغريب على الإطلاق» وإنما «الرغبة فى استعادة شرعية الحزب [الشيوعى]». وتعكس معظم الخلافات الأمريكية الصينية عدم استعداد الصين للمخاطرة بالأهداف الداخلية من أجل غايات دولية. فهى لا تلتزم بتقليل غازات الانبعاث الحرارى، لأن هذا يمكن أن يحد من نموها الاقتصادى وكذلك من فرص العمل. وبالنسبة لإيران، تهتم الصين بالاستثمارات البترولية أكثر من مخاوفها من القنابل النووية الإيرانية. وهي، بالمثل، قلقة من أن يدفع عدم الاستقرار فى كوريا الشمالية بأفواج المهاجرين لعبور حدودها. ولأن الصين تعتبر تايوان جزءا منها، فقد أصبحت مبيعات السلاح الأمريكية لها تدخلا فى الشئون الداخلية. والرقابة مطلوبة للاحتفاظ بسيطرة الحزب الواحد على شئون البلاد. وتهدد نظرة الصين للعالم المصالح الجيوبوليتيكية والاقتصادية لأمريكا. وفى وقت قريب جدا، كتبت 19 جمعية تجارية أمريكية إلى إدارة الرئيس أوباما محذرةً من أن القواعد الصينية الجديدة ل«الابتكار الأصيل» يمكن أن «تبعد مجموعة كبيرة من المؤسسات الأمريكية» من السوق الصينية أو تضطرها إلى الاستعانة بتقنيات متقدمة. (تشير صحيفة التلجراف إلى استياء المؤسسات البريطانية الشديد من «الحمائية الطاغية» لدرجة أن البعض قد يغادر الصين). سوف تقع مأساة إذا بدأ كل من هاتين القوتين العظميين النظر إلى الأخرى كخصم. لكن هذا هو الاتجاه على ما يبدو. فالصينيون ورثة 2000 عام من التقاليد الثقافية، ومواطنو أكبر دولة فى العالم- يشعرون فى داخلهم بالتفوق، كما يشير جاك. والأمريكيون كذلك لديهم الشعور بالتفوق، ويعتقدون بأن قيمنا الإيمان بالحرية والفردية والديمقراطية تعكس التطلعات العالمية. ويبدو أن الصراعات الأكبر وتصادم الغرور الوطنى أمر محتوم. ولا يجب أن نقف مكتوفى الأيدى بينما تعرض سياسات الصين التجارية والنقدية فرص العمل للخطر. فالخلافات السياسية بين البلدين تزداد صعوبة بحيث لا يمكن تجاهلها. لكن نظرا لقوة الصين المتزايدة وحالة الهشاشة التى يعانيها الاقتصاد العالمى فإن المواجهة ليست فى مصلحة أحد. ولن تقودنا إساءة التقدير إلا إلى طريق مسدود. Washington post writers group