بلغ العبقرى صلاح جاهين أعلى درجات الإنسانية فى أشعاره وأغانيه التى لا يضاهى جمال كلماتها ومعانيها، إلا جمال روحه وحيويتها وبراءتها وحبها للحياة، فلم تجد بنات مصر ما يعبر عن ملامح شخصيتهن فى السبعينيات أجمل ولا أصدق مما غنته فرقة المصريين التى نهنئها بالعود الحميد إلى ممارسة الفن الراقى من جديد. ولقد كنت أتساءل باستمرار كيف استطاع هذا العظيم أن يصوغ مشاعر ثورة البنت المصرية على الأفكار التقليدية التى صاغتها التقاليد البالية عن بنات هذا البلد، فى أغنيته البالغة العمق والمرح والجدية (بنات كتير)، وتقول: «بنات كتير كده من سنى... بيغيروا منى... وبيحسدونى مع إنى موش أحلى منهم بصراحة...لا عندى لبس آخر موضة ولا فى الأوضة صورة لنجم عنيه سودة ورموشه ساحرة وجرّاحة... ولا فى كلامى باتصنع ولا باتدلع ولا عمرى أوعد وأطمع ولا أدّى آدم تفاحة..!! أصل الحقيقة من صغرى جد ودوغرى، وان حد قالى كلام مغرى أطير بقلبى سواحة..!! وأهرب من النظرة إن طالت، وإن عينى مالت أبص للبعد التالت ألاقى فيه كل الراحة..!!! موش معنى كده موش طبيعية ولا رجعية بصراحة قوى متوعية ما أنا أمى أصلها فلاحة..!!» حيث تتباهى الفتاة المصرية بقوة شخصيتها ووعيها الكبير وتترفع عن ممارسة كيد النساء، الذى كانت المرأة المصرية تلجأ إليه أيام كان دور المرأة أن تكون تابعة لرجال أسرتها وعالة عليهم، تخشاهم فى العلن وتحاربهم فى السر، فتظهر لهم الخضوع الذى يرضيهم وتبطن التمرد والإنكار. وبعد أن تكتسب البنات قوة الشخصية النابعة من عمق الوعى المستند إلى التعليم والمعرفة تصبح سندا لرجال أسرتها ابتداء من الأب كان الذى لا يرجو من الله إلا أن يمد فى عمره حتى يستر بناته فى زمن (يا مخلف البنات يا مخلف الهم للممات)، وانتهاء بالزوج الذى تقف معه كتفا بكتف لمواجهة هموم الحياة ومشكلات الحياة اليومية بدلا من أن ترتبط به بثقافة «خديه بالنهار أجير وبالليل خفير»، وهى نظرة انتهازية كانت ترد بها النساء للمجتمع الصاع صاعين مستفيدة من أوضاع ضعفها الاجتماعى لتحوله إلى قوة باطشة بالرجال، الذين لم يكونوا قد أدركوا أن المفهوم السائد للرجولة يكلفهم منفردين المشقة والكد طول الحياة لإعالة النساء واحتمال توتراتهم المفتعلة ودلعهم «الماسخ» بالدعوى الزائفة التى تقول إن المرأة هشة عاطفية ورقيقة عصبية..إلخ، إلى أن كشفت لنا إحصاءات الصحة العلاقة بين انتشار أمراض الضغط والسكر بين الرجال بنسبة أعلى من النساء اللاتى يماثلونهم فى المرحلة العمرية، ومع ذلك ظل المجتمع يدفع رجاله إلى الموت المبكر، حفاظا على مكانتهم فى الأعلى، وبقيت النساء يبذلن طاقتهن فى تطوير أسلحة التآمر، ويهربن من الثورة غير المضمونة النتائج، بل والتى قد تدفع ثمنها عقابا ونفيا من الرضا الاجتماعى. وعندما جربت بنات مصر الثورة من أجل استقلال الوطن وحريته فى 1919، صفق المجتمع كله لبناته اللاتى تصدرت مظاهراتهن نساء الصفوة الاجتماعية بقيادة السيدة هدى شعراوى. وكان «استدعاء» النساء للتضحية بالروح شائعا فى الخطاب السياسى وقتها.. فلما تشجعت البنات بعد نجاحها فى الجهاد الأكبر على المطالبة ببعض الحقوق الطبيعية، أفاق المجتمع من نشوة فرحته «بخروج» بناته، وبرزت حصون الرجعية من مكمنها «لتطرد» جيش البنات الذى تم «تسريحه». ولكن أقلية منهن أصرت على استكمال رحلة الكفاح فى التعليم والعمل. وقد سجل التاريخ أن ما نجحت البنات فى تحقيقه قد فاق خيال الرجعيين. فقد قادت لطيفة النادى طائرتها عام 1931 باقتدارأهّلَها لتقوم بتعليم أجيال من الطيارين الرجال الذين ظلوا يذكرون لرائدتهم الفضل فى نبوغ الطيار المصرى الرجل، واقتحمت المرأة مجالات الطب والتعليم والصحافة فكانت مدرسة روزاليوسف فى الصحافة معمل تخريج كبار الإعلاميين، واستقبلت الأديبة المثقفة مى زيادة كبار المثقفين والكتاب فى صالونها الشهير، وقرضت ملك حفنى ناصف أشعارا تطالب بالمساواة تحت اسم باحثة البادية. ومع ذلك بقى المجتمع يرى فى المرأة الفاعلة الذكية حالة استثنائية لا يجب تعميمها، ولكى لا تفرح الفتيات بما أفاء الله عليهن به من نبوغ، ألصق المجتمع بكل من تخالفه الرأى وتصر على النجاح تهمة «الاسترجال». وعندما غنت الجميلة شادية فى مطلع الخمسينات أغنيتها الشهيرة: «يا بنت بلدى زعيمنا قال قومى وجاهدى ويا الرجال» قامت جموع فتيات مصر ونساءها وقد نفضن عن أنفسهن الكسل والضعف واندفعن يحققن انتصارات واضحة فى مجالات التعليم والعمل، وقد أدرك الكل أن التنمية الاجتماعية لا تتحقق بنصف مجتمع وإنما باحتشاد الناس كلهم. فتحولت أحلام قاسم أمين بتحرير المرأة إلى واقع معيش، وانطلقت جيوش الفتيات إلى المدارس والجامعات، ومارسن النجاح فى معظم ما كان يقتصر على الرجال من المهن. وكنا نظن أن ما أنجزته النساء قد حسم النقاش الدائر حول إمكانات المرأة ودورها المنتج فى البيت والمهنة، إلا أن الأمر بدا وكأن التاريخ لا يتجه إلى الأمام، وإنما هو يسير فى بلادنا فى خط دائرى، ليبدأ من القرون الغابرة ويهدر من طاقة المجتمع ما ادخرته نساؤه له من رصيد ثقافى ومهنى وإنسانى. ليعود المجتمع من جديد فيمارس على فتياته قانونه العتيد «الاستدعاء ثم الطرد». وبدلا من البحث فى أصل المشكلات التى يواجهها المجتمع بسبب انتشار الفساد، وتآكل الطبقة الوسطى، وانعدام العدالة الاجتماعية، يستسهل البعض هتاف «الطرد»: «على النساء أن يخلين ساحة العمل المأجور ليحتلها الرجال فهن السبب فى تفاقم البطالة، وعملهن أدى إلى انحراف الأبناء، وتفشى الطلاق وهدم البيوت..الخ» فهل ينجح الرجعيون فى طردنا هذه المرة؟