تعود أحداث السودان من داخله ومن حوله، لتدفع بالتساؤلات قوية حول مصير هذا الكيان السياسى فى الأشهر القليلة المقبلة. ويبعث الارتباك السائد على كل المستويات السياسية، خارجيا وداخليا، إلى عدم الاطمئنان على مصير السودان، ما لم ينقذه حل داخلى شامل يصحح علاقة الحكم بالمجتمع السياسى والاقتصادى على السواء. ولا يبدو فى الخريطة السياسية القائمة أن ثمة بشائر حقيقية، رغم نغمة التفاؤل فى رسائل بعض «حكماء أفريقيا والعرب» على نحو ما جاء فى بيان الأب «ديزموند توتو» والأخضر الإبراهيمى»، ومن وورائهما مانديلا نفسه بمناسبة الإعداد لليوم العالمى للسودان. المتفائلون يأخذون فى الاعتبار، ذكرى مرور خمسة أعوام على اتفاق «نيفاشا» بين شمال وجنوب السودان فى كينيا عام 2005، وأن القلق السائد على السودان قائم بين أهله، وليس مجرد الاطمئنان على مسيرة الاتفاق، هو الذى قد يدفع ببعض التماسك أمام تهديدات الاضطراب فى ساحة الجنوب، ودار فور على السواء. بل ويلمح المتفائلون بعض الهدوء فى الموقف الأمريكى المتشدد بالأساس والمتمسك بالإشارة إلى تهمة «إبادة الجنس» فى دارفور والالتزام بحكم المحكمة الدولية ضد الرئيس بشير ورفاقه ويلاحظ هؤلاء أن نغمة المبعوث الأمريكى إلى السودان «الجنرال جريش» ليست بهذه الحدة بعد مقابلاته مؤخرا لأطراف سياسية عديدة فى الخرطوم، وأنه يشير إلى «فرص الحوافز» إلى جانب فرص العقاب» وفق منطق العصا والجزرة، أو منطق فلاسفة أوباما عن القوة الناعمة والقوة الذكية، وأن مأزق الولاياتالمتحدة فى أفغانستان والعراق، بل ومع إسرائيل والفلسطينيين لا يساعد على إضافة التشدد الآن مع السودان. وأن تهدئة العلاقات بين حكومة الخرطوم وحكومة الجنوب عبر الدور الأمريكى قد تهدئ هذه المنطقة ولو مؤقتا. لكن «السلة السودانية» ليست مليئة فقط بأوراق فلسفة «الإدارة» فى الولاياتالمتحدة، إذ يلفت النظر أيضا تصاعد الهجمة من قبل أصحاب المصالح فى الكونجرس الأمريكى من أصحاب حملات «إنقاذ دارفور» وكأن المسألة السودانية محصورة فقط فى «المظالم الإنسانية» فى دارفور، لتنطلق حملات «إنقاذ دارفور» كبيرة ومدوية فى أكثر من عاصمة عربية وعالمية؛ متجاهلة دعوة «العقلاء الأفارقة والعرب أيضا» نحو المطالبة «بحل شامل»؛ «لا يعزل مأساة دارفور عن الأزمة الحاكمة فى أنحاء السودان»، وإن الأمر يحتاج أيضا «للتطبيق الشامل لاتفاق السلام، بما فيه اتفاق الشمال والجنوب، ليضمن ذلك جميع مناطق تهديد الوحدة السودانية، من جوبا إلى «أبيى» إلى جنوب كردفان، كما يشمل حل قضايا الفقر (اقتسام الثروة) بالإضافة لحكم مسئول عن المشكلات العرقية والدينية، فى البلد الشاسع الأطراف. ولأن الحكمة تقتضى هذه النظرة الشاملة فى بيانات صدرت مؤخرا، فإن «بيان الأخضر وتوتو» يضع بعض المسئولية على «شهود اتفاق نيفاشا» من منظمة الإيجاد (فى شرقى أفريقيا) إلى أصحاب المصالح الأوربيين، وفى مقدمتهم الولاياتالمتحدة لتقوم بمتابعة هذه الحلول الشاملة! لكن المتشائمين يحملون مرارات أخرى عن الموقف لا يرونها تساعد فى حله، إلا إذا نهضت الأطراف الداخلية على حلول ديمقراطية جديدة تتسم بالتوافق، والتفاوضية وليس الصراع الذى تبدو مرارته الآن فى الساحة السودانية، وهى مرارة لا تحيل إلا لتسلطية مركزية ظاهرة، ولا تلمح إلا لعدم الاعتراف بأية قوى أخرى فى السودان باستثناء مصطلح «الشريكين» أى حزب المؤتمر الوطنى الحاكم مركزيا فى الخرطوم، بأجنحته المتعددة، والحركة الشعبية لتحرير السودان، بشعابها المتنوعة! أى إن الكتلة الحاكمة للموقف، ولاتفاق السلام معا، لا تتمتع هى نفسها بهذه الوحدة التى تدفع عمليا لأداء انتخابات سليمة، وإلى «حكم رشيد» أو «حكومة مسئولة» فعليا عقب انتخابات أبريل 2010..! ويظل الأكثر مرارة فى الساحة السودانية، أن الموقف الذى يبدو أميل للهدوء أو التهدئة فى غرب السودان من دارفور لحدود وموقف تشاد، وهبوط حدة التحارب فى المنطقة، لاعتبارات كثيرة تحيط بقوى «التمرد» لا يقابله موقف مماثل على ساحة القوى السياسية. ويبدو الحكم فى السودان سعيدا تماما بهذا التطور الداخلى الذى يتيح له فرص الانفراد والإقصاء، وفق جوهر سياساته، بأكثر من إثارة قلقه على استقرار حقيقى، وعملية إنقاذ حقيقية. لا أتصور إلا أن النظام السودانى قد أقلقه اجتماع قوى المعارضة السياسية، وبعض أطراف التنظيمات الشعبية، فى جوبا (سبتمبر 2009) وفى حضن الحركة الشعبية لتحرير السودان، شريكه فى الحكم! فى إشارة للقاء الجنوب والشمال خارج الأطر التقليدية، لكن المؤسف أن هذه القوى السياسية نفسها التى لوحت بإمكان مقاطعة انتخابات أبريل 2010 ما لم تعدل كثير من قوانين الأمن والانتخابات.. الخ لم تستطع أن تحسم أمرها بعد بشأن محاصرة الحكم، أو الضغط الحقيقى عليه من أجل أداء موضوعى قبل الانتخابات، لذا ظل الحكم يراهن على أن «شراكته» غير ملزمة إلا مع «الحركة الشعبية» وهذه تعانى الكثير فى الجنوب ويمكن محاصرتها هى نفسها فى أشكال من الاضطراب وإشاعة الانقسام وإثارة الصعوبات أمام سيطرتها وحدها فى الجنوب، بل ومحاصرتها فى واشنطن نفسها! والحزبان المواجهان بقيادة السيدين، الصادق والميرغنى يعانيان بدورهما مشكلات داخلية، بل وذهبا للرئيس البشير يستطلعان حقيقة الموقف، أو يتبادلان الإشارات..! ولم نعرف إلا ميلهما «للعمل السياسى» لترتيب الأوضاع داخلهما بدلا من إنجاح تحركات «أطرافهما» المعارضة فى الشارع السودانى أوائل ديسمبر 2009 دون حضورهما، وهناك أطراف أخرى يسارية أو يمينية لم تبرز بين تحركاتها لدعم آثار مؤتمر جوبا إلا انفراد «الترابى» بمزيد من إغراء الحركة الشعبية لإبقاء سندها له، وذلك بإعلانه ترشيح «جنوبي» عن جبهته الإسلامية لمعركة الرئاسة المقبلة. أما أهل دارفور فمن المؤسف أن كل الأطراف غابوا أو غُيبوا عن اجتماع المعارضة فى جوبا، ولم توجه لهم دعوات فعلية إلا فى خطاب البشير الأخير عن إمكان الرجوع لاجتماع «الدوحة» مع بعض أطرافهم... بهذا لا نستطيع أن نتوقع فى أشهر قليلة حتى أبريل 2010 إلا مزيدا من الاضطراب فى الصيغة السودانية التى تصورنا أن اجتماع «جوبا» سيكون فرصة تاريخية للمعارضة الشاملة أو التوافق الممهد لحل شامل... فكيف سيأتى إذن الحل الذى يأمله «ديزموند توتو» و«الأخضر الإبراهيمى» وأصدقاؤهم الحادبين على «الوضع الشامل» فى السودان؟ إن هذا الوضع لم يساعد إلا حملات «إنقاذ دارفور» التى إن لم تكن متوافقة مع لوبى الكونجرس الأمريكى ضد «إبادة الجنس» فى دارفور، فإنها ليست إلا صرخات خارجية حول الحل الجزئى لأزمة السودان، التى تشكل قضية دارفور جزءا واحدا منها. هل ثمة ضغط جماعى شامل يدفعه بيان «توتو الإبراهيمى» إلى الظهور؟ لم تأت المساعى الحميدة للاتحاد الأفريقى إلا بتقرير «ثوبا مبيكى» عن محكمة أفريقية سودانية مختلطة لإنقاذ رأس الحكم، لا جوهره! ولم تأت تهديدات «مؤتمر جوبا» للقوى السياسية الوطنية، إلا بتهديدات حول مقاطعة الانتخابات أو التظاهر الوطنى فى الشارع سياسيا وشعبيا للضغط على الحكم أو على القيادة السياسية لتعديل القوانين أو مقاطعة الانتخابات. وهذه كلها ليست ضمن أجندة الحل الشامل للمسألة السودانية التى يطلب لها الحكماء «حكومة مسئولة» وحكما رشيدا. قال بعض المتعاطفين الذين تأملوا الخطاب السياسى فى جوبا، أن «أشكالا جذابة» أخرى لوضع الجنوب على الأقل قد تكون مطروحة لإنجاح اتفاق نيفاشا بشكل مرض. فإزاء استحالة تصور انتخابات حقيقية فى أبريل المقبل مع أوضاع الجنوبيين الحالية فى الشمال والجنوب والخارج على السواء، وإزاء الوضع غير المريح بالضرورة فى دارفور، وإزاء المراوحة بين حالات الإقصاء، وحالات الالتقاء، بين شركاء الحكم وأطراف المعارضة، فإننا سوف نشهد فى النهاية «تمثيلا» بعناصر الوضع الراهن، ومن هنا يمكن الاستغناء عن صيغة «الاستفتاء» لحسم الخيارات الصعبة مع الجنوب بعد إجراء مثل هذه الانتخابات انتقالا إلى صيغة «التراضى» داخل البرلمان القادم الذى لن يعنى تمثيلا حقيقيا ولكن التراضى يظل ممكنا حول إعلان «الكونفيدرالية» فى السودان عن طريق «البرلمان» القادم وليس الاستفتاء، حتى لو بقى الترابط رخوا بين أقاليم السودان ومستعدا فى النهاية ليصلب فى ظروف أفضل، مثلما حدث عند استقلال السودان نفسه الذى كان مقررا أن يتم باستفتاء أيضا فى اتفاقية دولية، لم يجر الالتزام بها عندما أدرك عبدالناصر والأزهرى أن إجراء الاستفتاء سيشكل ارتباكا فى سياسة ووضع الطرفين. فهل تقبل الأطراف السودانية بمثل هذا الحل، وهو ما يمكن أن يمثل رغبة داخلية لإنقاذ الأوضاع، بدلا من الإلحاح الخارجى الجزئى والمغرض فى أحيان كثيرة لإنقاذ دارفور؟