الذين يختلفون مع المخرج الفلسطينى ايليا سليمان، والذين يتفقون معه يجمعون على شىء واحد وهو أنه صاحب تجارب سينمائية مميزة، خرجت من الإطار الإقليمى لتغزو مهرجانات عالمية، حيث شارك أكثر من مرة فى مهرجان «كان» السينمائى الدولى.. وحرم من «سعفته» الذهبية لتمسكه بانتمائه الفلسطينى. ايليا، الذى حضر عرض أحدث أفلامه «الزمن الباقى» فى إطار بانوراما الفيلم الأوروبى بالقاهرة، شن هجوما لاذعا على الأنظمة العربية واتهمها بتزييف التاريخ من خلال السينما لغسل عار التفريط فى فلسطين، معترفا بأن أعماله السينمائية لا ترفع شعار النضال بقدر ما تروى تجربته الشخصية. فى البداية اختار ايليا سليمان أن يبدأ حديثه معنا بالتطرق إلى واقع السينما الفلسطينية حاليا مقارنة بالسينما العربية وكيفية تناولها للقضية الفلسطينية، قائلا: الجهل الذى تنتجه الأنظمة العربية عن قضية فلسطين هو نوع من «غسل الأدمغة» لقبول خسارة فلسطين وما ألحقته هذه الخسارة بالعرب من عار.. وهو مستوى منحط فى دراسة التاريخ يتعمد تزييفه. * تقصد لغة الحماس التى تهاجم أفلامك وتتهمها بالتعاطف مع إسرائيل؟ هناك من تهجم على أفلامى أو الأفلام المختلفة سياسيا مع الأنظمة العربية، وأعتقد أنه حاليا يوجد بعض التغيير فى هذا الموقف، فمنذ 10 سنوات فقط كنت أنا شخصيا أتعرض لسيل من الشتائم فى مصر ويتم تخوينى.. لكن الجيل الجديد بدأ يشك فى كل هذا التزييف وخصوصا مع إدراكه أننا لا نرفع شعارات نضالية بأعمالنا الفنية بل نقدم تجاربنا الشخصية. وتخيل كيف سيكون موقفك لو سافر مصرى لرام الله وتعرض للهجوم باعتباره مطبعا، وهذا نفاق غريب.. لأنك هنا تذهب لفلسطين لا إلى إسرائيل كما أنه يجب أن يسألونا نحن الفلسطينيين عما نريده.. لا ما يريده البعض الذين يحبسوننا فى عالم غريب لم أعد أنتمى إليه.. ورغم أننى فى البداية كنت أخاف من الجدل حول هذا العالم الغريب لكننى حاليا لا أكترث به. *هل يتعرض إيليا سليمان للحرب لأنه من عرب 48؟ فلتسأل من يحاربوننى من كل المهن عن سبب حربهم ضدى.. ودعنى أقل لك إن هؤلاء سبق لهم أن حاربوا الشاعر الراحل محمود درويش «لوركا العرب» عندما زار بلده، وهو رجل كبير ومريض كان يحلم برؤية أهله فخونوه.. لكننى لست حزينا من كل هذا الهجوم على بل لا أكترث به، وهى أشياء تختفى سريعا. * هل يعنى ذلك أن الاتهامات التى تلاحق أفلامك وآخرها «الزمن الباقى» بأنها إنتاج إسرائيلى.. لا تغضبك؟ الذين اتهموا فيلمى بأنه إنتاج إسرائيلى لم يشاهدوه على الإطلاق.. لأن فيلمى إنتاج فرنسى بريطانى بلجيكى.. وأدعو كل من يردد تلك الاتهامات إلى مشاهدة الفيلم للتأكد من ذلك. * أتشعر أنك تحارب على جبهتين بعد أن فقدت من قبل «سعفة» كان لتمسكك بفلسطينيتك؟ أنت تلمح إلى ما حدث فى لجنة التحكيم بمهرجان كان.. كلنا نعرف أن هناك أعضاء باللجنة يتعاطفون مع إسرائيل وتم حرمانى من الجائزة بسبب حرب ضدى.. وأنا لا أحب الحديث عن هذه القصة لعدم رغبتى فى لعب دور الضحية، ولكن ما حدث لم يكن بالطبع منصفا لى.. ولكنى لن أحكى لك أية تفاصيل عما حدث خلال تجربتى مع لجنة تحكيم كان. * إذا تحدثنا عن فيلمك الأخير «الزمن الباقى».. ما الأسباب التى تدفعك كمخرج لتناول «ذكرياتك القديمة» وهل بينها أبعاد نفسية؟ هى أسباب تتعلق بالنفس والنضج والمعاناة التى تنمو وتكبر مع مرور الوقت.. ولكى أتحدى ذكرياتى كان يجب أن أمتلك بعضا من النضج وأنا أتبع فكرة ما.. وكنت طول الوقت مشغولا بالوطن والإبداع واستمرار الاحتلال والمساومات التى يتعرض لها المواطن الفلسطينى الذى يحلم بتحقيق النجاح.. وهى تجارب إنسانية توجد فى مناطق مختلفة بالعالم. وأنا لم أعش تجربة 48 وكانت عندى دوما مخاوف من تصوير الولد الصغير الذى واجه نكبة الاحتلال.. والطريف أننى لم أحضر عرضا لمشاهدة فيلمى سوى مرة واحدة مؤخرا لكى أراقب نفسى. * يوسف شاهين ارتبط نفسيا وشعوريا بهزيمة يونيو 67 وقدم «اسكندريه ليه» و«اسكندرية كمان وكمان» فهل هذا هو ما يحدث معك؟ لا أظن أنك تستطيع الحكم على مشوارى السينمائى بهذه الطريقة التى ميزت يوسف شاهين فأنا ومنذ فيلمى الأول القصير «تكريم بالقتل» وأنا أمتلك أسلوبى أو طريقتى التى لم أحد عنها حتى الآن. * لكننا نلاحظ أنك تعاملت مع الذاكرة الجماعية لوطنك أكثر بكثير مما كشفت عن عيوبك أنت الشخصية؟ قد أتفق معك فى ذلك لكن السبب الأساسى فى هذا له علاقة بالنضج السينمائى. بالتأكيد كانت لدى النية لصنع هذه التجربة منذ 10 سنوات لكننى لم أكن وقتها قد وصلت لهذا النضج فبعد «يد إلهية» اكتشفت قدرة يمكنك أن تقول إنها ميتافيزيقية تساعدنى وتجعلنى اتمسك بالصدق فى العمل.. ومن خلال ما كنت أشعر به وأحسه اثناء التصوير كنت اكتشف أن الأشياء صارت بالنسبة لى أكثر شفافية، وبرغم قلة إمكاناتى كنت أشعر دوما بأهمية الفن الصادق لدرجة أننى أشعر أن فيلمى القادم سيكون شيئا أشبه بالسحر لو استمرت هذه الحالة الفنية الصادقة.. ومن هنا فأنا أؤكد أنه لو عاش الفنان لحظة لم يخدع فيها نفسه سيلتقطها المشاهد فورا. * هناك مشهد بالفيلم كانت دانة المدفع تذهب بعيدا ثم تقترب ولكنك فجأة قمت بتفجيرها فى وجه المشاهد.. فهل هى رسالة تحذير لكل منا؟ هى مشاعر مملوءة بالتوتر وأنا ألعب دوما على ما يعطى روح الدعابة الممزوجة بالتوتر.. وفى تصويرى لأحداث عام 48 كنت ألعب بما يشبه التوثيقى ولكن بما أشعر به ولا أبحث عن خداع الجمهور فأنا أؤمن أن دورى كمخرج يشبه جسم شفاف يرشد فقط الجمهور، كما أؤمن بأنه لابد أن أكون أنا شخصيا فى التجربة.. وأنا أؤمن بمواجهة الاحتلال وأن الحياة ستستمر مهما حدث والمقاومة موجودة فى قدرتنا على التعايش.. أما السلطة التى أشعر أنها دوما مذعورة، فإنها حتى لو وضعتنا فى السجن لن تستولى على إحساسنا بالحرية.. وخوف السلطة مؤشر لخوفها منا.. ولو أصررنا على إحساسنا بالحرية فسنحصل عليها. * كيف يصف إيليا سليمان نفسه؟ مخرج يعبر عن نفسه وأحاسيسه.. قد يتفاعل معها المشاهد وقد لا يتفاعل.. ولكنى لا أنفصل عن أفلامى لأنها حياتى التى أمارسها بشكل روحانى معين ولا أستطيع أن أفصل حياتى عن أفلامى.. وروحانيتى هى دافعى الأكبر لصنع أفلامى، كما أن تساؤلاتى الداخلية وصراعى النفسى هو ما ينقل لك ما تراه على الشاشة وأن تحس بالآخر وتتواصل معه وأن تعيش تجربته بلذتها وحزنها.