بين الكتب والروايات إلى الأفلام، ترددت مدن وأماكن تاريخية عديدة على مسامعنا وأعيننا، حتى علقت بأذهاننا ونُسجت بخيالنا، بعدما جسدها الكتاب والمؤلفون في أعمالهم، لكننا أصبحنا لا نعلم عنها شيئا، في الوقت الحالي، حتى كثرت التساؤلات عن أحوال هذه المدن التاريخية الشهيرة، كيف أضحت وأين باتت تقع؟. بعض هذه المدن تبدلت أحوالها وأضحت أخرى مختلفة، بزمانها ومكانها وساكنيها، فمنها التي تحولت لمدينة جديدة بمواصفات وملامح غير التي رُسمت في أذهاننا، لتجعل البعض منا يتفاجئ بهيئتها وشكلها الحالي، ومنها التي أصبح لا أثر ولا وجود لها على الخريطة، ما قد يدفع البعض للاعتقاد بأنها كانت مجرد أماكن أسطورية أو نسج خيال. لكن، ما اتفقت عليه تلك المدن البارزة أن لكل منها قصة وراءها، ترصدها لكم "الشروق"، في شهر رمضان الكريم وعلى مدار أيامه، من خلال الحلقات اليومية لسلسة "كيف أضحت!"، لتأخذكم معها في رحلة إلى المكان والزمان والعصور المختلفة، وتسرد لكم القصص التاريخية الشيقة وراء المدن والأماكن الشهيرة التي علقت بأذهاننا وتخبركم كيف أضحت تلك المدن حاليا. ….. برزت مدينة بخارى كواحدة من أقدم المدن الإسلامية وأشهرها في آسيا الوسطى، وتُعد من المدن التاريخية المهمة في جمهورية أوزبكستان، ويُشار إليها دائماً بالمدينة الفاضلة أو النبيلة لمكانتها الرفيعة في تلك المنطقة من العالم، وحتى اليوم، لا تزال تعكس أجواء مدن العصور الوسطى بقلعتها الحصينة، التي تشرف على المدينة القديمة، والتي تعود للقرن العاشر الميلادي. وعلى مدار العصور، كانت مدينة بخارى موضع اهتمام الرحالة والمؤرخين المسلمين وغيرهم الذين عنوا بتاريخ المدينة وجغرافيتها، والذين رجحوا أن سبب تسميتها يعود إلى أن كلمة بخارى مشتقة من كلمة بخار عند المغول التتار، الذين غزوا المدينة، ومعناها العلم الكثير، والذي كان دالا عليها؛ فهي مدينة زاخرة بالعلم والعلماء الأجلاء. أجمل مدن بلاد ما وراء النهر وتقع مدينة بخارى إلى الغرب من جمهورية أوزبكستان، على مجرى نهر زرفشان في قارة آسيا، فهي من أكبر مدنها، وتعد من أجمل مدن ما وراء النهر، التي تمتاز بخضرتها؛ فيقال إنه بالصعود إلى قلعتها الشهيرة لا يرى الناظر سوى الخضرة. فقد وصفها الأديب الرومي ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، قائلاً : "بخارى من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها يُعبَر إليها آمل الشط، ولا شك أنها مدينة قديمة نزهة كثيرة البساتين واسعة الفواكه". حاضنة العلماء والمفكرين وقد أنجبت مدينة بخارى العديد من العلماء والمفكرين أبرزهم الطبيب والفيلسوف الحسين بن عبدالله بن سينا، الذي يُعد من أعظم رواد الفكر الإنساني وصاحب التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والآلهيات، وقد ولد عام 981 ميلادية، في قرية أفشنة التابعة لمدينة بخارى، وتوفي عام 1037 ميلادية، بمدينة همدان غرب إيران ودفن فيها. وأيضا أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، الملقب بالإمام البخاري، نسبة إلى اسم مدينته، صاحب كتاب الحديث المعروف ب "صحيح البخاري"، والذي ولد بمدينة بخارى في عام 810 ميلادية، وظل طوال حياته يتردد بين الأمصار، وأقام ببغداد ونيسابور حتى اشتاق إلى بلاده فرجع إليها، وتوفي عام 870 ميلادية، بقرية خرتنك القريبة من سمرقند ودفن فيها. فتح بخاري وغزو المغول طبقا للملحمة الشعرية الإيرانية "شهنامة"، فقد تأسست مدينة بخارى رسميا في القرن السادس قبل الميلاد، على يد القائد الإيراني سياوش، أحد الملوك الأسطورية، الذي ينتمي لسلالة الشاهات حكمت في بلاد فارس، والذي اختار هذا الموقع لتعدد أنهاره ومناخه الدافئ ولوقوعه على طريق الحرير. ومنذ تأسيسها، كان أهل بخارى وثنيين ولهم سوق تباع فيها الأصنام، حتى جاء الفتح الإسلامي للمدينة في زمن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، على يد عبيد الله بن زياد، وتحديدا في عام 674 ميلادية، وظلت المدينة معقلاً للإسلام ومركزاً للعلوم الدينية حوالي ستة قرون، حتى تعرضت للغزو المغولي، في عام 1220 ميلادية، ونتيجة لهذا الغزو، قد خربت تخريبا كاملا، إلا أن أهاليها وبالرغم من كل الآثار السلبية التي أتت عليهم، قد أعادوا إعمارها واستعادة مكانتها من جديد. احتلال الروس وعودة للاستقلال وبعد سقوط المغول بعدة قرون، وقعت بخاري تحت الاحتلال الروسي، بعدما ازداد نفوذ الروس وتغلغلهم في بلاد ما وراء النهر، وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أعلنت روسيا جمهورية بخارى، قبل أن تنال استقلالها وتعود لسيادة جمهورية أوزبكستان، بحلول عام 1924. حاضرة إسلامية بمعالم تراثية فريدة واليوم، أضحت مدينة بخارى، حاضرة إسلامية بمعالمها التراثية الفريدة، المحفوظة في ذاكرة الناس، تستمد مميزاتها من بنيتها العمرانية ومئات المعماريين والبنائين والفنانين المبدعين بها، الذين استلهموا المعرفة من هندسة حضارات عريقة كالحضارة الفارسية، التي حكمتها لقرون عدة، والتي كان لعناصرها ومفرداتها المعمارية تأثيرها الواضح على الطابع المعماري الجميل للمدينة. ويُحيط بمدينة بخارى سور عظيم، ولولاه لاندثرت المدينة التاريخية تحت الرمال الصحراوية، وتنتشر على سورها من جميع الجهات إحدى عشر بوابة، أشهرها بوابة سمرقند وإمام ومزار وتلياج وشير كيران وشيخ جلال.