انطلاق المسابقة الثقافية البحثية الكبرى بين التعليم والأوقاف للعام السابع على التوالي    المنشاوي يعقد اجتماعًا لمتابعة المشروعات الإنشائية بجامعة أسيوط    البورصة ترتفع 3.5% وتحقق 5 قمم تاريخية هذا الأسبوع    سعر السولار اليوم الخميس 2 أكتوبر 2025    العد التنازلي بدأ.. مصر على موعد مع تطبيق التوقيت الشتوي قريبًا    الشرطة البريطانية: هجوم كنيس مانشستر عمل إرهابي    روسيا وأوكرانيا تتبادلان مئات الأسرى    الأهلي يخسر من ماجديبورج ويفقد فرصة التتويج بالبرونزية في بطولة العالم لليد    الدوري الأوروبي.. التشكيل الأساسي لفريق ريال بيتيس أمام لودوجوريتس    الداخلية تضبط عاطلين سرقا حديد سلم منزل بالشرقية    هيفاء وهبي تفاجئ جمهورها بطرح 5 أغاني من ألبومها الجديد «ميجا هيفا» (فيديو)    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس    "ماجد الكدواني يشعل رمضان 2026 بمسلسل جديد حول الزواج والحياة"    هل الأحلام السيئة تتحقق حال الإخبار بها؟.. خالد الجندي يوضح (فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 2أكتوبر 2025 في المنيا.... تعرف عليها    رئيس الوزراء يوافق على رعاية النسخة التاسعة من مسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الديني    «النار دخلت في المنور».. كيف امتد حريق محل ملابس إلى عقار كامل في الهرم؟ (معايشة)    سعر الدولار ينخفض لأدنى مستوى عالميًا مع قلق الأسواق من الإغلاق الحكومي الأمريكي    نجل زيدان بقائمة منتخب الجزائر لمواجهتي الصومال وأوغندا بتصفيات المونديال    نتائج 6 مواجهات من مباريات اليوم الخميس في دوري المحترفين    محافظ البحيرة تفتتح معرض دمنهور الثامن للكتاب بمشاركة 23 دار نشر    خبير علاقات دولية ل"اليوم": ما فعله الاحتلال ضد قافلة الصمود إرهاب دولة    وائل السرنجاوي يعلن قائمته لخوض انتخابات مجلس إدارة نادي الزهور    استشهاد 53 فلسطينيًا فى قطاع غزة منذ فجر اليوم    قرار عاجل من التعليم لطلاب الثانوية العامة 2028 (الباقين للإعادة)    محافظ الغربية يستقبل نائب وزير الصحة عقب جولة ميدانية على المستشفيات والمنشآت الطبية    رفع كفاءة وحدة الحضانات وعناية الأطفال بمستشفى شبين الكوم التعليمي    حزب العدل ينظم تدريبًا موسعًا لمسئولي العمل الميداني والجماهيري استعدادً لانتخابات النواب    ضبط طن مخللات غير صالحة للاستخدام الآدمي بالقناطر الخيرية    تركيا.. زلزال بقوة 5 درجات يضرب بحر مرمرة    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    البلدوزر بخير.. أرقام عمرو زكى بعد شائعة تدهور حالته الصحية    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    براتب 290 دينار.. العمل تعلن عن وظائف جديدة في الأردن    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    14 مخالفة مرورية لا يجوز التصالح فيها.. عقوبات رادعة لحماية الأرواح وضبط الشارع المصري    لهجومه على مصر بمجلس الأمن، خبير مياه يلقن وزير خارجية إثيوبيا درسًا قاسيًا ويكشف كذبه    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    برناردو سيلفا: من المحبط أن نخرج من ملعب موناكو بنقطة واحدة فقط    المصري يختتم استعداداته لمواجهة البنك الأهلي والكوكي يقود من المدرجات    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    ما يعرفوش المستحيل.. 5 أبراج أكثر طموحًا من غيرهم    وزير الري يكشف تداعيات واستعدادات مواجهة فيضان النيل    الكشف على 103 حالة من كبار السن وصرف العلاج بالمجان ضمن مبادرة "لمسة وفاء"    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    تفاصيل انطلاق الدورة ال7 من معرض "تراثنا" بمشاركة أكثر من 1000 عارض    استقالة 14 عضوا من مجلس الشيوخ لعزمهم الترشح في البرلمان    السفير التشيكي يزور دير المحرق بالقوصية ضمن جولته بمحافظة أسيوط    رئيس الوزراء: ذكرى نصر أكتوبر تأتى فى ظل ظروف استثنائية شديدة التعقيد    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر.. أرض المستقر والمقام
نشر في الشروق الجديد يوم 16 - 12 - 2009

حين زار الكاتب الشاب هلال شومان مصر قبل عام مضى خطرت برأسه فكرة أن ينتقل من موطنه فى بيروت إلى القاهرة، ودفعته الفكرة إلى البحث الجاد عن عمل مناسب داخل مصر فى تخصصه الأصلى كمهندس كهربائى، ويبدو أن لديه من الأسباب ما يرضى رغبته فى الارتباط بمصر والقاهرة حسبما يوضح: «عندما زرت القاهرة للمرة الأولى العام الماضى والتقيت أصدقائى المصريين، قضيت بين القاهرة والإسكندرية فترة قصيرة لم تتجاوز الأسبوعين، كانت كافية كى تخلق داخلى نزعة طفولية جعلتنى أتشبث بهذا المكان، وظلت الفكرة فى رأسى رغم عدم نجاحى فى الانتقال بشكل آمن إلى مصر حتى الآن».
حسب أرقام التقرير السنوى للتنمية البشرية لعام 2009 (الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى) فإن عدد المهاجرين من لبنان يبلغ 20 ألفا سنويا، ليست مصر هى وجهتهم الأولى بقدر ما تجذبهم دول أخرى فى منطقة الخليج العربى وأوروبا وأمريكا. يعلق هلال: «ردود الأفعال التى تلقيتها من أصدقائى عندما أخبرتهم بفكرة انتقالى إلى القاهرة كان: هل يستحق الأمر فى ظل مستوى العيش المنخفض فى القاهرة عن لبنان؟ وهل ستكون مرتاحا ماديا عندما تنتقل إلى هناك؟»، نفس ردود الأفعال تلقاها هلال حين نشر أول عمل أدبى له فى دار نشر مصرية، وقيلت له عبارات من نوعية «لبنانى ينشر فى دار نشر مصرية..
لماذا؟». هذه العبارات قد تبدو للوهلة الأولى صادمة لمن يعيشون ذكرى «الزمن الجميل»، وكيف كانت «مكانة مصر» جاذبة للعرب، خصوصا لجنسيات مختلفة من الشوام فى القرنين الماضيين، حيث وجدوا مناخا تنمو فيه مشروعاتهم الثقافية والفنية والتجارية.
هلال نفسه لم يضع فى الحسبان ما يقال عن مكانة مصر التى كانت جاذبة فى فترة من الفترات، ويقول: «الحديث عن انتقال الشوام إلى القاهرة قديما أكثر ارتباطا بالحنين إلى الماضى». ويوضح أنه لا ينكر تأثير أشياء صبغت جزءا من ذاكرته فى الصغر بالطابع المصرى، بدءا من سلسلة الشياطين 13 التى كانت تباع على أرصفة بيروت أثناء الحرب الأهلية والأعمال السينمائية والتلفزيونية المصرية انتهاء بكتب الأدب المصرى، إلا أن فكرة الانتقال إلى القاهرة كان سببها الرئيسى متعلق بمصر التى رآها فى زياراته الأخيرة.
ويضيف شومان: «عندما قضيت فى القاهرة أسبوعين، فتنت بتفاصيل بسيطة للغاية عندما رأيت الناس يسكنون المبانى التراثية فى وسط البلد وفى مناطق أخرى. طبعا هالنى عدم الاهتمام الذى تعانى منه هذه الأبنية، لكننى فرحت عندما رأيت هذه المبانى حية فى سكانها، ففى بيروت ننظف كل شىء قديم ونفرغه من الحياة، بيروت فى أغلب مناطقها بشعة معماريا، تشبه بعض مناطق القاهرة الشعبية فى معمارها التجارى».
مبانى القاهرة التاريخية التى جذبت أعين هلال شومان وزادت من تعلقه بالقاهرة هى نفسها التى بنيت زمن هجرة الشوام بين منتصف القرنين 19 و20 حين كانت هذه الهجرات حسب رأى مسعود ضاهر فى كتابه «هجرة الشوام: الهجرة اللبنانية إلى مصر» (دار الشروق 2009) تبحث عن الحرية السياسية لفئات مثل الشعراء والسياسيين والمثقفين، والبحث عن الوضع الاقتصادى الأفضل لفئات أخرى، وهى صورة مختلفة عن الواقع اليوم.
هجرة الشوام
«من الخطأ أن نترجم ظاهرة مثل هجرة الشوام إلى مصر فى فترة من الفترات على أنها دليل على مكانة متميزة، فتعبير المكانة يتغير ويختلف من فئة لأخرى»، بهذا الرأى يحاول الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان أن يراجع مفهوم «مكانة مصر» الذى استهلك طيلة سنوات مضت وأصبح تفسيرا لشكل العلاقة بين مصر والدول العربية فى بعض الحالات.
ويضيف: «هذه تعبيرات غير دقيقة وغير معبرة عن تفاصيل الواقع، ومن غير المقبول أن نضع أسباب الهجرات سواء فى الماضى أو اليوم تحت عنوان مكانة مصر الجاذبة للعرب، الهجرة فى النهاية مسألة انتقائية، ففى حالة هجرة الشوام إلى مصر على سبيل المثال نجد أن شريحة منهم وفدت إلى مصر هروبا من اضطهاد عثمانى وتضييق على حرية الرأى، فى الوقت الذى كان هناك هامش الحرية وأفضلية اقتصادية فى مصر وفرت لهم الفرص لإنجاز مشروعات ثقافية وفنية وتجارية».
يوضح الدكتور شريف يونس كذلك أن نفس هذه الفئة من المهاجرين الشوام لم تعد تجتذبها مصر فى عهد جمال عبدالناصر، فبعد أن كانت مصر جاذبة لهجرة العقول ولأموال التجار أصبحت فترات الخمسينيات والستينيات بداية انحسار بسبب ظروف جديدة هى قبضة الدولة القوية على شئون الفكر والثقافة والاقتصاد.
والمفارقة أن هذا الانحسار كان فى قمة التوجه المصرى نحو العرب أو حسب التعبير الذى يستخدمه البعض حين كانت مكانة مصر مرتفعة بين العرب، لكن هذا التناقض يفسر أن لفظ مكانة مصر غير دقيق.
هذه الصورة التى يرسمها الدكتور شريف يونس لمصر كبلد استقبال عاشتها بعض الأسر المصرية ذات الأصول الشامية التى مازالت محتفظة بذكرى جد قديم جاء من المشرق لم ينسه أحفاده، مازن فيصل الخيمى أحد هؤلاء الأحفاد..
يستطيع اليوم أن يتفهم انبهار جده الأكبر خليل الخيمى حين اتخذ قرار الانتقال من دمشق إلى القاهرة، يقول مازن: «جاء الجد الكبير إلى القاهرة فى رحلة استشفاء كانت هى السبب فى تصفية تجارته فى الشام والانتقال إلى مصر والعيش بها، حيث وجد الطب المتقدم، كما وجد مكانا له فى سوق النسيج وسط تجار الحمزاوى بمنطقة القاهرة التاريخية».
حين وفد السيد خليل الخيمى فى العام 1904 لم يكن وحده من الشوام الذين اختاروا مصر مستقرا ومقاما، بل كان واحدا من 34 ألف مهاجر شامى اختلفت دوافعهم فى المجىء إلى مصر، البعض جاء هاربا من مشكلات سياسية وطائفية، لكن العامل الرئيسى الذى جذبهم جميعا كان الحالة العامة التى نجحت فى اجتذاب أموال وكفاءات هؤلاء المهاجرين، حتى إن بعض التقديرات أشارت إلى أن الشريحة الأغنى من الشوام فى مصر حازت ثروة تقدر بعشر الثروة القومية فى ذلك الوقت فى العام 1907.
اليوم حين يروى الحفيد مازن تلك القصة العائلية لا يستطيع تفويت الفرصة دون تسجيل مفارقة يعشها يوميا: «من المؤكد أن مصر كانت فى حالة أكثر رقيا لتجتذب الزوار إليها بهذا الشكل، اليوم حين أنظر إلى حى الزمالك حيث أسكن وأقارن بين فيلاته وعمارته القديمة وبين ما يبنى يوميا من مبان قبيحة وعشوائية أتفهم أسباب انبهار الجد الكبير بالقاهرة الخديوية آنذاك».
العائلات التى اختارت مصر مستقرا ومقاما، حيث ازدهرت تجارتها وأصبحت جزءا من الأمة تبدلت أحوالها بعد ثورة عام 52، بسبب التغييرات التى طرأت على النظام السياسى وعلو الحس الاشتراكى داخل الدولة. ولم تكن «مكانة مصر» هى الدافع وراء بقاء أسرة الخيمى بقدر ما كان رسوخ أقدام الأسرة فى مصر هو السبب، فرغم أن الصلة ظلت موصولة بسوريا عن طريق والدة مازن والجدة صاحبتى الأصل السورى فإن الأسرة اختارت أن تكون مصرية منذ قرار جد مازن بالحصول على الجنسية المصرية بعد الثورة.
يقول الحفيد مازن الخيمى: «اليوم أفكر فى الهجرة جديا، ولا أعتبرها تكرارا لمغامرة الجد الكبير أو إرث عائلى.. فالعائلة مستقرة منذ زمن، وليس لنا إلا هذا البلد، لكنى أفكر كغالبية أبناء جيلى نتيجة القلق من المستقبل والبحث عن فرص أفضل».
الأسباب التى دفعت أسرا شامية إلى الانتقال إلى مصر قديما ثم اختيار البقاء فيها رغم تبدل الأحوال لم تكن متعلقة بمكانة بلد بقدر ما كانت متعلقة باتصالهم مع واقعهم، وهو التفكير العملى الذى دفع شرائح أخرى اضطرت إلى المجىء إلى مصر من جاليات ذات طابع خاص لذات الأسباب، فالجالية السودانية التى تقدرها بعض التقديرات من 2 4 ملايين سودانى فى مصر اختلفت صورتها فى الأعوام الأخيرة بسبب هجرة الوافدين من مناطق النزاعات فى جنوب السودان ودارفور، حيث أتى بعضهم بإقامة مؤقتة على أمل أن تكون مصر معبرا له، ويسجل مكتب شئون مفوضية اللاجئين نحو 42 ألف لاجئ فقط، أكثر من نصفهم سودانيون.
ويمثل الوجود الفلسطينى فى مصر ظاهرة خاصة تسببت فيها أيضا سلسلة الحروب مع إسرائيل، إلا أن حركتهم خارج وداخل مصر وعودة البعض إلى مناطق السلطة الفلسطينية أوجدت رقما يتراوح حول الخمسين ألفا. وكل هذه الهجرات لم تكن لديها ترف الاختيار أو البحث عن مكانة، وكذلك كان الحال مع الجالية العراقية التى ازدادت أعدادها فى العقد الأخير بعد احتلال العراق.
هواجس مصرية
الكاتب العراقى الدكتور عبدالكريم العلوجى كان أحد الشهود على هذا التطور بعد 40 عاما من البقاء فى مصر كلاجئ سياسى حين اضطر إلى الفرار من العراق بعد أن وجد نفسه يوصف بأنه واحد من أعداء الثورة العراقية سنة 1968 لميوله المخالفة. وبعد رحلة هروب إلى الأردن وسوريا كان الاستقبال الأخير فى القاهرة.
ومن خلال خبرة طويلة فى مصر استطاع الخروج باستنتاج أن صورة العراقى المنتقل إلى مصر قد تغيرت بشكل كبير، فحين جاء إلى مصر عام 69 كان ضمن حيثيات الاختيار فكرة «مكانة مصر»، وذلك لأسباب وجيهة يذكرها: «جئت مصر فى 31 ديسمبر عام 69، لم أرتح فى سوريا ولا الأردن، واخترت البقاء فى القاهرة إلى اليوم لأنى كنت قد رأيتها فى عصرها الذهبى وقت تألق الروح العربية والتأثر بالزعيم جمال عبدالناصر، وكانت هى الأنسب لسياسى يؤمن بالقومية العربية ولكل اللاجئين الذين جمعتهم نفس الظروف المشابهة».
حين وفد إلى القاهرة لم يكن هناك جالية كبيرة من العراقيين، مجرد مجموعات من الطلاب والتجار واللاجئين السياسيين الذى أصبح واحدا منهم. ويضيف الدكتور العلوجى: «على مدى أربعين عاما فى مصر تلقيت حفاوة ومعاملة كريمة من جميع زملائى الصحفيين والكتاب، رغم اختلاف الأحوال الاقتصادية عن الماضى وتأثيره على المواطن العادى».
لم يكن فقط الاختلاف قد أصاب المصريين، بل أصاب شكل الجالية العراقية حسبما يشرح: «بعد الاحتلال الأمريكى وتدهور الوضع الأمنى فى العراق تغير شكل اللاجئ العراقى وأصبح العراقيون فى مصر أكثر اختلافا وتنوعا وضموا فئات مختلفة، وانعكس ذلك على بعض المظاهر التى أدت إلى اتهام العراقيين فى مناطق تجمعاتهم بالسادس من أكتوبر والهرم بأنهم تسببوا فى رفع أسعار العقارات والسلع بسبب مزايدة التجار، فى حين لم يفكر الكثيرون فى أن بعض الأسر العراقية كانت تسعى للتملك فى مصر كى تحصل على إقامة حسب القوانين، كذلك كان الاختلاف الثقافى والمذهبى سببا فى بعض ما أثير السنوات الماضية حول اللاجئين العراقيين من لغط».
أعداد العراقيين فى مصر ظلت لفترة غير محددة وقدرها البعض فى العام 2007 ب150 ألف عراقى، لكن دراسة أعدها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء ومركز دراسات الهجرة واللاجئين التابع للجامعة الأمريكية فى القاهرة. عام 2008 قدرت أعدادهم ب20 ألف عراقى فى مصر، وهو رقم غير مؤكد، وفقا للدراسة.
لعلهم لم يكونوا جميعا على نفس اهتمام الدكتور العلوجى بفكرة العروبة ودور مصر ومكانتها، إلا أن هذا لم يمنعه من الحيرة فى الأسابيع الأخيرة بعد أن تابع ظاهرة لم يرها خلال أربعين سنة قضاها فى مصر وهى التحفيز الإعلامى الذى صاحب مباريات مصر والجزائر وانتهى وقتها بمظاهر القطيعة بين البلدين، يقول: «الموقف كان صادما بالنسبة لى!» أما المفارقة فكانت أن تعبيرات مثل «مكانة مصر» و«الكرامة» التى كان يسمعها الدكتور العلوجى قبل أربعين عاما بقلب عربى مرتاح، أصبحت اليوم أداة إزعاج لأى عربى. ويعلق على هذا « لفنان والإعلامى والمثقف المصرى فى حاجة إلى العرب، عليهم ألا ينسوا هذا ولا يروجوا ما يسىء لصورتهم».
الدكتور عبدالكريم العلوجى، اللاجئ السياسى العراقى الذى لم يعد باستطاعته العودة للعراق لأسباب فيها خطر على حياته، متزوج من سيدة مصرية وعاش سنوات طويلة فى مصر إلا أن هذا لم يقلل من حيرته الأخيرة حول استخدام الإعلام للتحفيز الوطنى ضد دولة عربية.
يسجل الدكتور شريف يونس ملاحظة فى أن تعبيرات من نوعية «الكرامة»، و«المكانة» بالفعل تزامنت مع تأسيس الدولة بعد ثورة 52، لكنها تحولت اليوم إلى هاجس كبير حتى أصبحنا نبحث عن اعتراف الآخرين بنا وماذا قالوا عنا حفاظا على مكانتنا، وتفجر الموقف الأخير المصاحب لمباريتى مصر والجزائر ليبرز كيف انتقل هذا إلى المواطن العادى وأصبح قضية شخصية.
من الفئات التى لمست هذا بشكل مباشر الطلبة العرب فى مصر، عبدالله العرشى معيد بكلية الآداب بجامعة صنعاء اليمنية وواحد من 4 آلاف طالب يمنى فى مصر، يدرس الماجستير بجامعة القاهرة، ولمس هذا الاختلاف فى هذه الفترة حين كان يسأله البعض فى الشارع إن كان جزائريا أم لا وهى أسئلة تدفع إلى التفكير وماذا إن كنت جزائريا؟
المفارقة أن عبدالله العرشى كان أحد أسباب مجيئه إلى مصر فكرة «مكانة مصر العلمية»، حسب تعبيره، رغم أن الواقع يقول إن الجامعات المصرية خارج الترتيب العالمى لأفضل 500‏ جامعة على مستوى العالم، وحسبما يذكر هو أن أسعارها مرتفعة مقارنة بجامعات أخرى، إلا أنه أورد أسبابا أكثر عملية فى حديثه عن اختيار مصر: «على رأس الأسباب التعود على المصريين ولهجتهم وثقافتهم، وهو أمر يتعدى مرحلة متابعة المسلسلات المصرية، فأنا عن نفسى درس لى أساتذة مصريون منذ الابتدائى حتى صرت معيدا أكاديميا فى الجامعة، لذا فإن روح الألفة موجودة من ناحيتنا تجاه المصريين الذى رأيناهم مهندسين ومعلمين وأطباء وحتى عمالا فى مطاعمى.
مكانة مصر لدى طالب يمنى هى ترجمة لصورة من التقارب الثقافى بين البلدين، هذا ما ذكره عبدالله العرشى بشكل قاطع ويضيف: «المصريون من أقرب الشعوب إلى اليمنيين فى البساطة وعدم التكلف على المستوى الشعبى، هنا أستطيع العيش مع أسرتى بهدوء حتى شراء النقاب لزوجتى متاح ولم يعد أمرا مستهجنا ثقافيا».
يدرس عبدالله العرشى التاريخ الحديث، والمفارقة أن عائلته كانت ضمن القبائل المتحالفة ضد التدخل المصرى فى اليمن فى الستينيات وفقدت بعض رجالها فى الحرب التى عرفت بحرب اليمن. يشير بيده مع ابتسامة تدل على أن هذه الحوادث أصبحت فى طى النسيان ويقول: «كانت حربا أهلية لها ضحايا ولم تكن هناك خصومة أبدا مع المصريين، بمجرد أن انتهت الحرب دفن كل منا شهيده».
لم يخل اختياره لمصر من بعض المنغصات التى يعتبرها أمورا روتينية، فلهجته العربية أحيانا ما تكون عبئا عليه إذا ما ركب التاكسى أو إذا قرر التفاوض مع أحد الباعة عند شراء سلعة، حيث يبالغ البعض فى المزايدة على سعر السلع والخدمات للعرب.
لكنه فى الأسابيع الماضية التى شهدت حالة من الزهو فى الحديث الإعلامى عن مكانة مصر وبث الشحنات الوطنية الحماسية فى الإعلام التى صاحبت مباريات مصر والجزائر والأسابيع التالية لها، ظهر أمامه ملمح جديد لم يره طيلة ثلاث سنوات قضاها فى مصر: «كان الجميع مرحبا فى البداية بهذه الروح حتى أولادى صبغوا وجوههم بالعلم المصرى وحملوا الأعلام التى تشبه العلم اليمنى واحتفلوا مع الناس، لكن ما أعقب هذا من علو روح الغضب أصابتنا بالتعاسة خاصة حين أصبحت لهجتك المختلفة مثار تساؤل فى تلك الفترة».
قد يتحدث سائق التاكسى الذى يستقله عبدالله العرشى أو غيره من العرب المقيمين فى مصر بلهجة تحمل بعض الغلو فى الوطنية ويتحول تعبير مثل «مكانة مصر» إلى عبء على إمكانية التواصل بين الطرفين، لكن أسبابا أخرى أكثر عملية تختلف من كل شخص وجنسية عربية هى التى تبقى مصر دار مقام واستقرار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.