يضم العالم في جوفه وظاهره كنوزا أثرية مهيبة وتحفا فنية عديدة، بل ومعالم لم يقل رونقها رغم مرور الزمن، كل منها تحوي وتحمل قصتها وأسرارها الخاصة، فوراء كل اكتشاف ومعلم حكايات ترجع لعصور بعيدة وأماكن مختلفة، على رأسها تلك القطع الفريدة والمعالم التاريخية المميزة في بلادنا، صاحبة الحضارة الأعرق في التاريخ، والتي ما زالت تحتضن أشهر القطع والمعالم الأثرية في العالم. لذلك، تعرض "الشروق" في شهر رمضان الكريم وعلى مدار أيامه، حلقاتها اليومية من سلسلة "قصة أثر"، لتأخذكم معها في رحلة إلى المكان والزمان والعصور المختلفة، وتسرد لكم القصص التاريخية الشيقة وراء القطع والمعالم الأثرية الأبرز في العالم بل والتاريخ. … ما بين كنيسة ومسجد ومتحف، استطاعت "آيا صوفيا" بقبتها الضخمة ومآذنها الأربع أن تكون رمزية تاريخية ودينية وسياسية كبرى، على مدار عمرها الممتد لما يقرب من القرن ونصف، بعيدا عن كونها تحفة معمارية فريدة ومعلما تاريخيا ذا أهمية عالمية، بل وأحد أهم الآثار الفنية في العالم. • شاهدة على أهم الإمبراطوريات في التاريخ وتعد آيا صوفيا، التي يعني اسمها باليونانية "الحكمة المقدسة"، أثر ديني مهم لدى المسلمين والمسيحيين على السواء، بعدما شهدت تحولات تاريخية كبيرة تزامنت مع التحولات السياسية والدينية في تركيا، بين كاتدرائية عظيمة للروم الأرثوذكس في قسطنطينية القرن السادس الميلادي، ومسجد للمسلمين في آستانة العثمانيين في القرن الخامس عشر للميلاد. وتقع آيا صوفيا على مدخل مضيق البوسفور من الجانب الأوروبي لمدينة إسطنبول التركية التي كانت عاصمة لاثنتين من أهم الإمبراطوريات في التاريخ، الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، ثم الإمبراطورية العثمانية المسلمة. • شيدت من الذهب والأحجار الكريمة بُنيت آيا صوفيا على شكل قبة مركزية كبيرة ونصف دوائر تحيط بصحنها، فرُسمت قبتها لتكون أكثر ارتفاعا وإبهارا من أي قبة بُنيت قبلها، إلا أنها انهارت نتيجة لزلزال بعد بنائها بأربعة عقود، فأعيد بناؤها ودُعمت بأربعين عمودا. وفي بناؤها، استغل أباطرة الرومان جميع الإمكانيات لزخرفة المبنى وتزيينه، فاستُخدم الرخام بمختلف ألوانه بعدما جُلب من أنحاء العالم، وزُينت الجدران الداخلية بفسيفساء الذهب والفضة والزجاج والقرميد وأجزاء من الحجارة الملونة. • قصة الصرح التركي وقديسته المصرية صوفيا وفق دراسات لبعض الباحثين بالتاريخ اليوناني والروماني، وبالاستناد لكتاب "قاموس آباء الكنيسة وقديسيها"، الصادر عام 2001، فإن الصرح التركي ينسب للقديسة القبطية المصرية صوفيا، والتي اعتنقت المسيحية ورُزقت بثلاث بنات أسمتهن "بيستس" أي الإيمان، و"هلبيس" أي الرجاء، و"أجابي" أي المحبة. • قصة صوفيا التي تركت الوثنية ولم يتركها الوالي والقديسة صوفيا، المولودة بمنطقة البدرشين في الجيزة مع نهايات القرن الأول الميلادي، عرفت باعتناقها للمسيحية وترك عبادة الأوثان، بعد أن جاورت جارات لها مسيحيات، ورأت منهن خلقا طيبا ولمست فيهن روح المحبة والمودة، فاعتنقت ديانتهن، ولازمت الصلاة والصيام ومحبة الفقراء. ولكن، سرعان ما ذاع صيت القديسة صوفيا ووصلت أنباء إيمانها إلى الوالي الروماني في مصر، كلوديوس، والذي كان يحكم البلاد خلال عهد الإمبراطور الروماني المتعصب هادريان، وسمع قصة ترك صوفيا الوثنية وتغييرها لعقيدتها، فأمر بإحضارها ومحاكمتها. ولما مثلت صوفيا بين يدي الحاكم سألها عن معتقداتها، فأجابته بأنها كانت عمياء تعبد الأوثان ثم أبصرت وصارت مسيحية، فاستشاط الوالي غضبا وأمرها بالعودة إلى الوثنية، فأبت فأمر جنوده بتعذيبها، لعلها تعود، غير أنها ما ازدادت إلا إصرارا، فحاول يحسن معاملتها لتعود، لكنها ظلت على ثباتها، حينها أمر بقطع لسانها وحبسها في سجن مظلم، وفي النهاية أمر بقطع رأسها.
• نقل رفاتها وبناء كنيسة عظيمة لروحها بعد وفاتها بعدة قرون، ومع سقوط الإمبراطورية الرومانية وقيام الإمبراطورية البيزنطية، في بدايات القرن الرابع الميلادي، سمع الإمبراطور الروماني قسطنطين العظيم وأمه الملكة هيلانة عن القديسة صوفيا، فأمرا بنقل رفاتها من مصر إلى مقر الحكم في مدينة القسطنطينية، التي تقع في مدينة إسطنبول حاليا، وبُني لرفاتها كنيسة عظيمة سُميت كنيسة صوفيا. • بين الإسلام والمسيحية.. ظلت آيا صوفيا رمزا لكن الكنيسة القديمة احترقت، فقام الإمبراطور جستينيان الأول بإعادة بنائها في القرن السادس الميلادي، وبعد فتح القسطنطينية، حولها السلطان محمد الفاتح إلى مسجد، في القرن الخامس عشر، وبعدها بعدة قرون، وتحديدا في القرن العشرين، حولها الرئيس التركي كمال الدين أتاتورك إلى متحف، يجمع العناصر المعمارية والفنية للمسيحية والإسلام، قبل أن يتم إعادة فتحها للمسلمين كمسجد، في القرن الحادي والعشرين. الكنيسة الرئيسية لمسيحيي العالم منذ إعادة بنائها في عهد الإمبراطور جستنيان، أصبحت آيا صوفيا الكاتدرائية الرئيسية في شرق الإمبراطورية الرومانية، بل ورمزا لجبروت الإمبراطورية البيزنطية، فكانت مقرا لبطريركية القسطنطينية تجري فيها مراسم تتويج الأباطرة، وبعد انقسام الكنيسة المسيحية، في منتصف القرن الحادي عشر، إلى كاثوليكية وأرثوذكسية، أصبحت كاتدرائية آيا صوفيا الكنيسة الرئيسية ليس فقط للإمبراطورية البيزنطية، بل ولجميع الأرثوذوكس في العالم. وظلت آيا صوفيا أضخم كاتدرائية مسيحية في العالم، حتى بناء كاتدرائية إشبيلية في بدايات القرن السادس عشر، ووُصفت ب"جوهرة العمارة البيزنطية"، وعُدت واحدة من أبرز المعالم التاريخية حول العالم على الإطلاق. • المسجد الرئيسي لعاصمة العالم الإسلامي بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، بمنتصف القرن الخامس عشر، حُولت الكنيسة إلى مسجد، وأدى به السلطان محمد الفاتح أول صلاة جمعة بعد دخوله المدينة، وأصدر أوامرا بتغطية الرسوم والنقوش المسيحية، وعلى مدى السنوات التالية أُضيفت سمات معمارية إسلامية للمبنى مثل المنبر والمحراب ومآذنه الأربع. وظل آيا صوفيا، والذي أطلق عليه اسم "الجامع الكبير"، المسجد الرئيسي في القسطنطينية، حتى بناء مسجد السلطان أحمد، المعروف باسم "المسجد الأزرق"، في بداية القرن السابع عشر، والذي استلهم ومساجد أخرى سمات معمارية من الكاتدرائية. • إدراج الصرح التركي لقائمة التراث العالمي ظل "آيا صوفيا" مركزا إسلاميا يحظى برمزية كبيرة، مُرتبطا في الأذهان ب"فتح القسطنطينية" إلى أن منع مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة ورئيس الجمهورية آنذاك، إقامة الشعائر الدينية في المسجد وحوله إلى متحف فني، في القرن العشرين، بهدف "إهدائه إلى الإنسانية". وفي ثمانينات القرن المنصرم، أُدرج المتحف على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة "اليونسكو"، وأصبح واحدا من أهم الوجهات السياحية في إسطنبول، إذ يستقبل وحده ملايين الزوار سنويا.