على مدى ما يقرب من عقدين كانت دبى هى «الحلم» والجنة الموعودة التى يتسابق على الذهاب إليها «القطاع المعولم» من النخب العربية والآسيوية، للاستفادة من فرص عمل استثنائية، ونمط حياة واستهلاك أقرب للأحلام. كان إذا ذكر اسم دبى، تبادرت للذهن صورة تثير الكثير من الإعجاب. ناطحات سحاب، فنادق فاخرة يتصدرها فندق «برج العرب» الأغلى عالميا، مجمعات تسوق لا مثيل لها. باختصار، كانت دبى النموذج الأوضح لجنة الاستهلاك والمستهلكين، وكان الإعلام المقرب من الإمارة يركز على أن البترول والغاز يمثلان أقل من 6% من إيرادات الإمارة الغنية، بما يؤكد أن «المعجزة» التى نقلت الإمارة فى غضون أقل من ثلاثة عقود من غياهب القرن الثامن عشر إلى طليعة القرن الحادى والعشرين، هى معجزة من صنع عقل الإنسان وموهبته، بلا سند من موارد مادية، مما يجعل دبى النموذج الأجدر بأن يحتذى من كل المتعطشين لدخول جنة الاستهلاك الرأسمالى، فى جميع أرجاء منطقتنا الفقيرة، ومن بينها مصر. لم تتأثر هذه الصورة المشرقة لنموذج دبى بالأزمة الاقتصادية العالمية التى بدأت فى خريف العام الماضى، وأدت لتدهور بنسبة 50% فى أسعار العقارات (القطاع القائد لاقتصاد الإمارة فى السنوات الأخيرة). فالأزمة كانت عالمية، وثقة الجميع غير محدودة فى قدرة «نموذج دبى» على تجاوزها. غير أن كل ذلك تغير فى يوم «الأربعاء المشئوم» الموافق 25 نوفمبر الماضى، عندما طلبت شركة «دبى العالمية» الشركة القابضة المملوكة لإمارة دبى، التى تعتبر قاطرة الاستثمار فى الإمارة تأجيل سداد أقساط مديونيتها، وتأجيل سداد قيمة السندات المستحقة على ذراعها العقارية (شركة «نخيل»)، ليتضح بشكل درامى أن حجم مديونية «دبى العالمية» بلغ 80 مليار دولار، أى أكثر من ضعف الناتج المحلى الإجمالى للإمارة البالغ 37 مليار دولار. وبات مصير «النموذج/المعجزة» معلقا على ما ستقرره إمارة أبوظبى، المنتج الأهم للنفط والغاز فى دولة الإمارات، لإنقاذ «جنة المستهلكين» التى تراجعت بسرعة ذكرت العديدين بنموذج «مدن الملح»، درة الأديب العربى الكبير عبدالرحمن منيف. ما حدث فى الأربعاء المشئوم فتح نقاشا لم يقتصر على أسباب الأزمة وحجمها، وإنما ذهب رأسا إلى السؤال الأخطر: ما هى طبيعة نموذج دبى؟ كيف يعمل؟ وهل هو جدير بالاستنساخ؟ والواقع أنه إذا كان البترول والغاز لا يمثلان نسبة تذكر فى إيرادات دبى، وإذا كانت الإمارة لا تزرع أو تصنع شيئا يذكر (هل يذكر القارئ آخر مرة شاهد فيها كلمة «صنع فى دبى» على أى منتج؟)، فكيف تنتج الثروة فى دبى؟ هناك فى الحقيقة ثلاثة مصادر أساسية لتوليد الثروة فى دبى، هى: أولا: إيرادات دبى كمركز خدمى ومالى رئيسى يقع بالجغرافيا وسط مجموعة من الاقتصادات الغنية ولكن المغلقة نسبيا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية (العراق، إيران، السعودية..الخ). وبالتالى فإن دبى تمثل نقطة خدمات مالية وسياحية رئيسية لهذه الدول، تقوم على انفتاح مالى استثنائى (تراجع قليلا فى العامين الأخيرين استجابة لضغوط دولية ترمى لمكافحة غسل الأموال) وإعفاءات ضريبية شاملة، وصناعة سياحة تقوم حصريا على الترفيه (فى ظل غياب أى إمكانية جدية لسياحة الآثار، أو السياحة العلاجية أو التعليمية). ثانيا: نتيجة لنفس الظروف الجغرافية، فإن دبى هى المنفذ الرئيسى لعدد من الاقتصادات المنغلقة نسبيا عن الاقتصاد العالمى، إما بفعل قرارات حمائية تغلق بعض القطاعات الاقتصادية (مثال: ظلت دبى طوال عقد التسعينيات المصدر الرئيسى لتوريد الذهب إلى الهند، حيث يمنع استيراده)، أو بفعل عقوبات دولية (مثال: الاقتصاد الإيرانى، الذى تعد دبى نافذته على العالم، وآلية تجاوزه للحظر على توريد العديد من المنتجات له). ثالثا: وبنفس منطق «الواحة المنفتحة فى بؤرة اقتصادية منغلقة نسبيا»، تعد دبى مركزا رئيسيا لتصريف فوائض رءوس الأموال سواء المحلية (من إمارة أبوظبى المنتج الكبير للنفط) أو الإقليمية (الخليجية أساسا). غير أنه بالنظر لغياب قطاع إنتاجى كبير بما يكفى لاستيعاب الفوائض، فإن هذه الفوائض يتم إعادة تدويرها أساسا فى مضاربات فى بورصة دبى النشطة أو فى القطاع العقارى (القائد للدورة الاقتصادية فى دبى عبر العقد الأخير على الأقل)، أو فى استيراد السلع الكمالية الفاخرة سواء لاستهلاكها محليا، أو تصديرها لدول مجاورة. فى ظل دورة اقتصادية هذه أهم معالمها، لم يكن مدهشا أن يكون التمويل بالدين (فى صورة سندات تصدرها دوريا الشركات العاملة بدبى وعلى رأسها مجموعة دبى العالمية) والمضاربة فى القطاع العقارى سمة مركزية «لنموذج دبى» فى الأعوام الأخيرة. المعادلة التى بنى عليها «نموذج دبى» (معادلة النقطة المفتوحة فى بؤرة منغلقة، والمستندة لتمويل بالدين، ودعم اقتصادى مسكوت عنه عادة من إمارة أبوظبى) لها سوابق فى منطقة جنوب شرق آسيا، ومنطقة الكاريبى، وهى معادلة مشروطة بظروف تاريخية وجيوستراتيجية محددة. ليس فى المسألة معجزة كبرى، إلا بمقدار ما تعتبر جزر كايمان وجزيرة بليز وغيرها من «المناطق الآمنة لرأس المال» Capital Safe Havens كما تسمى معجزات كبرى جديرة بالاحتذاء. هذه المحددات الجيوستراتيجية للنموذج، ستشارك أيضا فى تحديد نوعية برنامج الإغاثة الذى ستحصل عليه شركة «دبى العالمية». فمن غير المتوقع أن تترك دبى للغرق كما يردد بعض المراقبين المتشائمين (أو المتشفين)، فى ظل تداعيات هذا الغرق الكبيرة على اقتصادات دولة الإمارات، وعلى اقتصادات البؤرة المحيطة بدبى والمعتمدة عليها كنافذة على الاقتصاد العالمى. لكن تفاصيل صفقة الإنقاذ المنتظرة، والتغييرات التى ستطلب من إمارة دبى لن تكون بعيدة عن أسئلة سياسية رئيسية. من هذه الأسئلة على المستوى المحلى مثلا، إعادة رسم توازنات القوى داخل دولة الإمارات بين إمارة أبوظبى وإمارة دبى، وحسم الخلافات فى الرؤى بين الإماراتين (وأهمها الموقف من إيران، حيث يبدى قادة إمارة أبوظبى قدرا أكبر من التشدد، أقرب للموقف السعودى مثلا من إيران، بالمقارنة بإمارة دبى المعتمدة اقتصاديا على العلاقة مع إيران). وعلى المستوى الخارجى، فإن السؤال المهم يصبح: كيف سيؤثر القرار المتوقع من مجموعة الدول الست (الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن بالإضافة لألمانيا) بتشديد العقوبات على إيران للضغط عليها فى الملف النووى، على طبيعة صفقة الإنقاذ فى دبى وشروطها؟ فإذا كان القرار هو المزيد من الحصار لإيران، فماذا سيكون المطلوب من «نافذة الاقتصاد الإيرانى على العالم»؟ من كل ما سبق، يمكن استخلاص نتيجتين أساسيتين: أولا: ضرورة التنبه إلى المحددات التاريخية والسياسية التى أوجدت نموذج دبى، والتوقف عن إضاعة الوقت فى النقاش حول استنساخ نموذج دبى فى مصر، وهو أمر لا يشبه فى سخافته سوى النقاش حول محاولة إعادة إنتاج نموذج جزيرة بليز فى دولة كالبرازيل!! ثانيا: بسبب نفس المحددات التاريخية والسياسية، فإن مراقبة طبيعة حزمة إنقاذ «دبى العالمية» والمشروطية التى ستصاحبها، ستكون أول المؤشرات على ما سيحدث فى الملف النووى «أم الملفات الاستراتيجية فى المنطقة حاليا»! الأزمة الاقتصادية فى دبى أمر لا يعنى الاقتصاديين فقط، فهو حلقة من سلسلة متصلة من الملفات الكبرى التى ستحدد معالم خريطة القوى فى المنطقة فى المستقبل القريب. من هذا المنظور أساس يجب مراقبة الأزمة فى دبى والتعامل معها.