أعلن أردوغان رئيس وزراء تركيا خلال زيارة لطهران أن تركيا وإيران يتطلعان للعب دور إقليمى فى المنطقة، يُشكل فى تقديرهما «محور استقرار فيها بعد أن تأكد لهما فشل اللاعبين الدوليين فى تحقيق السلام العالمى»، على حد تعبيره. كما أشارت بعض المصادر إلى أن هذا التجمع قد يضم سوريا والعراق. فإلى أى مدى تتوافر مقومات التقارب بين تركيا وإيران؟ وما هو الموقف العربى من هذا المتغير الإقليمى؟ بداية توجد بين تركيا وإيران ما أسميه ب«التناقضات المتحركة» بمعنى أنها قابلة للتمدد أو الانكماش، لعل فى مقدمتها أن تركيا يحكمها نظام علمانى حداثى يرفع مبدأ فصل السياسة عن الدين، وإن كان هذا الفصل آخذ فى التراجع، بعد أن استأثر حزب «العدالة والتنمية» بالحكم، وتمكن من أن يغير تعريف العلمانية المتطرف السابق، إضافة للتراجع التدريجى للميراث الأتاتوركى بحكم عوامل التطور وفعل الزمن. وبالمقابل نجد أن فى إيران نظاما ثيوقراطيا يعمل على تديين السياسة، ويقف على قمته مرشد أعلى بصلاحياته الواسعة ومكانته التى بدأت تهتز بعد التشكيك فى نزاهة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبدأت إيران تدخل معها فى أزمة مفتوحة. وفى الوقت الذى ترتبط فيه تركيا، العضو فى حلف الأطلنطى، بعلاقات تحالف وثيقة مع واشنطن، فإنها استطاعت الاحتفاظ بقدر من الاستقلالية وحرية الحركة السياسية تجاهها. وبالمقابل نجد أن إيران تتبنى مواقف تبدو مرحليا مناهضة لواشنطن، لكنها فى الواقع متطلعة لتطوير العلاقات معها فى إطار ما أسميه ب«التقنية السياسية». ولكل من أنقرةوطهران مشروعها الإقليمى الطموح فى منطقة الجوار العربية، الذى يتطلب تنسيقا مستقبليا لتحقيق التقارب بين أهدافها. ووجود هذه المتناقضات وغيرها لا يعنى استحالة تقريب المسافات السياسية بينهما. فأحيانا تتكامل المتناقضات، وللضرورة أحكامها. ويعزز من ذلك وجود مصالح اقتصادية حيوية، إضافة إلى رفض المجموعة الأوروبية انضمام تركيا إليها من ناحية، والضغوط الدولية على طهران بسبب طموحاتها النووية من ناحية أخرى. فرفض طلب عضوية تركيا فى الاتحاد الأوروبى جاء لخشيته من تأثير انضمام تركيا بملايينها السبعين من المسلمين على الهوية الأوروبية، رغم أن الدستور الأوروبى الجديد لا يحيل للمرجعية الدينية، وإنما يجعل المرجعية الأساسية هى الديمقراطية القائمة على فلسفة حقوق الإنسان ونظام السوق. ومارس الاتحاد الأوروبى ضغوطا مكثفة على تركيا لتغيير عدة قوانين داخلية، إضافة للمطالبة بتحجيم دور الجيش فى الشئون المدنية. واستثمر «حزب العدالة والتنمية» هذه الضغوط للسير فى هذا الاتجاه. وبعد أن أمضت تركيا عدة عقود فى خدمة الغرب وأهدافه، وما قامت به من جهود فى تغريب مجتمعها وتمزيق روابطه بجذوره، اكتشفت تركيا متأخرا أنها أمام فجر كاذب، فبدأت فى التوجه شرقا وإعادة البحث من جديد عن الذات فى منطقة انتمائها الجغرافى والتاريخى. واستثمر حزب العدالة والتنمية هذه المتغيرات فى إعادة توجيه مسار السياسات الداخلية والخارجية. وبالنسبة لإيران فإنها نجحت فى استخدام قوتها الناعمة فى تعزيز نفوذها فى عدة دول عربية ودعم صورتها الإقليمية «كقوة معادية لإسرائيل» لتعزيز الداخل الإيرانى، واستقطاب عواطف المحيط العربى القريب. وإذا كانت أنقرة قد نجحت فى أن يكون تعاملها الإقليمى وفق الأصول المرعية، بل إن الدور الإقليمى التركى جاء بطلب من بعض الدول العربية، بينما تجاوزت طهران فى تقدير البعض هذه الأصول، مما أدى إلى عزلتها الإقليمية النسبية، إضافة للضغوط الدولية التى تتعرض لها بسبب ملفها النووى. وفى الواقع فإن طهران ترى فى الطموح النووى وسيلة حماية للنظام ومصدر كبرياء لشعبها، وسعيها لتعامل كقوة إقليمية كبرى، فى ضوء هذه المعايير المزدوجة التى تسمح لإسرائيل بامتلاك الأسلحة النووية، فضلا عن تعرض إيران لمؤامرات الغرب عدة مرات، وما تركته الحرب العراقية الإيرانية من تداعيات على مفهومها للأمن الإقليمى. ومن هنا فإن تقارب تركيا من إيران قد يكون بداية لتصالح إيران مع بيئتها الإقليمية، ومنطلقا لإيجاد مخرج لملفها النووى. ويلاحظ أن أردوغان فى سعيه لتقريب المسافات السياسية مع إيران يصرح لصحيفة الجارديان البريطانية: «أن المخاوف الغربية من رغبة طهران فى الاستحواذ على قنبلة نووية مبنية على نميمة». وبالرغم من قلق أنقرة من الطموحات الإيرانية الغامضة، فإنها تسعى بالتنسيق مع واشنطن لاحتواء المواقف الإيرانية المتشددة، والقيام بدور الوسيط للتقريب ما بين واشنطنوطهران، وهو ما تبدى فى إبداء تركيا استعدادها لتخزين اليورانيوم الإيرانى «الترانزيت». وتجدر الإشارة إلى أنه بجانب ما وفره «فراغ القوة» فى المنطقة العربية من عامل جذب قوى لتطلع تركيا وإيران لممارسة دور الدولة الكبرى فى المنطقة فإن واشنطن أوكلت دورا إقليميا خاصا لأنقرة. فبعد الأزمة المالية المستحكمة وانشغال واشنطن بإعادة ترتيب بيتها الداخلى، بدأ حديث البعض، كفريد زكريا رئيس تحرير «نيوزويك»، عن أن «عالم ما بعد أمريكا» يتطلب تقاسم سلطانها ونفوذها مع المناطق الناشئة. وضمن هذا السياق جاء إعلان وزيرة الخارجية الأمريكية عن وضع تركيا كواحدة من سبع قوى ناهضة فى العالم، التى تتعاون معها واشنطن لحل المشكلات العالمية. وهكذا تهيأت الأوضاع الدولية والإقليمية لتبدأ تركيا فى تنفيذ سياسة «العثمانية الجديدة». وأحد أسسها المشاركة الفاعلة فى مناطق المجال الحيوى لتركيا، ووجدت فى المنطقة العربية بظروفها الراهنة الوضع المثالى لانطلاقها، وأن ذلك يتطلب اتخاذ مبادرات ومواقف لمحو سجل تركيا السيئ، الناجم عن علاقات التعاون العسكرى الوثيق مع إسرائيل. وقد لاقت هذه المواقف إجمالا تجاوبا شعبيا واسعا عزز من وضع حكومة أردوغان داخليا وعربيا. ومن غير المستبعد أن يتطور التقارب بين تركيا وإيران إلى نوع من التحالف، إلا أنه سيظل مفتقرا لثقل عربى يدعم وجوده، ومن شأن تكون هذا التجمع أن يؤثر على علاقات القوى فى منطقتنا. إلا أن ردود الفعل العربية تجاهه ما زالت فى حيرة وتردد. فبعض الدول العربية مازال يفضل النوم مع الذئاب، بمهادنة إسرائيل، الدولة المارقة والرافضة لكل الحلول السلمية، على أمل أن يجنبها المزيد من شرورها، رغم أن الواقع أثبت عكس ذلك. كما أن مجموعة من الدول العربية ما زالت مخلصة لميراث مرحلة جورج بوش الابن، وظلت متمسكة بخطوط التقسيم بين معسكرى الاعتدال والممانعة، رغم المتغيرات الإقليمية والدولية، وخيبة الأمل فى وعود إدارة أوباما، ويبدو أنه ينطبق على أحوالنا بعض أبيات قصيدة لبيرم التونسى يقول فيها: عميان وعايزين مجانين تسحبنا.. ولو يخوضوا بنا الأوحال يعجبنا.. من شأف خلافنا أمم تحب جزارها ألا تدعونا التطورات الإقليمية والدولية إلى الاقتراب من تركيا وإيران، من منطلق توظيفه للصالح العربى، وليس التنافس على الأدوار،لاسيما وأنه يجمعنا معهما روابط تاريخية وثقافية ومصلحية فضلا عن وجود أعداء مشتركون، وهو ما يهيئ للتفكير فى تكوين تجمع إقليمى موسع نطلق عليه «التحالف الإقليمى من أجل السلام»، تستبعد منه الدول المارقة والرافضة لقرارات الشرعية الدولية، والممارسة لجرائم ضد الإنسانية، ويسهم فى تحجيم العربدة الإسرائيلية فى المنطقة، فهل سيمسك العرب باللحظة؟.. أتمنى ذلك.