مصر تجهز البنية التحتية لاستيراد 2.25 مليار قدم مكعب غاز يومياً    مصدر أمريكي: ترامب قد يزور إسرائيل الشهر المقبل    مدرب باريس سان جيرمان: لا نستحق الفوز بالسوبر الأوروبي    تأهل 4 مصريات لنهائي السيدات ببطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عاما    ريبيرو يرفض مشاركة هذا الثنائي ومفاجأة تخص مستقبله    مصرع طفل على يد زوج والدته بالقليوبية    عضو "الأعلى للشؤون الإسلامية": رقمنة تراث إذاعة القرآن الكريم يعادل إعادة تأسيسها    تكريم الكاتبة دعاء سهيل بمهرجان همسة للآداب والفنون فى دورته ال 13    الداخلية تضبط طالبا اعتاد سب الآخرين على مواقع التواصل وحمل سلاح أبيض    محافظ البنك المركزى ووزير التعليم العالى يشهدان شراكة بين المعهد المصرفى وجامعتى القاهرة وسوهاج    تنسيق الجامعات 2025.. فتح باب تقليل الاغتراب لطلاب الثانوية العامة    وزير الإسكان: 18 و19 أغسطس الجاري..إجراء 3 قرعات علنية لتسكين المواطنين بأراضي توفيق الأوضاع بالعبور الجديدة    الزمالك يصرف مقدمات عقود لاعبيه للموسم الجديد ويعد بالانتظام في المستحقات    عاجل.. الأهلي يتجه لطلب حكام أجانب لمباراته أمام بيراميدز بالدوري    وزيرا الخارجية والاستثمار يبحثان آليات الترويج الفعّال للاقتصاد المصري وجذب الاستثمارات    «الأطباء البيطريين» تدعو لعقد جمعيتها العمومية العادية في 29 أغسطس الجارى    السكة الحديد: خفض مؤقت لسرعات القطارات بسبب ارتفاع الحرارة    تسليم لجان امتحانات الدور الثاني بالثانوية العامة لرؤسائها استعدادًا لانطلاقها السبت    بماذا نأخذ سياسة هذه الجريدة؟    اليوم.. آخر موعد لحجز شقق الإسكان الأخضر 2025 في 9 مدن جديدة (تفاصيل)    من مقاومة الاحتلال والملكية إلى بناء الإنسان والجمهورية الجديدة.. معارك التنوير مستمرة    25 ألف.. هل سيتم سحب فيلم "المشروع X"؟    هنادي مهنا نجمة «بتوقيت 28».. ثاني قصص سلسلة «ما تراه ليس كما يبدو»    محافظ الدقهلية: تحقيق فوري مع المتغيبين بمستشفى تمى الأمديد وجراءات صارمة لرفع كفاءة المستشفيات    طريقة عمل الكيكة العادية فى البيت بمكونات اقتصادية    مستشفى صحة المرأة بجامعة أسيوط تنظم برنامجا تدريبيا عن معايير GAHAR للسلامة    أسامة نبيه: حققنا مكاسب كثيرة من تجربة المغرب    علشان يسرق فلوسه.. قليوبي ينهي حياة جاره المسن داخل منزله    مكتبة القاهرة الكبرى تستقبل فعاليات الملتقى 21 لثقافة وفنون المرأة    إسرائيل تحذر لبنانيين من الاقتراب إلى مناطقهم الحدودية جنوب البلاد    الرقابة المالية تصدر معايير الملاءة المالية للشركات والجهات العاملة في أنشطة التمويل غير المصرفي    السودان يرحب ببيان مجلس الأمن الذي يدين خطط الدعم السريع لتشكيل حكومة موازية    بسبب خلافات أسرية.. الإعدام شنقاً للمتهم بقتل زوجته وإضرام النيران في مسكنهما بالشرقية    الائتلاف المصري يستعد لمراقبة انتخابات الإعادة: خطط عمل وأدوات رصد للتنافسية داخل 5 محافظات    خارطة طريق للمؤسسات الصحفية والإعلامية    عمر الشافعي سكرتيرًا عامًا وإيهاب مكاوي سكرتيرًا مساعدًا بجنوب سيناء    قرار قاسي في انتظاره.. تفاصيل عفو الزمالك عن فتوح وشرط جون إدوارد    بيان رسمي.. توتنهام يدين العنصرية ضد تيل بعد خسارة السوبر الأوروبي    شقيقة زعيم كوريا الشمالية: لا نرغب فى تحسين العلاقة مع الجنوب.. وتنفي إزالة مكبرات الصوت    الليلة.. انطلاق فعاليات الدورة الثالثة من «مسرح الغرفة والفضاءات» بالإسكندرية    السيسي يوجّه بتحويل تراث الإذاعة والتلفزيون المصري إلى وسائط رقمية    ما حكم اللطم على الوجه.. وهل النبي أوصى بعدم الغضب؟.. أمين الفتوى يوضح    سعر الأسمنت اليوم الخميس 14- 8-2025.. بكم سعر الطن؟    «الأعلى للطاقة» يناقش توفير القدرة الكهربائية ل14 مشروعًا صناعيًا جديدًا    إي إف جي القابضة تواصل مسيرة النمو الاستثنائية بأداء قوي خلال الربع الثاني من عام 2025    درجة الحرارة اليوم.. احمي نفسك من مضاعفاتها بهذه الطرق    ضبط موظف بمستشفى لاختلاسه عقاقير طبية ب1.5 مليون جنيه    الداخلية تضبط عدة تشكيلات عصابية تخصصت في السرقات بالقاهرة    فرنسا ترسل تعزيزات لدعم إسبانيا في مكافحة الحرائق    رئيسة القومي للطفولة تزور الوادي الجديد لمتابعة الأنشطة المقدمة للأطفال    ريبيرو يراجع خطة مواجهة فاركو في المران الختامي للأهلي    مع اقتراب موعد المولد النبوي 2025.. رسائل وصور تهنئة مميزة ب«المناسبة العطرة»    100 منظمة دولية: إسرائيل رفضت طلباتنا لإدخال المساعدات إلى غزة    خالد الجندي: حببوا الشباب في صلاة الجمعة وهذه الآية رسالة لكل شيخ وداعية    «100 يوم صحة» تُقدم 45 مليونًا و470 ألف خدمة طبية مجانية في 29 يومًا    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوطنية الكروية بين عودة الروح وطلوعها
نشر في الشروق الجديد يوم 21 - 11 - 2009

أحيانا ما تسبق محطات التليفزيون برامجها أو متابعاتها الإخبارية بتحذير للمشاهدين بأن ما سيتبع من محتوى أو مشاهد قد يؤذى أحاسيس بعضهم، لسبب أو لآخر، وأجدنى محتاجا لأن أبدأ هذا المقال بتحذير مشابه للقراء، فعلى الأرجح سيجده الكثيرون منهم مؤذيا لأحاسيسهم، تلك التى التهبت حماسا وتفجرت صخبا وفاضت فرحة وحزنا خلال الأيام الماضية بمناسبة لقاء كرة القدم بين مصر والجزائر لتحديد أى منهما يدخل «المونديال» ليسارع بالخروج منه.
وبجانب التحذير هناك توضيح واجب، أضيفه قبل النشر. هذا المقال كتب قبل يوم «الأربعاء الحزين»، وكنت أتوقع الفوز لا لشىء غير أن الجميع فى هذا البلد تقريبا، وكلهم يفهمون فى كرة القدم وأحوالها أكثر منى، كانوا واثقين منه ثقة تامة، ومن ثم فالكتابة التالية ليست مدفوعة لا بالإحباط من الهزيمة ولا هى تنطوى على شماتة من أى نوع.
ودعنى أقر بادئ ذى بدء وكى أعطى الفرصة كاملة للانسحاب المبكر درءا لجرح المشاعر بأن حالة الوطنية الكروية التى تدفقت عارمة فى أنحاء الوطن، وزانت الشوارع المصرية بألوان العلم المصرى الزاهية لم تبعث فى نفسى أملا بل حسرة، ولم أرَ فيها عودة للروح وإنما مؤشرا جديدا على «طلعانها».
ولكن دعنى أسأل من صمد من بين القراء متابعا لحديثنا الجارح هذا: ألا تعتقد أن هناك قدرا ما من المبالغة فى خطاب الحلم والأمل واللحظات التاريخية والانتصارات التاريخية، وفى مشاهد الدموع والأحضان والهتافات والمسيرات المليونية، وفى مانشتات الصحف ومهرجانات التوك شو؟ أليس هناك شىء ما مخجل فى أن نقارن مباراة للكرة أيا ما كانت أهميتها فى عالم الكرة ببناء الأهرامات والسد العالى وبمعجزة العبور فى 73؟ ألا ترى عزيزى القارئ رغم كل ما فاضت به مشاعرك خلال الأيام والأسابيع الماضية من مشاعر وطنية جارفة أن فى هذا كله نوع من الابتذال لتاريخنا، ولما ينطوى عليه ذلك التاريخ من بطولات وإنجازات وتضحيات حقيقية، وفى أمور أكثر أهمية من مباراة لكرة القدم، ساهم فى تحقيقها مصريون يتجاوز عددهم ال11 شخصا؟
وهنا فى الواقع يكمن الوجه الأساسى لانزعاجى من مظاهر الانبعاث الوطنى التى تطل علينا بين الفينة والأخرى لتسبح بنا فى بحر من التدله فى حب مصر، وذلك هو شكى العميق فى أن هذا البعث الموسمى كروى الطابع والهوية ينطوى على محتوى حقيقى من أى نوع، أو أن شيئا ما ايجابيا يمكن أن ينتج عنه.
دعنا نحاول إذن أن نمسك ببعض المكونات الرئيسية لحالة اليقظة الوطنية الكروية، استكشافا لما تحمله من محتوى، أو ربما خواء، بادئين بوجهها الأكثر قبحا، وهو ذلك الماثل فى إحاطة المنافسة الرياضية بحمى قبلية متصاعدة، تقوم على كراهية الآخر، والتحريض ضده، واللجوء إلى أى مفردات عنصرية جاهزة أو يمكن تصنيعها على عجل لوصم ذلك الآخر ككل قبيح جدير بالبغض والاحتقار، وفى نهاية المطاف مستحق لممارسة العنف ضده.
هناك نوع من السخف فى البحث فيمن بدأ بالتحريض ضد الآخر، وليس عذرا لنا أن الغوغاء الجزائريين كانوا أكثر همجية وأشد عنفا من أقرانهم من الغوغاء المصريين.
وليس عذرا مقنعا أن بلدان أخرى «متقدمة» تشهد عنفا وتحريضا كرويا. التحريض فى بلدان كبريطانيا وألمانيا يجرى فى الهامش الأيديولوجى والإعلامى، أدواته الأساسية هم المتطرفون والإعلام الأصفر بكل أنواعه. أما عندنا سواء فى مصر أو فى الجزائر فقد لعب الإعلام الرسمى، ولا أعنى الحكومى، ولكن ما يسمى بالإنجليزية الmainstream أى التيار العام، الدور الأكبر والأشد خطورة فى التحريض والتهييج وإثارة أحط المشاعر عنصرية وبدائية وتغييبا للعقل. (من الواجب مع ذلك الإقرار بأن كبريات «الصحف القومية» المصرية، وبخاصة جريدة الأهرام التزمت إلى حد كبير بتناول أخلاقى ومسئول).
واقع الأمر أنه بين عشية وضحاها تحولت الجزائر إلى عدو مصر الأول، وتحول الشعب الجزائرى إلى الهدف الأبرز لكراهية المصريين وازدرائهم، وكذا فيما يبدو أصبح الشعب المصرى بالنسبة للشعب الجزائرى وواقع الأمر أن ذلك لم يحدث فيما بين الهوامش الأكثر تخلفا وجهلا وتطرفا فى المجتمعين ولكن فى القلب من «التيار العام» لكل منهما.
الاستعداد العالى للشعوب العربية للانقلاب على بعضها البعض، لأتفه الأسباب، والاستعداد العالى عندنا هنا فى مصر، للانغماس فى حالة من الحمى الوطنية قوامها التحريض على شعب عربى آخر، تكشف عن عمق وحدة المرض الذى أصاب الوطن العربى فى العقود الأخيرة، يكاد يكثفها المثل الشعبى المصرى المعروف: «ما قدرش على الحمار، اتشطر على البردعة». حالة فشل عام وإحباط عام وإخفاق على كل المستويات وشعور عميق بالمهانة تبحث كلها عن متنفسات سهلة، عن مجالات لإخراج بعض مما يختزن فى النفوس من غضب وإحباط وشعور بالإهانة شرط ألا يكلفنا ذلك جهدا أو يعرضنا لعقاب إنها بالضبط حالة الموظف أو العامل الذى يهينه رئيسه فى العمل فيعود إلى بيته ليضرب زوجته. وما أتعسها من حالة.
(مفارقة طريفة حزينة: خلال الأيام الماضية خرج أهالى غزة رافعين الأعلام المصرية، مشجعين للمنتخب المصرى ومبتهجين بالفوز المصرى فى مباراة السبت، وكان المصريون قد «هبوا» دفاعا عن السيادة الوطنية ضد محاولات «الغزو» التى قام بها كهول غزة ونساؤها وأطفالها إبان العدوان الإسرائيلى المتوحش على أراضيهم يناير الماضى).
ويبدو لى أن الكسل هو العنوان الأبرز لحالة البعث الوطنى كروى الطابع، فهى وطنية لا تطلب منك شيئا، تضع كل طموحاتك وآمالك بل و«الحلم الوطنى» بأسره، فى 11 شخصا وربما ضعف أو حتى ضعفى ذلك الرقم من مدربين وإداريين ولاعبين احتياطيين، وكل المطلوب منك هو الدعاء والتهييص (ضرب الجزائريين بالطوب أو التعرض للضرب على أيديهم يعد «أوبشيونال»)، وذلك فى مزيج نموذجى من التدين الشكلى وافتقاد الإرادة الوطنية الذى يشكل أحد العناوين البارزة لحياتنا المعاصرة.
ليست المشكلة فى الوطنية الكروية إنها وطنية ناقصة أو قاصرة، لمجرد أنها لا تنصب على القضايا الوطنية الأهم، ولكنها بالتحديد لأنها تستعيض عن الوطنية الحقيقية بوطنية مزيفة. لسنا بحاجة للمشاركة السياسية فى تحديد مستقبل بلدنا، لسنا على استعداد لبذل الجهد وتقديم تضحية من أى نوع للدفاع عن كرامتنا الوطنية ضد أعدائنا الحقيقيين. نمسح منازلنا ونلقى بالمياه الوسخة والزبالة فى الشارع، ونتعامل مع الشارع كما لو كان ساحة حرب للجميع ضد الجميع. يكفينا وطنية أن نشجع المنتخب الوطنى لكرة القدم كل بضعة شهور.
ولكن لنلاحظ أيضا كم هبط سقف طموحاتنا «الوطنية». نريد انتصارات تاريخية لا نبذل جهدا لتحقيقها أبعد من التصفيق والهتاف ل11 لاعبا أعلناهم مصب «حلمنا الوطنى»، حيث جعلنا من الفوز فى مباراة لكرة القدم «حلما وطنيا، وحيث المباراة/ الحلم هى مجرد الدخول فى المنافسة على كأس العالم وليس الفوز به، وهو دخول نعرف مسبقا أنه يمر بباب دوار، أى دخول يتبعه خروج، ونعترف صراحة بأن «تاريخية» المباراة تنبع من أنها قد تكون فرصتنا الأخيرة فى دخول كأس العالم لعقود مقبلة.
منذ بضعة شهور كتبت فى هذا المكان، التالى: «مباريات المنتخب الوطنى لكرة القدم تبدو المؤشر الوحيد لوجود ما يمكن أن يسمى بالشعب المصرى، يختفى بانتهاء المباراة فى حالة الخسارة، وبعد بضع ساعات من الاحتفال فى حالة الفوز».
روعة الوطنية الكروية أنها وطنية لا تحتاج إلى مواطنين، يكفيها مجرد «مشجعين».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.