فى مواجهة التحديات والعقبات التى تمنع انطلاق مرحلة إيجابية جديدة فى العمل العربى المشترك، دعت «الشروق» عددا من الكتاب والمفكرين والمتخصصين العرب لإجراء حوار بشأن الشروط التى يجب توافرها فى دولة أو ائتلاف عربى يتولى مهام القيادة فى النظام العربى، ويتغلب على هذه التحديات. وكان أول من استجاب لدعوتنا المفكر العربى الكبير ووزير التربية والتعليم الأسبق فى دولة البحرين الدكتور على فخرو. وبطبيعة الحال فإن الآراء المنشورة فى سلسلة مقالات «حوار مفتوح من يقود الأمة نحو عمل عربى مشترك» تعبر عن أصحابها فقط وليس عن وجهة نظر «الشروق». فى البداية أحيى الدكتور على فخرو على مبادرته، ثم أذكر بأننى أشترك مع الدكتور على فى الانتماء إلى جيل عاش خلال حقبة زمنية عرفت بالمد القومى، كان الحديث عن الوحدة العربية فى خلالها، ينطلق عاليا من عدد من العواصم العربية. ثم لابد من التذكير على أن الوطن العربى، لم يخل منذ ظهور الدولة القومية، من مفكرين وناشطين سياسيين وزعماء، خصصوا جزءًا من اهتماماتهم وأنشطتهم للتفكير فى وسائل من شأنها تمتين العلاقات بين سكان المنطقة، وتوحد طموحاتهم وبرامجهم، وتقرب من مواقفهم حيال ما يجرى حولهم، وتجعل منهم كتلة لها وزن فى القضايا الدولية. لا شك أن جامعة الدول العربية التى نشأت فى 1945، كانت أول كيان مؤسسى عكس هذا النشاط، لتصبح شكلا من أشكال الوحدة العربية. كان عدد الدول المستقلة سبع دول فحسب، وكان الانضمام إلى جامعة الدول العربية من بين أهم أهداف المناضلين للحصول على الاستقلال فى كل إقليم عربى مستعمر. وبمرور الزمن، وصل أعضاء الجامعة العربية إلى 22 دولة. غالبية سكان هذه الوحدات يتكلمون العربية، ويدينون بالدين الإسلامى، ويشتركون فى تاريخ طويل وينتمون إلى ثقافة واحدة، جميعها عناصر تخدم المشروع الوحدوى. وكذلك، يشترك العرب فى صفات أخرى لا تعمل فى اتجاه دعم التقارب فى العلاقات والسياسات، وإنما تؤدى إلى توسيع فجوة التباعد بينهم؛ إذ توجهت غالبية الدول العربية نحو تمتين البناء الداخلى للدولة القطرية، والاهتمام بالمصالح الخاصة، وتعظيم ما يمكن التعرف عليه من خصائص ثقافية، بهدف بناء هوية ثقافية محلية، من شأنها أن تميز سكان القطر عن البقية. لذلك بدلا من أن تتحول هذه المؤسسة إلى جامعة عربية على رأى ساطع الحصرى، استمرت كجامعة للدول العربية، ولم تتمكن عبر قراراتها، تجاوز طبيعة السياسات الرسمية لكل دولة على حدة، متضمنة جميع التناقضات والخلافات التى كانت موجودة بين هذه الدول، ما أثر سلبا فى درجة فعاليتها بالنسبة لاتخاذ موقف موحد تجاه القضايا المحلية والدولية. *** وبالعودة إلى الجيل الذى عاصر حقبة المد القومى، أقول إنه تحمس للدعوة إلى الوحدة العربية، لذلك فرح وهلل عند الإعلان عن وحدة مصر وسوريا متصورا أنها النواة، وسيشتد عودها بانضمام أقطار عربية أخرى، لكن الفرحة لم تدم طويلا، إذ سرعان ما انفصلت عرى الوحدة متبوعة بسلسلة من الأحداث المؤلمة، شملت هزائم عسكرية، وسلوك دكتاتورى متعجرف أدى إلى عرقلة العمل العربى المشترك، بل وإلى حروب عربية. أزعم أن غالبية من لا يزال على قيد الحياة من جيل المد القومى ألهته الانتكاسات العربية المتكررة، ومشاغل الحياة اليومية عن متابعة التفكير فى الوحدة العربية، وفى البحث عن الإقليم القاعدة على رأى نديم البيطار. ومع ذلك، لا تزال الفكرة حية فى أذهان البعض، وتستحوذ على جانب من اهتماماتهم، ومن هنا جاءت مبادرة الدكتور على شكل عدد من الأسئلة، تتضمن الشروط التى يجب توافرها فى الإقليم أو التجمع، الذى سينجز مشروعا للنهوض بالأمة العربية، ومؤكدا على ضرورة الرجوع إلى تجربة الوحدة المصرية السورية. لكن هل من الحكمة التفكير فى مشروع لتوحيد الأمة العربية، والبحث عن إقليم قاعدة أو إقليم قائد، بنفس الخصائص التى تصورها مفكرو وسياسيو حقبة المد القومى، فى خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين؟ *** لا تختلف الغالبية العظمى لعرب اليوم عن الذين عاشوا خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين من حيث الدين واللغة. لكن اختلافات كثيرة ستظهر لو قررنا المقارنة بين الجيلين بالنظر لمؤشرات كثيرة. تعرض العالم منذ ذلك التاريخ إلى تغييرات جذرية تمثلت فى تطور علمى وتقنى فاق جميع التوقعات، أثر على العلاقات بين الأفراد وبين الدول فى مجالات كثيرة، طالت جميع مجالات الحياة بما فى ذلك علاقات العداوة والصداقة، والتعاون والصدام. تغير النظام العالمى الذى ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وانتهت معه الحرب الباردة، وبرزت قوى اقتصادية وسياسية جديدة، كما تغيرت خارطة التجمعات الإقليمية. هذه عوامل خارجية لكن لها تداعيات على الأوضاع الداخلية. كما تعرض الوطن العربى إلى أحداث جسام، تركت آثارا مدمرة على العلاقات بين أجزائه، نكتفى بذكر اثنتين منها: حروب وانتفاضات؛ حرب الخليج الأولى والثانية، وانتفاضات الربيع العربى، أصبحت أجزاء من الوطن العربى تعانى حالة تشرذم وفوضى ساهم فى حدتها خطاب كراهية انتشر على نطاق واسع، ولم يعد محصورا بين فئات محدودة تنتمى لدولتين مختلفتين، إنما انتشر بصورة غير مسبوقة فى داخل القطر الواحد، وبدا أن عدد الدول مرشح إلى الزيادة وليس إلى النقصان. وعلى ضوء الأوضاع العربية السائدة، أرى أن مشروعا لعمل عربى مشترك يمر عبر مراحل. يمكن أن يتوجه الاهتمام خلال المرحلة الأولى نحو تقوية عناصر التعاون بين الدول العربية، وذلك بإزالة أكبر قدر ممكن من المكونات السلبية فى العلاقات بين الكيانات السياسية الرسمية، وتطبيق أكبر قدر ممكن من الإجراءات التى من شأنها أن تخفف من شدة الإجراءات التى تعرقل انتقال وإقامة وعمل المواطنين العرب عبر الحدود، والعمل على الأخذ بخصائص الدولة المدنية التى من شأنها أن تغير مكانة الفرد العربى أينما وجد، وتنقله من موقع الرعية إلى موقع المواطن بكل ما تعنيه هذه الصفة من معانٍ، والتعاون على نشر المعرفة وتوطين العلم وتطبيقاته التكنولوجية، وتطوير اقتصاد تكون النسبة الكبرى فى الناتج القومى الاجمالى من مصادر غير المواد الخام.