وزير التعليم: تفعيل دور وحدة التدريب بالمدرسة    إحالة بيان الحكومة بشأن الموازنة إلى لجنة "الخطة".. ورفع الجلسة العامة حتى 7 مايو    وزير العمل ومحافظ جنوب سيناء يُسلّمان 25 عقد عمل لذوي الهمم    الصحة تكشف اخر مستجدات المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية    وزير النقل وسفير فرنسا يتفقدان القطار الكهربائي الخفيف والخط الثالث لمترو الأنفاق    فيديو| فتح باب التصالح على مخالفات البناء.. أبلكيشن لملء البيانات وتفاصيل استعدادات المحافظات    إيران تدين العقوبات الأوروبية المتوقعة وتصفها بأنها " غير قانونية"    روسيا تهدد بتعزيز الهجمات على أوكرانيا ردا على المساعدات الأمريكية لكييف    ترامب يهاجم جلسات محاكمته: وصمة عار وفوضى    الكونفدرالية، المندوه رئيسا لبعثة الزمالك في غانا    الأهلي: عقود الرعاية تمثل أهمية كبيرة للنادي في ظل حجم الانفاق    نجم العين يتحدى الهلال قبل موقعة نصف نهائي أبطال آسيا    وزير الشباب ومحافظ شمال سيناء يشهدان ختام مهرجان الهجن    أستون فيلا يمدد عقد إيمري حتى 2027    النار أكلت لعب الأطفال.. السيطرة على حريق مخازن الخانكة- صور    11 معلومة مهمة بشأن امتحانات الثانوية العامة.. ما الضوابط الجديدة؟    استحل محارمه وتخلص من طفل السفاح.. الأب واقع ابنته وأنجب منها في الشرقية    مكتبة الإسكندرية تشهد فعالية "مصر حكاية الإنسان والمكان"    في رمضان 2025.. محمد سامي يفجر مفاجأة بشأن مي عمر    مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير يشكل لجنة تحكيم نسائية تضم 5 مبدعات    أشرف عن ضوابط تغطية الجنازات: غدا نحدد الآليات المنظمة مع «الصحفيين»    موجة حارة وعاصفة ترابية- نصائح من هاني الناظر يجب اتباعها    محافظ بوسعيد يستقبل مستشار رئيس الجمهورية لمشروعات محور قناة السويس والموانئ البحرية    وزير العدل: تشكيل لجنة رفيعة المستوى لوضع مشروع قانون ينظم استخدامات الذكاء الاصطناعي    التصريح بدفن جثة طفلة سقطت من أعلى بأكتوبر    رئيس جامعة عين شمس يبحث مع السفير الفرنسي سبل تعزيز التعاون الأكاديمي    الرقابة المالية تسمح بحضور الجمعيات العمومية لصناديق التأمين الخاصة إلكترونيا    البورصة تخسر 86 مليار جنيه في ختام تعاملات منتصف الأسبوع    الجامعة العربية تشهد اجتماع لجنة جائزة التميز الإعلام العربي    فيلم "شقو" يحصد 916 ألف جنيه بدور العرض أمس    عبير فؤاد تتوقع ظاهرة غريبة تضرب العالم خلال ساعات.. ماذا قالت؟    فتح أبواب متحف السكة الحديد مجانا للجمهور احتفالا بذكرى تحرير سيناء    100 قرية استفادت من مشروع الوصلات المنزلية بالدقهلية    «الصحة» و«البترول» توقعان اتفاقيتين لتقديم الرعاية الصحية في بورسعيد ومطروح    محافظ المنيا: تنظيم قافلة طبية مجانية في مركز أبو قرقاص غدا    سيدات سلة الأهلي يواجه مصر للتأمين في الدوري    دار الإفتاء: شم النسيم عادة مصرية قديمة والاحتفال به مباح شرعًا    هل يحق للزوج التجسس على زوجته لو شك في سلوكها؟.. أمينة الفتوى تجيب    مصرع سائق في حادث تصادم بسوهاج    «نجم عربي إفريقي».. الأهلي يقترب من حسم صفقة جديدة (خاص)    محافظ كفر الشيخ ونائبه يتفقدان مشروعات الرصف فى الشوارع | صور    نستورد 25 مليون علبة.. شعبة الأدوية تكشف تفاصيل أزمة نقص لبن الأطفال    هل مكملات الكالسيوم ضرورية للحامل؟- احذري أضرارها    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    السفير طلال المطيرى: مصر تمتلك منظومة حقوقية ملهمة وذات تجارب رائدة    فرج عامر: الفار تعطل 70 دقيقة في مباراة مازيمبي والأهلي بالكونغو    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    مجلس النواب يحيل 23 تقريرًا برلمانيًّا للحكومة -تعرف عليها    قطاع الدراسات العليا بجامعة القناة يعلن مواعيد امتحانات نهاية الفصل الدراسي الثاني    ضبط شخصين بقنا لقيامهما بإطلاق أعيرة نارية تجاه أحد الأشخاص مما أدى إلى وفاته    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقصف مناطق لحزب الله في جنوب لبنان    رئيس الأركان الإيراني: ندرس كل الاحتمالات والسيناريوهات على المستوى العملياتي    الرئيس السيسى يضع إكليلا من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول    الثلاثاء 23 أبريل 2024.. الدولار يسجل 48.20 جنيه للبيع فى بداية التعاملات    مستدلاً بالخمر ولحم الخنزير.. علي جمعة: هذا ما تميَّز به المسلمون عن سائر الخلق    الإفتاء: التسامح في الإسلام غير مقيد بزمن أو بأشخاص.. والنبي أول من أرسى مبدأ المواطنة    علي جمعة: منتقدو محتوى برنامج نور الدين بيتقهروا أول ما نواجههم بالنقول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن مستقبل الثقافة فى مصر 6
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 02 - 2019

يبدو أن طه حسين بعد أن فرغ من أهم قضايا التعليم والثقافة ابتداء من التعليم الأوَّلى وصولًا إلى التعليم العالى، واضعًا ذلك كله وسط إطار من العمل الثقافى العام والخاص، شعر بأنه يجب أن يختم كتابه باستكمال الحديث عن «هوية الثقافة المصرية» وتحديدها من حيث هى كيان أشمل يمثل القوى الناعمة الحقيقية لمصر. ولم يكن فى ذلك تراجعً عمّا سبق أن افتتح به الكتاب من أن العقل المصرى ينتسب إلى البحر الأبيض المتوسط من حيث موقعه الجغرافى وعلاقاته التاريخية فى آن، لكنه أراد أن يتحدث عن هوية الثقافة المصرية كلها فى نهاية الكتاب، بما فيها العقل المصرى الذى ينتمى إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط، وكأنه كان فى هذا القسم الأخير يردُّ على ما يمكن أن يتبادر إلى الأذهان من سوء ظن فى بعض هذه المواضع أو تلك أو من اتهام، كان يوجه دائمًا إلى أمثال طه حسين ومحمد حسين هيكل على وجه الخصوص، من أنهما «إقليميين» بمعنى أنهما ينظران إلى الثقافة المصرية من منظور يستبعد العلاقات العربية الوثيقة بين مصر وغيرها من الأقطار العربية، ويمكن أن يجد القارئ الذى يحب أن يستزيد من هذا النقد، المزيد فى كتاب ورج أنطونيوس «يقظة العرب: تاريخ حركة القومية العربية»، أو كتابات ساطع الحصرى، التى ينقد فيها الدعوات الإقليمية التى بدا له أنها مجافية لنظريته وكتبه عن القومية العربية. ولم يكن طه حسين فى حقيقة الأمر منكرًا للعلاقات الثقافية العريقة بين مصر وبلدان الوطن العربى، وإنما كان يؤمن بهذه العلاقات كما كان يؤمن بأن الدولة المصرية لها دور لا ينبغى أن تتنكر له، فعليها تبعات لا بد أن تؤديها للبلاد العربية، وكان يردد «إن مصر فيما مضى من العهود الإسلامية كانت مصدر الثقافة والعلم للأقطار العربية فى الشرق القريب، وأنها لم تقصِّر فى ذلك إلا حين اضطرها السلطان العثمانى إلى التقصير فيه. فأما.. وقد استردت (مصر) استقلالها، فيجب أن تسترد مكانتها الثقافية فى الشرق القريب». فمن المؤكد عند طه حسين ضرورة «التعاون الثقافى بين الأقطار العربية التى تجمعها وحدة اللغة والدين والمثل الأعلى، والتى تشترك فى منافع اقتصادية عظيمة الخطر». فواجب مصر نحو الأقطار العربية واجب مفروغ منه فى ذهن طه حسين الذى يؤمن بالوحدة التى تجمع العرب على أساس من الدين واللغة، ولكنه لم يكن يرتب على هذا الإيمان الحماسة البالغة التى كانت تدفع ساطع الحصرى مثلًا إلى الإيمان والدعوة إلى الوحدة القومية على نحو ما كتب عنها الحصرى أو ورج أنطونيوس فى كتاباتهما القومية الساعية إلى التحرر من الدولة العثمانية. ولذلك يختم طه حسين كتابه بالحديث عن الثقافة المصرية مؤكدًا أن لها حضورًا متميزًا، وأنها تقوم على «وحدتنا الوطنية» أولًا، وتتصل اتصالًا قويًّا عميقًا بنفوسنا المصرية الحديثة، كما تتصل اتصالًا قويًّا عميقًا بنفوسنا المصرية القديمة أيضًا. «تتصل بوجودنا المصرى فى حاضره وماضيه، ذلك أنها تصور آمالنا ومُثلنا العليا فى الحياة الحاضرة، كما تتصل بمستقبلنا أو تدفعنا دفعًا إلى هذا المستقبل». ويؤكد طه حسين ذلك بقوله للقارئ: «لك أن تنظر فى أى لون من ألوان العلم والأدب والفن.. التى ينتج فيها العلماء والأدباء والفنانون المصريون، فسترى أنها مطبوعة بالطابع المصرى القوى الذى لم يستطع الزمان أن يمحوه أو يعفى آثاره، سترى فيها هذا الذوق المصرى الذى يتوسط بين الأشياء، والاعتدال المصرى الذى يشتق من اعتدال الجو المصرى، والذى يأبى على الحياة المصرية أن تسرف فى التجديد، ثم ستراها قد اتخذت اللغة العربية المصرية لها أداة مرنة... لا تنبو عن الذوق ولا تتجافى عن الطبع ولا تكلف قارئها مشقة وجهدًا». هذه اللغة مشتركة بين مصر وغيرها من البلدان العربية. «ولكن لمصر مذهبها الخاص فى التعبير، كما أن لها مذهبها الخاص فى التفكير». ولا أدل على ذلك من أن البلدان الأخرى تتأثر بمصر، بل لعلها تتنافس فى تأثير مصر فى تفكيرها وتعبيرها. والثقافة المصرية تنبنى على عناصر تكوينية ثلاثة هي: التراث المصرى القديم، والتراث العربى الإسلامى، وما كسبته مصر وتكتسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوربية الحديثة. والحق أن هذه العناصر الثلاثة لا تزال قائمة إلى اليوم، فالهوية الثقافية المصرية حاليًا هى هى نفسها تعود إلي: التراث المصرى الفرعونى القديم أولًا، وإلى التراث العربى الإسلامى ثانيًا، وإلى ما كسبته مصر وتكتسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة فى العالم المتقدم حولها، ليس فى أوروبا الحديثة التى كانت فى ذهن طه حسين فحسب، وإنما فى العالم المتقدم كله بشرقه وغربه. هذه العناصر الثلاثة التى يتحدث عنها طه حسين مختلفة متناقضة فيما بينها أشد الاختلاف والتناقض، لكنها عندما تلتقى فى مصر تقوم مصر بتصفيتها وتهذيبها ونفى ما لا تقبله منها، واستبقاء ما ترى فيه غذاء لطابعها السمح، ولذلك فهى ثقافة تتكون من عناصر متعددة تستبقى مصر، أو يستبقى العقل المصرى أصفى ما فيها، وأكثرها قدرة على التفاعل مع مزاجها الخاص. وهذا ما يؤسس الطابع الوطنى للثقافة فى مصر. هذه الثقافة ليست وحيدة البُعد ولا تنبنى على عنصر واحد تنغلق عليه، وإنما هى ثقافة تتعامد فيها حقب الزمان على الامتداد الأفقى للمكان، وذلك على النحو الذى تحدث عنه جمال حمدان فى كتابه العظيم «شخصية مصر، دراسة فى عبقرية المكان»، فى نوع من الوعى الذى يذكرنا بطه حسين، خصوصًا عندما يقول الأخير: «طبيعة الحياة الإنسانية قد أتاحت للناس أن يخصصوا العام فيطبعونه بطابعهم، وأن يعمموا الخاص فيجعلوه شركة بين الأمم جميعًا. فالعلم لا وطن له ولكنه إذا استقر فى وطن من الأوطان تأثر بإقليمه وبيئته ليستطيع أن يتصل بنفوس ساكنيه، والفن شخصى متأثر بمنتجه مصور لنفسه ومزاجه لكنه لا يكاد يظهر حتى يكتسب من وجود نفسه صفة... تصل بينه وبين الناس جميعًا». ويعنى ذلك عند طه حسين أن الثقافة المصرية ثقافة وطنية إنسانية فى آن، ففيها شخصية مصر الباقية الخالدة، وهى فى الوقت نفسه ثقافة إنسانية قادرة على أن تغزو قلوب الناس وعقولهم أيًّا كانوا. هذا الفهم المفتوح لطبيعة الثقافة المصرية يؤسس فهمًا منفتحًا للثقافة الوطنية، فهما لا يجعلها تنغلق على نفسها بالقياس إلى غيرها، بل يفتحها على الأفق الرحب الذى يؤمن بأن ثقافة العالم كله ثقافة واحدة، تقوم على التنوع البشرى الخلاق. فكل ثقافة من ثقافات العالم لها خصوصيتها النابعة من تاريخها الخاص، أو موضعها المخصوص فى الزمان والمكان، ولكن لها عموميتها التى تجعلها تشارك غيرها من ثقافات العالم فى المسعى الإنسانى الذى يهدف إلى الارتقاء بالإنسان من مستويات الضرورة إلى آفاق الحرية. ولا يتباعد هذا المنظور للثقافة بعامة عن المنظور الخاص لطه حسين إلى الأدب بخاصة. فالأدب عند طه حسين هو فردى خاص من حيث علاقته بمبدعه الفرد، وهو أعم نسبيًّا من حيث إن مبدعه الفرد هو عضو فى مجتمع عربى مخصوص، وهو إنسانى بالمعنى العام من حيث إنه عندما يغوص فى أعماق مبدعه الفرد يصل إلى الجذر الإنسانى الذى يصل هذا المبدع بغيره من أبناء الإنسانية جمعاء. ولهذا كان مفهوم الأدب عند طه حسين يتحدد بكونه مرآة لمبدعه الفرد أولًا، ومرآة للمجتمع الذى يعيش فيه هذا المبدع ثانيًا، ومرآة للإنسانية التى ينتمى إليها مجتمع هذا المبدع والمبدع نفسه فى وقت واحد. ولذلك يقول طه حسين: «ليست الثقافة وطنية خالصة ولا إنسانية خالصة، ولكنها وطنية إنسانية معًا، وهى فى أكثر الأحيان فردية أيضًا. فمن ذا الذى يستطيع أن يمحو بيتهوڤن من موسيقى بيتهوڤن، ومن ذا الذى يستطيع أن يمحو راسين من شعر راسين؟!». وإذن فهناك «فى مصر ثقافة مصرية إنسانية، فيها شخصية مصر القديمة الهادئة، وفيها شخصية مصر الباقية الخالدة، وهى فى الوقت نفسه إنسانية قادرة على أن تغزو قلوب الناس وعقولهم وتخرجهم من الظلمة إلى النور، وقادرة على أن تتيح لهم من اللذة والمتاع مما يجدونه أو لا يجدونه فى ثقافتهم الخاصة. وآية ذلك أن هذه الثقافة تعلّم كثيرا من العرب غير المصريين وتلذهم، وأن القليل الذى ترُجم إلى اللغات الأوربية قد أعجب الأوربيين وأرضاهم. ويعنى ذلك ضرورة إيماننا بالأبعاد الفردية والوطنية والقومية والإنسانية لهذه الثقافة. صحيح أن هذه الأبعاد القومية لم تكن واضحة فى ذهن طه حسين وضوحها فى ذهن ساطع الحصرى أو ورج أنطونيوس مثلا. ويرجع ذلك إلى أن طه حسين لم يكن قد شهد صعود الصحوة القومية التى حققها أو أسهم فى وجودها دعاة الفكر القومى على وجه التحديد. ولكنه على الأقل وهذا هو المهم- لم يكن ينكر البُعد القومى الذى كان يراه فى علاقة مصر ببقية الدول العربية، وإنما كان مشغولًا كل الانشغال بأن يؤكد «الهوية الوطنية للثقافة المصرية» أولًا، ثم يصل هذه الهوية الوطنية بالهوية الأكثر اتساعًا ذات البُعد الإنسانى الذى يشمل ثقافات العالم كله خصوصًا فى تنوعها الخلاق، ولذلك كان يقول: «هذا التمثال المصرى وطنى خالص ممثل للطبيعة المصرية والذوق المصرى، ولكنه لا يكاد يظهر فى ضوء الشمس، حتى يعجب المثقفين جميعًا ويتصل بنفوسهم». «وهذا اللون من ألوان الموسيقى ألمانى أو فرنسى يصور فانر كما يصور ألمانيا، ويصور برليوز كما يصور فرنسا، ولكنه لا يكاد يوقع حتى يهز قلوب المثقفين جميعًا ويتصل بأذواقهم». ومن المؤكد أن هذا الفهم لطبيعة الثقافة الوطنية فى الثلاثينيات كان فهمًا أرحب من فهم طبيعة الثقافة الوطنية كما صاغه الماركسيون فى الخمسينيات أو الستينيات (انظر كتابي: الهوية الثقافية والنقد الأدبى). والحق أنه لا تناقض جذرى بين الفهم الليبرالى لطه حسين لطبيعة «الثقافة الوطنية»، والفهم الماركسى لها فى الخمسينيات والستينيات، لكن المؤكد أن الفهم الماركسى كان يضيق على الثقافة المصرية بما لم يكن يسمح لها بالانفتاح الذى كان موجودًا فى عقل طه حسين وتركيبته الثقافية الخاصة التى كانت تجعله مثقفًا يضرب بجذوره فى الأزهر المصرى ويستوعب عقله معارف السربون الفرنسى، ويرى ببصيرته طبيعة التنوع الثقافى الخلاق لأقطار الكرة الأرضية بأسرها. ولذلك كتب عن «نيكوس كازانتزاكيس» اليونانى الباحث عن حرية وطنه اليونان، كما كتب عن أدب «كافكا» المتشائم الذى خاب أمله فى الحضارة الأوربية بعد الحرب العالمية الأولى. وتطلع ببصيرته إلى مستقبل ثقافته ليجعل هذا المستقبل مفتوحًا على الدنيا فى مستقبلها الأوسع وليس فى المدى المحدود لمستقبل الثقافة فى مصر وحدها. والمؤكد فى الوقت نفسه أن طه حسين لم يكن من «القوميين العرب» بالمعنى الذى استقر فى الخمسينيات والستينيات الناصرية، فهذا المصطلح يرجع ازدهاره إلى حزب البعث بالدرجة الأولى، وإلى المشروع الناصرى القومى الذى هدف إلى تحقيق الوحدة العربية بالدرجة الثانية. ولذلك كان المشروع الناصرى يلتقى مع المشروع البعثى فى ثلاثية: الوحدة، الحرية، العدالة الاجتماعية أو الاشتراكية. هذا الثالوث كان هو الشعار الذى يجمع ما بين الناصرية وحزب البعث فى التوجه القومى، ولم يكن يباعد بينهما إلا ترتيب أضلاع المثلث فى هذا المشروع القومى، وما انتهى إليه المشروع الناصرى من استبدال الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية التى كان يلح عليها طه حسين الذى لم يكن يخرج عن الدائرة الليبرالية لأبناء جيله، ولهذا كان يصطدم جيله الذى ضم محمد حسين هيكل وأمين الخولى بجيل ساطع الحصرى أو أبو خلدون الذى كان يدعو صراحة إلى مشروع قومى يتحد فيه العالم العربى فى وطن عربى واحد، مستقل بكيانه المتحد عن النفوذ الاستعمارى غير العربى، سواء كان تُركيًّا عثمانيًّا أو فرنسيًّا أو إنجليزيًّا، فقد كان هؤلاء جميعًا بمثابة مستعمرين لا بد من الاستقلال عنهم والتحرر من سيطرتهم. ولم يكن جيل طه حسين معاديًا لهذا المشروع القومي؛ ذلك لأنه كان يهتم بالقطر المصرى بالدرجة الأولى، ويرى فى مصر جغرافيًّا- الركن الركين لانطلاقة العرب، خصوصًا أن التاريخ المصرى كان يدعمه فى ذلك، كما كان يدعمه وأفراد جيله الوعى الحماسى لهذا التاريخ الفرعونى لمصر، وهو التاريخ الذى أخذ يتكشف بعد ثورة 1919 ذات البُعد الوطنى لا القومى، فضلًا عن ابتداء الكشف عن الجذور الفرعونية للوطنية المصرية بعد ثورة 1919، وذلك فى سياق وصل إلى ذروته باكتشاف مقبرة «توت عنخ آمون» سنة 1922، وتصاعد الاكتشافات الفرعونية بعد ذلك،
وهو الأمر الذى أجج الشعور الوطنى المصرى، وذلك منذ أن وعت الوطنية المصرية معنى شعار «مصر للمصريين». ولذلك شحبت المعانى القومية فى أذهان مفكرى مصر الليبراليين الذين ظهروا بعد ثورة 1919، ولم يلتفتوا بالقدر نفسه للمعانى القومية التى أخذت تظهر فى كتابات ورج أنطونيوس أو ساطع الحصرى الذى يمكن أن نعتبره المؤسس الفعلى لفكر القومية العربية فى العالم العربى. ومن الطريف أن كلمتى «الوطنية» و»القومية» يرجعان إلى معنى واحد فى الترجمة عن وإلى اللغات الأوربية. فالقومية العربية توازى الاصطلاح الأجنبيArab Nationalism بينما الأدب الوطنى عند محمد حسين هيكل - مثلًا- هو National literature. ولا يعنى هذا شيئًا سوى تأكيد التقارب بين المعنى «الوطنى» و«القومى» فى مجال البحث عن الاستقلال عن الخلافة العثمانية من ناحية، والاستعمار الأجنبى من ناحية موازية. ولذلك كان طه حسين يؤكد على البُعد الوطنى فى بحثه عن مستقبل الثقافة المصرية التى كانت تستند إلى ركنين أساسيين فى وعيه، هما الركن الفرعونى والركن العربى الإسلامى. وبقدر ما كان يرى أن هذه الثقافة تنتسب إلى ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم إلى الثقافة الأوربية الحديثة، فإنه فى الوقت نفسه لم يكن ينكر العلاقة الوثيقة بين هذه الثقافة والثقافة العربية بأصولها الإسلامية والروحية التى تتصل مصر بها.
وعندما كتب طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، فإنه كان يحلم بمستقبل تنهض فيه الثقافة المصرية وتتأسس على أسس معاصرة من حضور الدولة الوطنية المدنية الحديثة بكل لوازمها التى تصل الديمقراطية بمبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية فى الوقت نفسه. ويبقى السؤال الأهم: هل تحقق حلم طه حسين بعد مرور ثمانين عامًا على صدور كتابه، وبعد مرور ستة وأربعين عامًا على وفاته سنة 1973؟ أعتقد أن النتيجة سوف تكون بالنفى. وإذا أردنا دليلًا على ذلك فلنسأل أنفسنا: هل أصبحت مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة حقا؟ وهل تحققت اللوازم الكاملة لهذه الصفات من ديمقراطية التعليم أو ديمقراطية الحياة السياسية بوجه عام؟ لقد حقق جمال عبد الناصر آخر أحلام طه حسين، وهى مجانية التعليم الجامعى، كما حاول إصلاح التعليم الأزهرى، ولكن ثنائية التعليم الدينى والمدنى بكل ما يترتب عليها من مخاطر لا تزال قائمة، ومحافظة التعليم الأزهرى وجموده بكل ما يترتب عليهما من مخاطر لا تزال قائمة. ومجانية التعليم نفسها أصبحت أمرًا غير واقعى بعد أن أدى ضعف التعليم إلى ازدهار الدروس الخصوصية ومراكز التقوية الخاصة.
أما حلم طه حسين عن تعليم اللغات الأجنبية وازدهار الترجمة فقد ذهبت كلها أدراج الرياح، ولا يستطيع أى مُنصف سوى أن يقول إن حال التعليم المصرى الحالى لا يزال متدنيًا إلى أبعد حد بالقياس إلى المشروع الذى وضعه طه حسين فى كتابه سنة 1938. وهى نتيجة مؤسفة تدعونا جميعًا إلى أن ندق جرس إنذار عن المستقبل، تمامًا كذلك الإنذار الذى حققه نشر تقرير «Nation in danger» فى الولايات المتحدة. وها نحن بالفعل وصلنا إلى درجة الخطر سواء فى تعليمنا أو ثقافتنا العامة، وبعد أن كانت مصر الدولة الرائدة ثقافيًّا وتعليميًّا، انحدرت مكانتها حتى بالقياس إلى عدد من الأقطار العربية التى ساعدتها مصر على النهوض بالتعليم فيها، ولذلك فإن الكتابة عن «مستقبل الثقافة فى مصر» لطه حسين ينبغى أن تتحول إلى ضغط على جرس الإنذار بالخطر الذى يهدد مستقبل وطننا كله إذا لم نتدارك الأمر ونبدأ بالفعل فى العودة إلى مشروع طه حسين والإفادة منه. وأعلمُ بالطبع أن وضع العالم اليوم لم يعد كما كان عليه قبيل قيام الحرب العالمية الثانية 1939، وأن الكرة الأرضية قد تعولمت وتحولت إلى قرية كونية بعد الثورة التكنولوية فى الاتصالات والمعارف الحديثة، ولكن المبادئ الأساسية التى ينطوى عليها كتاب طه حسين لا تزال صالحة إلى اليوم، وتدفعنا إليها التحديات التى تواجهنا والتى لا نجد مواجهة حاسمة لها إلا بالعودة إلى كتاب طه حسين الذى نسيناه ما يزيد عن ثمانين عامًا.
لمزيد من مقالات جابر عصفور;


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.