قيل الكثير.. وكتب الكثيرون عن تقرير جولدستون باعتباره الخطوة الأولى على طريق تفكيك المشروع الصهيونى ووضعه فى السياق التاريخى غير القابل للتزوير. وبمعنى آخر استطاع هذا التقرير تسليط أضواء كاشفة على الصهيونية المستولِدة لوجود إسرائيل، كما رفع الغطاء عن جرائم الحرب وخروقات القانون الدولى الإنسانى أثناء حرب إسرائيل على قطاع غزّة فى نهاية 2008 وبداية 2009. وكون هذه الإدانة ثابتة وموثقة، أقامت إسرائيل الدنيا ولم تقعدها باستخدامها شراسة المفردات وانفعالية التهجم الرسمى على التقرير وعلى رئيس لجنة التحقيق التى أعدته، مما يؤكد تكرارا أن إسرائيل تعتبر نفسها فوق أى قانون وغير معنية بالامتثال للقرارات الصادرة عن مؤسسات الأممالمتحدة، وبالتالى لا يحق لأية مؤسسة دولية أو إقليمية تعريضها للمساءلة.. ناهيك للمعاقبة، وكأن مجرد وجودها يمنحها خصائص استثنائية فى المعاملة والاعتبار. هذا ما يفسر الموقف الصهيونى من أن أى نقد أو اعتراض أو معارضة لسياسات إسرائيل أو ممارساتها العدوانية يعتبر بمثابة برهان عن «كره دفين لليهود» وبالتالى اعتبار أى نوع من مساءلة إسرائيل «الدولة اليهودية» المطلوب الاعتراف بها بهذا التوصيف مسا بجوهر الكيان وخطرا يتعرض لوجوده.. من هذا المنطلق تعمل إسرائيل على إقفال الباب أمام أى حوار أو نقاش أو بحث، تماما كما ترفض بشكل قاطع المفاوضات باتجاه أن تكون بنتيجتها فلسطين «دولة مستقلة ذات سيادة كاملة على أرضها»، وذلك بطرحها إما لشروط تعجيزية أو بوضعها لبنود أو قيود خانقة، وبالتالى لاغية لممارسة الحقوق الوطنية الكاملة. وقد كان هذا أسلوبها فى التمدد الاستيطانى وفى تعاملها مع عرب إسرائيل، أما الهدف الأبعد فهو حرمان الشعب الفلسطينى من حقه فى أرض يقيم عليها دولته المتكاملة. هذا ما يفسر أيضا السياسة التوسعية التى تنتهجها إسرائيل ولماذا ترفض منذ قيامها التعريف والإعلان عن حدودها كاملة.. لذلك فإن استيعاب المعنى أصبح ضروريا ويمثل حاجة ماسة إلى مراجعة جذرية نعيد من خلالها النظر حول كيفية التعامل مع إسرائيل مقاومة أو مفاوضة أو مهادنة مطبّعة أو إدمانا على المباحثات العبثية التى أفرزتها أوسلو وقبلها معاهدات الصلح. كل هذه الخيارات أثبتت عجزها فى مواجهة المشروع الصهيونى المتمثل بتهويد القدس والتمدد الاستيطانى أو بترسيخ الجدار العنصرى فى الأرض المحتلة والحصار الإجرامى على أهل غزّة إمعانا فى ترسيخ الانقسام وتمهيدا لإلغاء الوحدة الفلسطينية حتى فيما تبقى من فلسطين التاريخية. كل هذه العوامل التى نتذمر منها ونعلن رفضنا لها فى خطابنا العام، تشكل انتقاصا من حقوقنا الوطنية والقومية والإنسانية. أما كيف نواجهها فبالفوضى والانشغال بقضايا جانبية تخدم، عن قصد أو غير قصد، المشروع الإسرائيلى. إن الاستمرار فى فقدان وحدة الأمة وحالة التقوقع يولدان تفتيت القوى وبعثرة الطاقات. كل هذه السقطات أرهقت الإنسان العربى وأفقدته المرجعية الموثوقة وجعلته يشعر أنه غريب عن وطن وعن أمة صمم على التجذر فيها، مراهنا على احتمال النفاذ إلى حقيقة المشروع الصهيونى بعد أن صدّت بصيرته واقعية مزوّرة، واستهوت بعض قياداته جاذبية مراسيمية «العلاقات» مما شكل ما يمكن وصفه ب«عقدة الخواجة» وجعل الكثير من القوى المتحكمة عاجزة عن الالتصاق بالنبض الجماهيرى، مكتفية بالطبطبة على الأكتاف بدلا من «انتزاع الاحترام» لصلابة الموقف والالتزام بالوحدة القومية، التى هى وحدها القادرة على لحمة ما هو منقسم وترميم ما هو مفكك، وبالتالى تحول دون التفتيت كونها توفر المناعة للمجتمع والحصانة للأوطان والأمة.. *** جاء تقرير جولدستون لكى يبرز حقائق اختبرنا مآسيها وتداعياتها، خاصة فى فلسطين. وكأن افتقادنا للبوصلة كاد يدفعنا إلى الاستقالة من تفعيل التزاماتنا القومية والإنسانية. لقد أصابتنا حالة من التخدير مما جعلتنا نتخبط بشكل حوّل مدلول الواقعية إلى ارتهان والمقاومة إلى مسلسل للانتقامات. اكتفى «الواقعيون» وهم من التصقوا بالأمر الواقع بقليل من حقوق منقوصة واستعداد فورى للاستجابة إلى الضغوط، كما أن غياب إستراتيجية المقاومة دفع إلى إعلاء شأن «الانتحارى» كونه ملأ فراغ تغييب فرص قيام مقاومة ناجعة. *** جاء تقرير جولدستون يبرز مكامن النقص فى المشروع الصهيونى.. وأبرزها فى العقيدة الاستعلائية التى تدفع إلى الانغلاق ورفض كل ما يهدد وجود «الدولة اليهودية». وتطبيقا جاءت ردود فعل إسرائيل على التقرير باللجوء إلى تعمد الإهمال والتصميم على شتائم متلاحقة، مما كشف مدى عنصرية الكيان والإصرار على رفض إدانتها لارتكابها جرائم حرب وخرق للقانون الدولى الإنسانى، محذرة العالم من جعل التقرير مستَنَدا قانونيا لأن من شأنه «تعطيل عملية السلام»، وكأن عملية السلام كانت قائمة وسائرة نحو نتيجة مطلوبة ومرغوبة.. كان فحش الرد الإسرائيلى على رئيس لجنة تقصى الحقائق جولدستون لكونه يهوديا. وكأن كان عليه، لحماية إسرائيل من الإدانة، أن يخسر ضميره المهنى، وأن يجهض رصيده فى نزاهة قضائية مؤكدة ومعترف بموضوعيتها وسلامة تعاملها مع من ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية فى يوغوسلافيا السابقة، وفى سريلانكا، وفى الصين، ومن ساهموا فى خروقات القوانين الدولية السائدة. ولكون جولدستون من أهم القضاة العالميين، يعتبر تقريره عن إسرائيل وثيقة تاريخية تفتح بصيرة وضمير المجتمع الدولى على حقائق غيبتها إسرائيل عن العالم لزمن طويل. وهكذا يتضح بأن يهودية جولدستون باتت دليلا قاطعا على أن الصهيونية لا تختزل المعانى والقيم الروحية والإنسانية للدين اليهودى. كما أن الصهيونية المتمثلة خاصة بمحور نتنياهو فريدمان باراك باتت تشترط على الفلسطينيين الاعتراف بيهودية إسرائيل، وليس بالدولة القائمة بموجب قرار التقسيم أو دولة بعد يونيو 67، أى بإسرائيل «دولة الشعب اليهودى» التى لا حدود لها وبالتالى لا حدود لعنصريتها.. جاء هذيان الرد الإسرائيلى على تقرير جولدستون ليسلط مزيدا من الأضواء على شدة العصبية التى تتعامل بها إسرائيل: فهى تلجأ إلى ممارسة الابتزاز العلنى، فتحذر الولاياتالمتحدة من تعرض فرص «مسيرة السلام» إلى التعطيل إذا ما عرض التقرير على النقاش على طاولة مجلس الأمن. كما أعربت إسرائيل عن استيائها من دول غربية امتنعت عن التصويت مثل فرنسا وبريطانيا معلنة أن المواقف غير المؤيدة لإسرائيل هى بمثابة «دعم للإرهاب»، كما أن من لا يوافق على نصب الازدراء لجولدستون فهو متهم باللاسامية. وهذه الحالات الابتزازية لم تعد تنطلى على معظم شعوب العالم وقاداتهم، كما أن ممارسة الإرهاب السياسى والفكرى والإعلامى الذى طبقته إسرائيل على يهود العالم لتكون ولاءاتهم مطلقة للموقف الإسرائيلى ولو جاء بدافع الافتراء، لم يعد ليعطى النتيجة المرجوة ويبدو أنه حان الوقت لطلاق بين الصهيونية واليهودية حتى يتحرر اليهود من التقوقع واسترجاع موقعهم فى ثقافة الانفتاح.. *** لقد بات لزاما علينا أن ننظر إلى الواقع بعناية ونوفر لأنفسنا قدرة التمييز بين الصهيونية واليهودية فنكتشف أن مواجهة المشروع الصهيونى من شأنه تعزيز فرص تحرير اليهود من القيد الصهيونى على إسهاماتهم فى خدمة العدالة، وقد أثبت القاضى جولدستون بتعبير واضح عن هذا المخزون المناقبى الذى يعمل التقوقع الصهيونى على إجهاضه. صحيح أن تقارير الأممالمتحدة لا تؤخذ دوما عل محمل الجد. إلا أن تقرير جولدستون جاء ليضىء حقائق حاولت إسرائيل طمسها وتغييبها وإجهاض مفاعيلها. وكأن على «فلسطين القضية» استئناف تحرير شعبها، كما تحرير أعدائها، انتصارا لمسيرة التاريخ والحقيقة. هذا هو المعنى الأعمق لتقرير جولدستون..