تتزامن زيارة وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية مع تداعيات تقرير جولدستون الذى يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما مع التقرير الشامل الذى أصدرته منظمة العفو الدولية حول سياسة إسرائيل حول توزيع المياه الفلسطينية ما بين المستوطنين وسكان الضفة الغربيةالفلسطينيين. ولقد قيل الكثير وكتب الأكثر عن مضامين تقرير لجنة حقوق الإنسان الدولية، والذى انطوى على أدلة واضحة ومؤكدة عما ارتكبته إسرائيل من جرائم فى قطاع غزة فى أواخر العام الماضى ومستهل العام الحالى. كذلك الأمر الآن، نجد تفاصيل سياسات توزيع المياه بما يؤكد بشكل غير قابل للشك المنهج العنصرى الذى لا يمكن بأى شكل من الأشكال إلا أن يندرج ضمن تصميم إسرائيلى لدفع الفلسطينيين إلى التخلى عن حقوقهم الأساسية، التى تمكنهم من البقاء والصمود فى أرض وطنهم. ولتسليط الأنظار على بعض أوجه عدم عدالة سياسة توزيع المياه التى تقوم بها إسرائيل فى الأراضى المحتلة فقد أورد التقرير الكثير من الأمثلة والبيانات الإحصائية مثل أن استهلاك المستوطن الإسرائيلى من المياه الفلسطينية يزيد أحيانا عشرين مرة على استهلاك المواطن الفلسطينى فى المنطقة المجاورة له. كما أن استهلاك الفلسطينيين فى بعض المناطق لا يتجاوز عشرين لترا من المياه مقابل ثلاثمائة لتر للمستوطن الإسرائيلى. أما حالة المياه فى قطاع غزة فهى بكل المعايير أقل كما ونوعا، حيث يؤكد التقرير أن 95% من مياه الشرب فيه ملوثة وغير صالحة للاستهلاك الآدمى. وإذا كان هذا حال الاستهلاك البشرى، فإن الواقع أكثر مرارة فى القطاع الزراعى، والذى من تداعياته تقلص فرص الإنتاج وبالتالى العمالة لكثير من الفلسطينيين الذى يعتمدون فى حياتهم على الزراعة. نشير إلى هذه البيانات التى هى بعض تجليات أزمة المياه فى الأراضى التى تزداد تفاقما عبر السنين فى ظل الاحتلال الإسرائيلى. والذى يجعل المحنة قاسية جريمة أن المياه الفلسطينية التى تغتصبها إسرائيل وتمنعها عن أصحابها تذهب إلى حمامات السباحة فى المستوطنات الإسرائيلية، ورى الحدائق فيها. ما هى الدلالة التى تنطوى عليها هذه السياسة العنصرية الصريحة والتى كانت أحد بنود اتفاقيات أوسلو! لا ريب أن إسرائيل تستخدم ما تم الاتفاق عليه فى أوسلو لتقول للفلسطينيين كما للعالم أنها تمارس حق الملكية فى الأراضى المحتلة وفق ما تم التوقيع عليه. والغريب أن الذين قاموا بتوقيع اتفاقيات أوسلو تجاهلوا خطورة ما أقدموا عليه من تنازلات سميت «اتفاقات وتفاهمات». ***** إن زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون سوف يتبعها زيارة إلى المغرب حيث تجتمع مع بعض وزراء الخارجية العرب للقيام بمساعدة الولاياتالمتحدة على استئناف ما يسمى بمفاوضات «مسيرة السلام». إزاء هذين التقريرين، كيف يستطيع العرب إجازة استئناف «مفاوضات السلام» بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، وبخاصة أن الإدارة الأمريكية تطالب العرب، وإن بلباقة، أن يقوموا بمبادرات «حسن نية» تجاه إسرائيل من شأنها أن تجعل من الخطوات التطبيعية حوافز لإسرائيل لتكون أكثر طمأنينة!! ذلك من أجل أن تتقبل التفاوض مع السلطة الوطنية... والسلطة الفلسطينية فقط كونها تمثل «الاعتدال الفلسطينى»، وهنا نجد كيف أن توصيف الاعتدال يصبح فى هذه الحالة نقيض العدالة. ***** إن تسليط الأضواء من قبل هيئات دولية تحظى بصدقية لدى شعوب العالم على ممارسات إسرائيل الصارخة بشراستها ينبغى أن يحض العرب على ضرورة إبلاغ الوزيرة الأمريكية، ومن خلالها إدارة الرئيس أوباما، بخطاب غير ملتبس أن على إسرائيل أن تقوم بتفكيك المستوطنات، والاعتراف بأنها سلطة محتلة وليست مالكة كما تتصرف، وأن تكون خاضعة لاتفاقيات جنيف الرابعة. هذا حتى تستقيم المعادلة مما يؤدى إلى نتائج واضحة بموجب قرارات الأممالمتحدة ذات الصلة. وهذا بدوره يعنى أن على منظمة التحرير الفلسطينية إعادة هيكلتها بغية أن تستعيد شرعية تمثيلها لكل شرائح الشعب الفلسطينى، وأن تحول ذاتها إلى منظمة تحرير لفلسطين بما تنطوى عليه كلمة تحرير من مسئوليات واضحة، كونها طليعة المقاومة للاحتلال بشتى الوسائل السلمية بما فيها المفاوضات، وإن تعذر ذلك فبوسائل تجيزها الشرعية الدولية وميثاق الأممالمتحدة. نقول ذلك كون الولاياتالمتحدة الراغبة فى تسيير حل الدولتين، ونحن نرغب فى تصديقها خاصة من الإدارة الجديدة، بأن تساهم فى توضيح الوضع القانونى وإدانة واضحة لهذه الممارسات التى تنم عن الرغبة فى الحيلولة دون قيام أى فلسطين يمكن أن توصف بدولة. كما نشير إلى هذه الحقائق الدامغة التى سلطت هذه الهيئات الدولية الضوء على صحتها ودقتها أنها إذا بقيت مرهونة باجترار التعامل مع القضية الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو وخريطة الطريق فإنها تزرع بذور نقل التعقيد فى ما هو حاصل إلى فوضى تصبح إدارتها تقارب الاستحالة. لذلك، لعل العرب الذين اجتمعوا مع الوزيرة الأمريكية كلينتون أن يساهموا بدورهم فى إزالة الشوائب التى عطلت كل مسيرات السلام والتى تكمن فى معظمها ليس فقط بعدم اعتراف إسرائيل بكونها دولة احتلال بل بتصميمها كما تدل المؤشرات بشكل واضح وعلنى وصريح أن أرض فلسطين هى عمليا وإن لم يكن علنيا ملك لها. هذا من شأنه أن يساعد إدارة أوباما على التخفيف من ضغط اللوبى الإسرائيلى «إيباك» من خلال الكونجرس، الذى لا يزال باستطاعته ردع أى توجه موضوعى من الإدارة الأمريكية كما عمل فى الماضى. وكان السبب فى نجاح اللوبى الإسرائيلى فى هذا المضمار أن الدبلوماسية العربية لم تكن منسقة بما فيه الكفاية ولم تكن ملتزمة بما تعلنه بما فيه الكفاية. وكما حصل فى الأسابيع الماضية فى أعقاب تقرير جولدستون أنها لم تدر المعركة الدبلوماسية كما ينبغى، كما أنها لم توظف الطاقات الإعلامية والفكرية فى حملات إعلامية بدورها ضاغطة وقادرة، مما أدى إلى استعادة المنهج الأمريكى التقليدى الذى يبقى عرضة لتكرار مطالب أصبحت عقيمة، وبالتالى غير مثمرة كما وضح فى السنوات التى تلت اتفاقات أوسلو. ***** لم يعد مسموحا أن تقول الدول العربية أنها تفعل ما تطالب به السلطة الفلسطينية، أولا لأنها أثبتت عجزها عن حماية وحدة الشعب الفلسطينى، وعجزها عن إدارة الفرصة الثمينة التى أتاحها تقرير جولدستون، وإغفالها الخطورة التى انطوت عليها اتفاقات أوسلو بشأن المياه وغيرها. الآن دقت ساعة الحسم، فإما أن تستعيد القضية الفلسطينية الالتزام القومى العربى بها، وأن تقوم بالإجراءات المطلوبة لعودة المناعة لوحدة الشعب الفلسطينى والنجاعة للمقاومة بشتى تجلياتها للمشروع الصهيونى، وإما أن تتآكل حقوق الشعب الفلسطينى. لذلك نقول أنه قد دقت ساعة الحسم وأصبح مفروضا أن نتكيف مع المستجدات والفرص المتاحة، وألا نبقى إسرائيل مستأثرة بإدارة الصراع. الشعب الفلسطينى يستحق قيادة أكثر وعيا والعمل الفلسطينى يتطلب استراتيجية عربية أكثر استنارة وفعلا.