ترجمت رواية القاهرة الجديدة لنجيب محفوظ لكى تقرأها حبيبتى «كريستينا» خلال رحلتنا إلى مرسى مطروح السادات أخطأ حينما لعب على وتر الفتنة الطائفية التى جعلت «البابا» هو الرئيس السياسى للأقباط «عندما شرعت فى كتابة هذه الأوراق، لم أقصد أن أكتب سيرة ذاتية، ولكننى أردت أن أكتب عن مجموعة من الأحداث التى سمعتها من آبائى وأجدادى والتى عايشتها بنفسى، وكلها تحكى أحداثًا حقيقية وتجسد شخصيات من لحم ودم عاشت بيننا وأثرت فينا، ولكن فى النهاية وجدت أن ما كتبته هو نوع من السيرة الذاتية، ولكن الوطن يلعب فيها دور البطولة» بهذه العبارة يبدأ الدكتور محمد أبوالغار، رائد أطفال الأنابيب فى مصر والشرق الأوسط، مقدمة كتابه «على هامش الرحلة»، الصادر عن دار الشروق، ليحكى فيه عن مصر فى منتصف القرن العشرين خاصة فى ظل غياب وقلة الكتب التى تتناول هذا الموضوع، والتى تهتم بالكتابة عن الإنسان المصرى العادى، الذى تكّون وعيه وتشكل فكره، قبل قيام ثورة 1952، ثم تربى فى أحضانها ومدارسها واستمع لكلمات قائدها، وعاش ولادتها ثم نموها ومجدها، ولاحقًا انهيارها، بعيدًا عن الكتب التى ألفها من صنعوا الثورة أو فكر مجموعة الأحزاب القديمة على اختلافها. يعود «أبو الغار» بالقارئ فى كتابه إلى ما قبل ثورة 52، ليحكى عن جده وجدته ومنزلهما فى شبين الكوم، ليروى كيف كانوا «تقدميين» بمقاييس هذا العصر، الجد شديد التدين والإيمان يؤدى فرائض الإسلام، ويلتزم بتعاليمه ولم يتحدث عن الدين بطريقة مباشرة أبدًا، فالدين عنده علاقة بينه وبين ربه، يحرص على قراءة جريدة «الأهرام» يوميًا، وهو أمر قليل الحدوث فى الريف المصرى، ليستقى منها ومن بعدها «الراديو» الأخبار، التى يُطلع عليها أصدقاؤه وجيرانه، وبالرغم من أن ذلك الجد لم ينضم لأى حزب سياسى، إلا أنه كان رجلا وطنيا، ساعد الفلاحين على الاختباء بمنزله هربًا من الجنود الإنجليز بعد مجزرة «دنشواى»، حيث كان منزله فى أول الطريق الموصل لدنشواى، كما فتح منزله أثناء مظاهرات 1919، ليحتمى به الشباب الفارون من طلقات الرصاص وهراوات الجنود الإنجليز، بينما كانت الجدة لا تهتم سوى بشئون بيتها فقط، ولا يعنيها أحداثا سياسية محلية أو حتى حربا عالمية ما لم يؤثر ذلك على بيتها بشكل مباشر، ولكنها حرصت على تعليم بناتها جميعًا، وخرجن من المدارس ليتزوجن فقط، حتى حاربت هى وزوجها المجتمع الذى يعيشان فيه حينما أكملت إحدى بناتها تعليمها الجامعى، وسافرت إلى القاهرة لتنضم إلى كلية المعلمات، وهو ما لم تكن الأسر تسمح به لبناتها، لتصبح تلك الفتاة من أوليات الخريجات من بنات المنوفية، وتكون المسئولة عن التعليم فى المنوفية فيما بعد. كان الكتاب هو الصديق الدائم وربما الوحيد فى حياة د. محمد أبوالغار، حيث بدأت علاقتهما وهو ابن 12 عامًا، عن طريق الأديب توفيق الحكيم، الذى تعرف إلى أدبه فى جنبات سور الأزبكية بالمصادفة، أثناء تصفحه لكتاب بعنوان «مسرح الحكيم لتوفيق الحكيم»، ليصبح بعدها واحدا من مريديه ودارويشه، وليقضى أيامه بمكتبة البلدية فى شبين الكوم يغترف من مؤلفاته، وليبدأ فى كتابة أول رواياته؛ التى يكتشف أنها نسخة أخرى مما قرأه للحكيم!، ويتعرف «أبوالغار» بعد «الحكيم»، إلى عالم الأديب سلامة موسى، بأسلوبه السلس المعتمد على الأفكار والمنطق والعلم، الذى يناقش كل الأديان بحرية تامة طارحًا كل الأفكار والحجج بأسلوب بسيط، ويكتب عن حرية التعبير، واحترامه لكل الآراء والأفكار. قبل أن تتسع دائرة معارفه مع الأدباء، فيلتقى بكتابات يحيى حقى، وعبدالقادر المازنى، وسعد مكاوى، والأديبة الأمريكية بيرل باك، وعباس العقاد، والذى يكشف «أبوالغار»، أنه وجد صعوبة كبيرة فى حبه والتمتع بما يكتبه، بسبب لغته، وربما لعدم قدرته على الوصول إلى أفكاره، قبل أن ينتمى المؤلف بكل كيانه إلى أديب نوبل المصرى نجيب محفوظ، ويقوم بأول ترجمة لرواية «القاهرة الجديدة»، ليهديها إلى حبيبته السويدية «كريستينا»، أثناء رحلتهما إلى مرسى مطروح، لتتعرف من خلاله إلى الأدب المصرى، مثلما عرفته على كلاسيكيات الأدب العالمى، وليكون هذا التبادل الثقافى أول نواة فى قصة حبهما التى امتدت منذ ستينيات القرن الماضى وحتى الآن، كما امتد حبه «أبوالغار» للكتب والمكتبات التى لم يتأخر عن زيارتها أينما ذهب، سواء بطفولته فى مكتبة البلدية بشبين الكوم، أو بغرفة المطالعة بدار الكتب، وحتى أثناء وجوده فى الدنمارك والسويد حيث مكتبة القرية بالقرب من منزل زوجته. ما لا يعرفه الكثيرون أن رائد علم أطفال الأنابيب فى مصر والشرق الأوسط، لم يكن ينوى دخول كلية الطب، بل كان قراره الانتساب إلى كلية الهندسة، لكنه عدل عن قراره مع الضغوط غير المباشرة من أقاربه ومجتمعه، فضلًا عن إغرائه الذاتى بوظيفة الطبيب، والبالطو الأبيض، والعيادة، والاحترام المجتمعى لمهنة الطب، ليروى أبوالغار، كيف بدأ دراسته بها عام 1956، فتعلم مبادئ أمراض الباطنة والجراحة بجانب دراسة أمراض النساء والعيون والأنف والأذن والطب الشرعى والطبى الوقائى، وتكون الدراسة مزيجًا بين الدرس النظرى والعملى، وليتخرج فى الكلية فى يوليو 1962، ويتسلم وظيفته فى مستشفى الحوض المرصود، ثم ينتقل منها بعد 6 أسابيع إلى مستشفى أحمد ماهر «درة مستشفيات وزارة الصحة حينها»، قبل أن تكتمل فترة الامتياز، وليعود إلى بيته الأول القصر العينى». وفى سيرته الذاتية يكشف أبوالغار، أنه لم يتعلم الكثير فى أصول مهنة الطب خلال بعثته العلمية إلى الدنمارك، حيث كان مستوى الطبيب المصرى بالنسبة للأطباء الأوروبيين والأمريكيين ممتازًا، مشيرًا إلى أن ما تعلمه حقيقة هو طرق البحث العلمى وأهميتها وضرورتها، وأن يكون الطبيب على علم بكل جديد فى كل لحظة، وأن الطبيب لن يحتفظ بهيبته وكيانه كأستاذ ومعلم، ولن تصبح له مكانة فى الأوساط العالمية المحترمة، ما دام لم يقدم جديدًا فى البحث العلمى، وهو الدرس الذى حفظه ووعاه جيدًا من تلك البعثة، ليعود إلى مصر وهذا الدرس نصب عينيه، فتمر الأيام وتحدث ولادة أول طفلة أنابيب فى إنجلترا قام بها العالمان البريطانيان «إدوارد واسبتوا»، ليبدأ «أبوالغار» فى الاهتمام بهذا الفرع من العلم، ويلمّ بكل ما كتب عن أبحاث أطفال الأنابيب، ويذهب إلى السويد لزيارة أحد أهم المراكز هناك، ويتلقى تدريبًا يكسبه الخبرة الإكلينيكية، ليعود إلى مصر يحلم بإنشاء مركز أطفال الأنابيب، فتواجه مشكلة إنشاء معمل مجهز لإخصاب البويضة، ورعاية الجنين فى الحضانة ليومين أو ثلاثة، وتفشل محاولاته وفريقه الطبى، فى التواصل مع المركز الأمريكى لعقد شراكة معهم، حيث اشترط الأمريكيون أن يصبح المركز فرعًا لهم بمصر، حتى جاء عام 1984 بخطاب من طبيبة مصرية «رجاء منصور» خريجة قصر العينى، وتعمل فى مركز أطفال الأنابيب بجامعة أوهايو، بأنها تعرض مشاركتها لنا فى إنشاء المركز، وكانت هى من قامت بمهمة تجهيز المكان من أعمال ومقاولات واستيراد أجهزة، بقيت فقط خطوة المواجهة مع الشعب المصرى وقبوله لفكرة أطفال الأنابيب، وما سهل الأمر وجود فتوى سابقة بمجلة الأزهر من الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر، يجيب فيها عن زوجين يريدان السفر إلى إنجلترا لإجراء عملية أطفال أنابيب؟، فكانت الموافقة الإسلامية صريحة وواضحة بأن الدين الإسلامى لا يمانع فى ذلك ما دام أن الجنين الذى سوف ينقل إلى رحمها من السائل المنوى للزوج ومن بويضة الأم، وهو ما تم المشاورة فيه مع الكنيسة والأزهر، لتتم الموافقة على العمليات، وبعد 15 شهرا من افتتاح المركز، ولدت هبة الله أول طفلة أنابيب مصرية. وكان دكتور محمد أبوالغار شاهدًا على أحداث مصر السياسية، فهو الذى رأى حريق القاهرة فى 23 يناير 1952، من بلكونة منزله بمنطقة باب اللوق، وهو الذى لم يجد حتى الآن إجابة شافية عمن يكون الفاعل، ليبقى الجميع مدانا فى مذكراته، وهو الشاهد على قيام ثورة 1952، وما عاشه هو وأبناء جيله معها من آمال وطموحات وانكسارات وخيبات، التى أحزنت مصر وقصمت ظهر شعبها بأكمله باستثناء البعض الذين رأوا أن الهزيمة هى الطريق الوحيد للخلاص من حكم ونظام عبدالناصر. ويلفت أبو الغار النظر إلى خطأ السادات الأعظم فى اللعب على وتر الفتنة الطائفية بين المصريين، بعد أحداث الخانكة الشهيرة، وهى الأزمة التى ظلت قائمة فى حكم الرئيس مبارك، فكانت الدولة الرخوة بتعبير د. جلال أمين، تتخلى عن مسئوليتها ليصبح «البابا» هو المسئول عن مشاكل الأقباط السياسية والاجتماعية، فيصبح البابا هو الرئيس السياسى للأقباط، وما يزيد عزلة الأقباط هو موقفهم من التوريث، خوفًا من الإخوان، ليؤكد أن المصرى «مسلما وقبطيا» مظلومان ولا يحصلان على حقوقهما ويعاملان معاملة غير متحضرة. حكايات كثيرة ممتعة يكتبها الدكتور محمد أبوالغار فى كتابه «على هامش الرحلة» وهى مجموعة من أحداث حقيقية وتجسد شخصيات من لحم ودم عاشت بيننا وأثرت فينا.