رحلة الدكتور محمد أبو الغار أستاذ أمراض النساء والولادة بقصر العيني وأحد أهم رواد البحث العلمي في الإخصاب الصناعي وطب الأنابيب في كتابه الذي صدر عن «دار الشروق» قبل أيام من ثورة 25 يناير بعنوان «علي هامش الرحلة» ليست بالفعل مذكرات، فهو إذا كان يتحدث في سلاسة وبساطة العالم والأديب والسياسي عن أسرته وطفولته في شبين الكوموالمنيا والمناخ الاجتماعي في مصر الخمسينيات بعد قيام ثورة 25 إلا أنه سريعا ما ينقل القارئ إلي قلب الأحداث السياسية في السنوات الأولي من الثورة التي قادت إلي صدمة أو نكسة 67، ثم هزائم المصريين المعنوية والنفسية المتتالية خلال العقود الثلاثة الماضية من حكم حسني مبارك، المؤلف في هذا الكتاب - الذي يعد واحدا من أفضل ما أصدرته المطابع عن تاريخ الحياة السياسية والاجتماعية في مصر منذ ثورة عبد الناصر - يقوم بعملية تشريح للسياسات الخاطئة والقهر والأكاذيب التي سرقت أحلام المصريين، وقادتنا إلي هذه الحالة الأليمة من التخلف تحت حكم حسني مبارك. تحدث أبو الغار بأمانة وبلا أدني انحياز، عن جيل كامل هو أحد أبنائه تربي في أحضان ثورة عبد الناصر، وعن أمل وحلم جميل ضاع واختفي، وسط ضباب الخداع والكذب. لقد حفرت هزيمة 67 ندوبا عميقة في نفوس وضمائر ملايين الشباب الذين أصابهم اليأس وهم يتنقلون بين الأزقة السياسية لهيئة التحرير والاتحاد الاشتراكي ثم الأحزاب الهلامية التي قامت خلال حكم السادات ومبارك. هذه «الحالة البائسة» التي أصابتنا بكل الأمراض الاجتماعية والنفسية ربما كانت في اعتقادي من الأسباب التي دفعت الطبيب البارع في السنوات الأخيرة ليخصص معظم وقته لكشف زيف وألاعيب نظام حسني مبارك وأعوانه، ويقود المظاهرات مع آلاف المناضلين الشرفاء ويتعرض لسفالات «شبيحة» حبيب العادلي واعتداءات الأمن المركزي. ولأنني كنت شاهدا علي العصر، وأنتمي إلي هذا الجيل، فقد أعادني المؤلف إلي الزمن الجميل، عشت معه فرحتنا بثورة يوليو وآمالنا وأحلامنا في فجر جديد لم يطلع علينا حتي الآن، ثم أحزان سقوط الوطن في مستنقعات الهزيمة والجهل والقهر والديكتاتورية. في سبتمبر الماضي كنت أنتظر في مطار شارل ديجول بباريس الطائره التي سوف تقلني إلي القاهرة بعد أسابيع قضيتها في كندا، والتقيت بأبو الغار يسير بسرعة في طريقه إلي الطائرة التي ستغادر باريس بعد دقائق إلي واشنطن، لم يسمح وقتنا بالحديث، ولكنني طلبت منه الحذر من جرائم النظام ضد المعارضين، فقد كنا نعيش قبل 25 يناير أسوأ عصور الانحطاط، والنظام الحاكم لم يكن يتورع عن ارتكاب أي جرائم لينتقم ممن يختلفون معه، لقد سبق أن اعتدوا بالضرب علي مصطفي شردي وجمال بدوي وعبد الحليم قنديل وخطف زبانية النظام البائد الصحفي بالأهرام رضا هلال منذ خمس سنوات ولم يعد حتي الآن! يهدي المؤلف كتابا لوالديه، ومن الواضح أنهما تركا أثرا عميقا في شخصيته، فهو مثل الغالبية من أبناء الطبقة المتوسطة من هذا الجيل كان اعتمادهم علي الأسرة التي كانت تشارك المدرسة في تنشئة وتربية وتعليم أبنائها، والواقع أن أبو الغار - كما كتب الأديب الراحل الطيب صالح في مقدمة الكتاب - إنسان متميز وغير عادي » فيه سمات كثيرة من رجال عصر التنوير الأوروبي، ومن طراز العلماء العرب المسلمين الأوائل أيام كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها». ولأنه عالم وطبيب وفنان ومثقف، فقد تجاوز حدود علوم الطب إلي عالم المعرفة الأوسع، وأضيف من خلال علاقة ربطتني به في سن الصبا، أنني كنت أتوقع له من خلال تفوقه الدراسي ودماثة خلقه وعلاقته الطيبة بكل زملائه - النبوغ والتفوق، وينطبق عليه المثل الشعبي «الكتكوت الفصيح من البيضة بيصيح»، ولأنه إنسان يشعر بآمال وآلام الناس أعتقد أنه اختار أمراض النساء وعلم الإخصاب الصناعي وحصل علي أهم الجوائز العلمية في هذا التخصص لكي يحقق حلم النساء اللاتي لم يوفقن في الإنجاب بالطرق الطبيعية في أن يصبحن أمهات. المؤلف لا يكتب بالفعل مذكراته لكنه يعترف في المقدمة بأنه قرر أن يكتب عن أحداث مهمة عاشها كواحد من أبناء جيل ثورة يوليو بطريقة نقدية لهذه الأحداث التي تفاعل بها، فأغلب أبناء هذا الجيل عندما كتبوا كانوا سجناء فكر إما منحازا للثورة أو ضدها، فغاب الحياد والموضوعية عن معظم كتاباتهم، ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، فمؤلفه رفض كل إغراءات الأنظمة السابقة التي أفسدوا بها كثيرا ممن كانوا شرفاء، ورفض لعبة الانضمام لديكورات الأحزاب والنقابات في العهود السابقة، ولم يخش سيف المعز وذله ولا بطشه، فقد صدر الكتاب الذي تصرخ صفحاته احتجاجا علي الفساد القائم والظلم القاهر ومن كل الأمراض والأوبئة التي أصابت عقل وروح مصر خلال حكم حسني مبارك والتي لم يكن هناك شفاء منها سوي بالقضاء علي المرض بعد أن استفحل، فثورة 25 يناير لم تأت من فراغ، وكما نحن مدينون لشباب ثورة 25يناير، فالأمانة تقتضي الاعتراف بفضل أبو الغر والقلة من المناضلين الشرفاء من أساتذة الجامعات والكتاب المهنيين والأدباء والمثقفين والسياسين الذين احترموا أنفسهم وأقلامهم وحملوا رسالة كشف فساد النظام السابق وعصابته من المنتفعين وأصروا علي التغيير. يبدأ المؤلف رحلة حياته بتقديم صورة لبيت جدة تاجر الأقطان في شبين الكوم، وكان ميسور الحال، حصل علي قدر من التعليم الذي كان صعب المنال في ذلك الوقت وتعلم اللغة الفرنسية لتنمية تجارته، فقد كانت لغة المعاملات في تجارة القطن في أوائل القرن الماضي، كان جده يمثل معظم المصريين الوطنيين في ذلك الوقت، يصوت في كل انتخابات لحزب الوفد، رغم أنه لا يشارك في العمل السياسي، وكان يفتح أبواب منزله المطل علي محطة قطار شبين الكوم أثناء مظاهرات ثورة 1919 التي تمر من الشارع الرئيسي للطلبة الهاربين من طلقات رصاص وهراوات الجنود الإنجليز، ويصف جده وجدته بأنهما كانا من التقدميين بمقاييس هذا العصر، فجميع عماته في عشرينيات القرن الماضي التحقن بالمدارس، وتعلمنى حتي سن الزواج وكان في الخامسة عشرة في ذلك الوقت، باستثناء صغري عماته التي تركت منزل الأسرة في شبين الكوم وبتشجيع من والديها لتواصل تعليمها الثانوي والذي كان ست سنوات في ذلك الوقت بالنسبة للفتيات، وتبدأ معركة داخل الأسرة، فالفتاة الشابة التي أنهت دراستها الثانوية تريد الالتحاق بالجامعة في القاهرة حيث يختلط الرجال بالنساء، ويساند الشقيق الأكبر - والد المؤلف - شقيقته ضد تحفظات الأسرة علي السفر إلي القاهرة والالتحاق بالجامعة، وتنجح ضغوط الأخ في النهاية وتلتحق الفتاة بكلية المعلومات العليا وتنهي دراستها بعد أربع سنوات. أثرياء الأمس واليوم يقول المؤلف: تأسست في محافظة المنوفية في أوائل القرن العشرين جمعية خيرية أطلق عليها «جمعية المساعي المشكورة» وكانت جهودها تتركز في نشر التعليم، فأنشأت عدة مدارس، من بينها أول مدرسة ثانوية في المنوفية بتبرعات من أغنياء وأبناء المحافظة، ويعلق علي وجود الكم الهائل من الجمعيات الأهلية التي تقدم خدمات للمواطنين في أوروبا وأمريكا، فيقول أن المصريين كان لهم السبق في إقامة هذه الجمعيات في بداية القرن العشرين، لكننا لا نسمع الآن عن مشروع خيري حقيقي يستمر نصف قرن باستثناء المشروعات التي ترعاها حرم الرئيس، فتنهال عليها التبرعات من جميع الجهات نفاقا لها أو طمعا في رضا المسئولين الكبار، وربما تكون المكافأة صفقة أو عقد مع الحكومة؟! ويتساءل: هل هناك فارق في الانتماء للوطن وحبه بين أغنياء الماضي وأغنياء الحاضر؟ ربما كان أغنياء الماضي من المنتجين الزراعيين أو الصناعيين وكانت مصر مستقبلهم وأملهم وحياتهم ومماتهم بصرف النظر عن الاختلافات الفكرية والسياسية والدينية، اما الآن فيا حبذا لو كان لي موضع قدم في الخارج أقفز الي عند أول ازمة! وأضيف أن مليونيرات طرة! من كبار المسئولين والوزراء ورجال الأعمال وممولي الثورة المضادة والمحرضين علي الفتنة وإشعال الحرائق ومن هربوا الأموال التي سرقوها للخارج ومن دافعوا عن مشروع التوريث الفاشل، هؤلاء هم رجال هذا العصر.. فكيف ننتظر من أمثالهم الاسهام في مشروعات لخدمة مصر وشعبها؟! في هذا المناخ الاجتماعي والسياسي تعلم والد المؤلف في شبين الكوم ونال البكالوريا في العشرينيات من القرن الماضي ثم سافر إلي القاهرة والتحق بكلية التجارة وعمل أثناء الدراسة مدرسا في مدرسة خاصة بالزيتون، وقد تخرج في الجامعة بعد حصوله علي بكالوريوس التجارة في عام 1931 وفي نفس هذا العام أنشأت الحكومة بنك التسليف الزراعي بفروع في جميع المحافظات لمساعدة الفلاحين والملاك علي الحصول علي القروض ومستلزمات الزراعة، وقد تقرر تعيين الخمسة عشر خريجا الأوائل في فروع هذا البنك بالمحافظات وكان من بينهم والده الذي تزوج والدته وابنة خالته عام 1937، وقد انتقل الابن مع والديه طبقا لمقر عمل الوالد، كان الابن يزور الأسرة في شبين الكوم في الإجازة الدراسية في الصيف وشرح لنا تفاصيل دقيقة للحياة هناك، ولعبه الكرة مع جيرانه من الصبية، لكن المنزل المكون من طابقين لم يكن ريفيا فقد كان يقع في وسط المدينة ويضاء بالكهرباء وبه «طرمبة ماء»، وقد انتقلت إليه مياه الحكومة النقية بعد ذلك في أربعينيات القرن الماضي. أوروستقراطية الصعيد ينقلنا المؤلف إلي محافظة المنيا في عام 1940 حيث عمل والده هناك مديرا لبنك التسليف الزراعي وعمره 33 عاما لمدة ست سنوات، ويصف لنا المجتمع هناك، كان منصب والده ذا أهمية كبيرة، فعملاء البنك أغلبهم كانوا من كبار الملاك يحمل غالبيتهم لقب الباشوية ولهم نفوذ كبير في الحكومة وداخل الأحزاب السياسية، وبالرغم من ارتباطهم بالأرض والفلاحين وعادات وتقاليد الصعيد فإن نسبة كبيرة منهم تلقوا ثقافة عربية راقية، وبعضهم تخرج في أعرق الجامعات الفرنسية والبريطانية وتزوجوا من أوروبيات أقمن في المنيا مع أزواجهن، وكانت هذه الطبقة الأوروستقراطية تعيش منفصلة في برجها العاجي في قصورها الجميلة الأنيقة وناديها الاجتماعي، وبعضهم كان يمارس رياضات غير معروفة في مصر مثل البولو، يقول المؤلف «هكذا وجد والدي وهو الرجل الذي نشأ في أسرة متوسطة أنه بالمثابرة والتعليم قد أصبح رجلا مرموقا يركب سيارة أمريكية يملكها البنك ويقودها سائق ويسكن في بيت أنيق علي ضفاف النيل» ويبدو أن إنشاء البنك الزراعي في عام 1931 كان عملا إقتصاديا مهما ساعد علي الحفاظ علي الثروة الزراعية وتحسين الإنتاج بها، كان نفوذ وثروة كبار الملاك ووضعهم السياسي والاجتماعي وصلاتهم بالبلاط الملكي ورجال الحكم في القاهرة وثيقة، وقد تصوروا أن وضعهم الطبقي يعطيهم الحق في استثنائهم من بعض القيود أو الشروط في تعاملهم مع البنك، وتصوروا خطأ أن بإماكانهم الضغط علي مدير البنك الشاب لتحقيق مصالحهم، لكن قوة وصلابة رئيس البنك في القاهرة الشيشيني باشا، أعطت الحصانة الكافية لمديري الفروع في اتخاذ ما يرونه من قرارات تتفق مع قواعد البنك دون الخضوع لضغوط العملاء، ويتساءل أبو الغار: أين هذا مما نراه الآن في مجتمعنا حيث نسمع كل يوم مايحدث في البنوك من إهدار للمليارات من قروض لا ترد، وفساد يفوق كل تصور، وتدخل لحماية الفاسدين للضغط علي مديري البنوك الذين سقط بعضهم في بالوعات الانحراف؟ المؤلف الذي من الواضح أن شخصية والده حفرت بصماتها القوية علي أفكاره وسلوكياته يتحدث بنفس التقدير عن والدته التي إذا لم تكن تشارك والده حضور الحفلات والمناسبات الاجتماعية، إلا أنها كانت - مثل معظم نساء الطبقة الوسطي المصرية - علي قدر من التعليم الذي يسمح لها بمتابعة السياسة والثقافة المصرية حتي إذا لم تكن تشارك فيها، وكان اهتمامها الأول هو بشئون الأسرة وتربية الأبناء وهو عندما يتعرض لأزمة صحية في طفولته، تلجأ والدته التي ترتدي الملابس الأوروبية وغير محجبة وتصلي جميع الفروض وتصوم شهر رمضان - إلي جارتها وصديقتها السيدة «أولجا» وتذهب معها إلي الكنيسة لإحضار بعض التعاويذ والأحجبة وتضعها تحت وسادتها أملا في الشفاء، وكانت في نفس الوقت تدعو قارئا للقرآن في حجرته لنفس الغرض، لقد أحضرت أولجا قسيس الكنيسة مرتين لزيارة الطفل المريض والدعوة له بالشفاء عندما اشتد به المرض. ويتساءل المؤلف هل لا تزال هذه العادات موجودة في البيت المصري؟ وهل مازال ممكنا أن تطلب أم ملسمة من صديقتها القبطية أن تتوسط لها لإحضار القسيس للصلاة والدعوة لابنها بالشفاء؟ المؤلف يتذكر أيضا أن زملاءه وزميلاته من سكان شبرا في كلية الطب المسلمين خريجي المدرسة التوفيقية وشبرا الثانوية، كانوا يزورون كنيسة سانت تريز بانتظام خاصة قبل الامتحانات أملا في بركاتها! والواقع أن تصرف والدة المؤلف كان شيئا عاديا وطبيعيا يتكرر في كل البيوت المصرية منذ نصف قرن، وهو يتمني مثل كل المصريين الوطنيين أن يعود الحب والصفاء بين المصريين ويزول التوتر، الذي ظهر عندما يجري توظيف الدين لقهر البشر والتسلط عليهم. التعليم الأجنبي عندما انتقل إلي القاهرة اقترح صديق لوالده من أثرياء المنيا أن يلحق ابنه بكلية فيكتوريا التي سبق أن تخرج فيها هذا الصديق، وكانت واحدة من المدارس الإنجليزية الخاصة التي كان يرسل أثرياء مصر- في ذلك الوقت - أبناءهم ليتعلموا فيها حتي يضمنوا لهم في المستقبل إجادة اللغة، كما كانت هناك أيضا عشرات المدارس الفرنسية التي تقوم بنفس المهمة، لكن الوالد أخذ بنصيحة خال المؤلف الذي قال له ان «هذه المدارس ليست لنا ولكنها لمن يريد أن يخرج ابنه للحياة بنظره تعال علي الشعب، ولن يشعر بآمالهم وآلامهم وسوف يعيش ويموت يسبح بحمد الإنجليز، المهم أن هذه النصيحة جاءت من خال المؤلف وهو من أثرياء مصر، يملك عشرين مدرسة خاصة ويسكن في فيلا أنيقة في شارع الهرم، ثم أصبح عضوا في البرلمان وحصل علي درجة البكوية ورشح وزيرا للمعارف، لقد كان أثرياء الأمس يختلفون بكل المقاييس عن أثرياء اليوم! الأثرياء الجدد جاء معظمهم من الطبقتين الشعبية والمتوسطة يرسلون الآن أبناءهم إلي المدارس الأجنبية التي تختلف عن مدارس الأمس، حيث يتعلم التلاميذ كل شىء إلا اللغة العربية، ولا يدرسون شيئا عن تاريخ وجغرافية مصر، لكنهم يتلقون بالتفصيل تاريخ وجغرافية بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا، إن هذه المدارس في رأيي تحاول قتل الهوية المصرية لدي هؤلاء التلاميذ، وهي جريمة ترتكبها هذه المدارس ويشاركها فيها أولياء الأمور السعداء بأن أبناءهم يتحدثون لغة غير عربية! يحكي لنا المؤلف من ذاكرته الحديدية تفاصيل بالغة الدقة عن الحياة والدراسة في مدرسة القربية الابتدائية في شارع الشيخ ريحان والقريبة من منزله في شارع منصور بباق اللوق، وهي تفاصيل مضي عليها أكثر من نصف قرن لكنه يعرضها علينا وكأنها حدثت بالأمس، فيتذكر في أكثر من صفحة زميلة وصديقه في نفس الفصل الدراسي سيد توفيق (أستاذ الأنف والأذن والحنجرة المعروف) وقد كانت المنافسة بينهما شديدة علي الأولوية، واستمرت هذه المنافسة مع الصداقة الحميمة التي ربتطهما حتي تخرجا في طب قصر العيني، (وقد فاجأني أبو الغار في صفحة 333 بصورة فصلنا الدراسي عام 1950) وكان يجلس في الصف الأول وبجواره سيد توفيق، وأقف خلفهما، وقد تضمنت الصورة مدرسي الفصل الذين استمرت علاقتي ببعضهم حتي تخرجي من الجامعة، وفوجئت بعد التحاقي بالأهرام بالأستاذ حسن سلومة مدرس العلوم بمدرسة القريبة قد انتقل للعمل بالصحافة، وقد أصبح مندوبا للأهرام في و زارة الزراعة بعد أن استقال من وزارة المعارف، وظل - رحمه الله - يغطي أخبار وزارة الزراعة حتي قبل وفاته بيوم واحد. ينتقل بنا المؤلف إلي مرحلة الوعي بالوطن والفكر السياسي، كان يستمع إلي آراء والده المتعاطف مع حزب الوفد ويقرأ معه الصحف، وبالرغم من أن والده كان يحافظ علي الصلاة والصوم فإنه لم يكن يتحدث في الدين إلا نادرا ولم يلاحظ عليه في أي وقت أنه يفسر موقفا أو رأيا علي أساس ديني انتقلت هواية قراءة الصحف إلي الكتب، وكان والده يصحبه إلي كازينو أوبرا في الصيف لحضور ندوة نجيب محفوظ، وقد أعجب في سنوات صباه بتوفيق الحكيم وقراء كل كتاباته ثم بدأ يتردد علي دار الكتب بعد ذلك لكن بلوغ الثامنة عشرة كان شرطا لاستعارة الكتب في الخارج، وتقوم ثورة يوليو 1952 وعمره 21 عاما ويحكي لنا كيف استفاد جيلنا من مجانية التعليم التي أقرها طه حسين عام 0591 وقد توسعت الثورة في التعليم، واستطاعت أعداد كبيرة من أبناء العمال والفلاحين الفقراء دخول الجامعة والحصول علي فرص في الدراسات العليا والبعثات، ولكن الثورة ألغت الأحزاب السياسية، وعاقبت الذين شاركوا في أي أنشطة سياسية، مما أدي إلي انصراف جيل كامل عن العمل السياسي وأعطت ماكينة الدعاية آمالا واسعة للجماهير فالقيادة سوف تتولي القيام بجميع المهام مما أسفر عن فراغ سياسي كبير، واستيقظت الجماهير فجأة علي كارثة 1967 الذي أطاحت بكل أحلامنا، وبينما كان من الطبيعي أن يتولي الوطنيون من جيل الثوار ممن آمنوا بمبادئها، القيادة في الستينيات والسبعينيات، لكن النظام لم يعط المسئولية سوي للانتهازيين والمنافقين. يري أبو الغار أن الفراغ السياسي وكبت الحريات مع الفقر الشديد واليأس في المستقبل كانوا قوة الدفع للمد الديني خاصة بين طلبة الجامعات، ولم يحاول السادات ومبارك علاج الموقف بل أدت سياستهما إلي تعميق التطرف الديني وانتشاره، وشهدت مصر في العصر اللامبارك عددا من الحوادث الطائفية كانت الحكومة تستجيب لها بالمسكنات دون علاج جدي للمشكلة. ينتقل بعد ذلك إلي الأيام السعيدة التي قضاها طالبا بكلية طب عندما كانت كلية طب قصر العيني تعد واحدة من أهم كليات الطب علي مستوي العالم، وقد كان من بين القلة من الأطباء المتابعين مختلف الفنون والآداب المصرية والعالمية. في شهر يونيو عام 1997 التقيت بأبو الغار في مونتريال، كان مدعوا من جامة ماكجيل في المؤتمر الدولي الثاني للخصوبة وعلاج العقم، وفي هذا المؤتمر قدم بحثا حول الجديد في علاج العقم عند الرجال، ثم سافر إلي فانكفور لحضور المؤتمر الدولي لأطفال الأنابيب والإخصاب، وكان الطبيب العالم قد وصل إلي منتريال قادما من مدينة بوسطن الأمريكية بعد حضوره معرضا للفنان العالمي بيكاسو. يحكي لنا المؤلف بعد ذلك قصة زواجه وحبه التي تؤكد أننا أمام إنسان من نوع نادر ومصري حتي النخاع، فشل مشروع هجرته رغم كل إغراءات الخارج، لأنه لا يستطيع أن يعيش بعيدا عن أرض وهموم مصر. ملاحظتي الأساسية علي هذا الكتاب الممتع المثير للإعجاب، أن أبو الغار الذي سمح له عمله بزيارة معظم دول العالم وتعرف علي عدة ثقافات، يؤمن بعمق الأسرة وأهمية دورها في تنشئة الأبناء، وعندما يعود بذاكرته إلي أيام طفولته وينقلنا معه إلي مصر الأربعينيات والخمسينيات والستينيات التي عاش فيها مع أسرته سواء في المنيا أو شبين الكوم ثم القاهرة ومدارسها وكلية الطب، فإنه يشعرني بمعاناته وأحزانه مما يجري اليوم، وماتعرض له هذا الوطن وشعبه الجريح من انحطاط وقهر علي ايدي حكامه. إنه يتحدث نيابة عنا، ويناضل خلال حكم مبارك نيابة عنا ويكشف مفاسد نظام الحكم وأدواته أيضا نيابة عن شرفاء كثيرين رفضوا أن يبتذلوا أنفسهم، لكنهم لم يرفعوا صوتهم ضد الحاكم ويجاهروا بفضح جرائمه إيثارا للسلامة. إن حبه لمصر وعذابه من أجلها يطغي علي قلمه وضميره في كل صفحات الكتاب، لكنني أعتقد أن قيام ثورة 52 يناير أعطاه جرعة كبيرة من الأمل في مستقبل أفضل، لقد قام في الشهر الماضي بتأسيس مع مجموعة من السياسيين والمثقفين «الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي» أري أنه خطوة أخري في طريق النضال السياسي الذي بدأه منذ سنوات.