عرف أدب المراسلات فى الشرق منذ القرن التاسع الميلادى تحت اسم أدب المكاتبات، وكان يقسم إلى ثلاثة أقسام، المراسلات الأدبية، والمراسلات الأهلية، والمراسلات العلمية، وانتقل هذا الفن من الأندلس إلى أوروبا، ونحن بصدد النوع الثانى من أدب المراسلات؛ الرسائل الأهلية، التى تعرف برسائل الأشواق التى تدور بين الأصدقاء والأقارب، حيث تأتى إلينا رواية الكاتبة اللبنانية هدى بركات «بريد الليل» الصادرة عن دار الآداب ببيروت، والتى وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لهذا العام 2019. تطل علينا برسائلها الخمس، فنحن على أهبة الاستعداد للدخول فى عالم ملىء بالأشخاص الذين يتكِئن إلى ركن ما للبوح، هذه خصلة من يشعر بأنه مقبل على النهاية يفيض قلبه بكل ما فيه بالسلب والإيجاب والحلو والمر، مشاعر البوح تحتاج لمستقبِل يحسن الإنصاف وأن يكون جد محايد، فهموم الوطن العربى تأتى لنا فى رسائل بريد الليل، حيث السعى للتواصل مع هذا العالم، ورسائل لم تصل، فمن سيقوم بهذه المهمة غير القارئ. البريد هنا يمثل الرمزية القديمة فى توصيل الرسائل والبوح بالمشاعر، سواء مكتوبة أو مسجلة، فيحمل بريد الليل خمس رسائل، متمثلة فى رسالة للحبيبة، وأخرى لحبيب، ورسالة شاب لأمه، وأخت لأخيها، ورسالة شاب شاذ لأبيه، تبدأ من خلف النافذة وتنتهى بالبوسطجى الذى يكتب لنا قبل الوداع قائلا: «الآن، أكتب رسالتى إلى من قد يأتى إلى هنا، وأضعها على بينة واضحة للعيان قرب فهرس الرسائل...». هى حكايات لمعذبين من الرجال والنساء، فهى تمثل واقعنا الأليم والمختلف ليس للأفضل بل للحقيقة الصادمة الموجعة عن تعساء مهاجرين كسالى منفيين فاقدون لأوطانهم ومنازلهم وهوياتهم، عن تلك الأمانى الزائفة، رسائل مليئة بالبوح والندم على ما مضى، موجزها لاذع، عن حب مهجور، ومومس، ومجرم تلاحقه تفاصيل الذكريات المفزعة، رسائل المأساة الكبرى مأساة الأوطان، ضمائر فضحتها رائحة نتنة، ووعود زائفة بحياة هادئة ليس متاحا فيها ما هو إنسانى، بل هو التعاسة التى نراها الآن فى أوطاننا العربية. الكلمة أمانة ولأنها كذلك فالكثير من الكتاب والصحفيين يعانون، وليس واضحا الحبيب العاشق الذى يكتب رسالة لحبيبته هل هو صحفى أم موظف قائلا: «إذ من يكون فى مثل حالى لا يرفض عملا بأى أجر كان. أى أجر فى وضعى هو أجر محترم، هذا صحيح لكن العمل... عملت. عملتُ عند ذلك العسكرى الانقلابى الذى فتح جريدة ليعلم الخليفة أصول الديمقراطية». ليفتح لنا سبل للكلام عن أهمية الكتابة، حين شرح لنا إعجاب رجل الأمن بقوته وسطوته على القلم، فيقول: «تعجبه لعبة قوته على الرجال الذين يكتبون ولا بد من أنه كان يتساءل: بماذا تنفعنا الكتابة؟». مأساة المواطنين فى البحث عن عمل فى هذا التيه خارج الوطن وداخله أيضا: «انشغلنا فى البحث عن عمل آخر يشبه بالطبع ذلك الذى طردنا منه، يسندنا ولو لبضعة أشهر لذا كان علينا، من أجل ذلك، أن نصمت تماما وأن نبدو مطيعين قنوعين. فمن دون عقد عمل، لا سبيل إلى الشكوى». نقطة تطفو بنا على السطح لنستفيق من هذه الرسائل التى وصلت إلينا، هى نقطة الوصل بين خمسة أشخاص هاربين ومهاجرين، لا يجمعهم سوى أنهم عرب، فهل يهمش العالم العربى لهذه الدرجة، فى ظل هذا الانفتاح على الآخر، الرسائل لا تصل ولن ولم تصل، كل ما يصل لنا هى هذه الرواية التى تأتى بلغه بسيطة، فهدفها أن توصل لنا أفكارا معينة قصدتها الكاتبة فهى بعيدة كل البعد عن التواصل التكنولوجى بل تواصلنا مع بعضنا البعض فى عالمنا العربى تحمل الاعترافات فى مجملها أنواع من الندم والتبرير والألم والدموع والحزن والتشاؤم والكثير من المشاعر الإنسانية التى يعانى منها هؤلاء المهاجرين بعيدا عن أوطانهم. الشخصيات فى الرواية يعلمون أن رسائلهم لن تصل، وربما هى ليست مكتوبة لتصل، فليس هناك عنوان ترسل إليه الرسائل، ففى تعبير بديع حين استنطقت الروائية هدى بركات البوسطجى ليعكس لنا ما يشعر به الآخر المتمثل فى أهالى من تركوا أوطانهم من أجل لقمة العيش ففيهم الزوجة والابن وأب أسرة حين يوصلهم رسائل الغائبون عن أوطانهم، نجد وحل الأمية التى يعيش فيها العالم العربى المتمثل فى الأهل، ولربما قصدت الكاتبة لفتح هذا الجرح ليقرأ بعضنا بعضا، نتكلم عن ما بداخلنا قبل فوات الأوان، فنحن نتكلم بلغة مختلفة وفى مكان غير ما نحن فيه الآن، صرنا نتحدث بلغة مادية بحتة تأثرنا بتلك الفلسفة، صرنا ننساق وراء أيديولوجيات لربما لم تتناسب وفق عروبتنا وأوطاننا وبيئتنا الثقافية. الحكايات الخمس لم تكتمل لربما قصدت بذلك هدى بركات أن يشارك القارئ فى عملية البوح، وأن يساهم فى الكتابة، نرى أن بعض الرسائل كانت تكتب ويليها حرف وبعض النقاط «س...»، كمساهمة لعصف ذهن القارئ فى تخيل بقية الحكاية، وأن يكتب رسائله هو الآخر رسائل من كل البقاع رسائل تختلف عما نحن نراه فى هذه الديستوبيا التى يعانيها كاتبو هذه الرسائل، وعلى عدم اكتمال أى حكاية ربما هذا الشكل لا يجعلها رواية كاملة فلا نرى شخصيات رئيسية أو شخصيات ثانوية، فالشخصية الرئيسية هى التى تتواجد فى المتن الروائى بنسبة كبيرة، وتبرز من مجموع الشخصيات الرئيسة شخصية مركزية تقود بطولة الرواية، ولم نر الأبعاد الثلاثة من البعد التكوينى حيث يشمل الجانب الخَلْقى كالطول والجمال، أو الأخلاق كالصدق والأمانة، وكذلك البعد الاجتماعى وهو يرتبط بالشخصية من محيطها الخارجى الذى يظهر لنا الجوانب الثقافية والمكانة الاجتماعية والعلاقات الاخرى، وكذلك البعد الوجدانى أو النفسى أى كل ما يؤثر على الشخصية من مكنون نفسها كالرغبة والمزاج والمشاعر المختلفة، وهذا لم نره مكمل لبعضه فى هذا العمل السردى لهدى بركات، فهو عانى من الاختزال إلى أنه لم يكتمل لان تأثير هذه الأبعاد الثلاثة مهمة فقد تتكون لدى الشخصية حالة نفسية معينة بسبب عيب خَلقى مثلا، وقد تسبب هذه الحالة اعتزال الشخصية للمجتمع أو فقدانه لعلاقاته مع الآخرين وليس بالضرورة أن تظهر هذه الأبعاد فى متن الرواية لكل شخصية لكن لا يوجد شخصية دون الأبعاد السابقة، كذلك الزمن بأبعاده الثلاثة أيضا، زمن وقوع الأحداث وزمن كتابة الأحداث، وزمن قراءة الأحداث، وزمن توقيت الحدث قد يكون (صباحا أو مساء الساعة الثامنة مثلا) أو فى الشتاء أو الصيف، أو حدثيا، زمن الاحتلال «النكبة» «عام الفيل»، وزمن مدة الحدث أى المدة التى استغرقها الحدث فى وقوعة، وهذه العناصر المهمة لم يتم تسليط الضوء عليها بشكل مستفيض. والرواية تعد أقرب لمعالجة سينمائية عن خمس قصص قد تصلح لأن تكون سيناريو لفيلم سينمائى كالأفلام التى يتشارك أبطالها تيمة الهروب والشتات والضياع.