تواصل "الشروق" على مدار شهر مارس، عرض يوميات ثورة 1919، التي اندلعت أولى مظاهراتها في 9 مارس بالتحديد، وذلك لإطلاع الأجيال الشابة على أحداث هذه الثورة التي تعتبر أول حراك شعبي سياسي واجتماعي في تاريخ مصر الحديث، شاركت فيه كل فئات وطوائف المجتمع. الكتاب الذي نعتمد عليه لاسترجاع هذه الأحداث هو «تاريخ مصر القومي 1914 -1921» للمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي، الذي يروي في قسم كبير منه يوما بيوم حالة مصر بعاصمتها وأقاليمها وشوارعها وجامعتها في فترة الثورة. ************ أعلنت إنجلترا حمايتها على مصر في 18 ديسمبر 1914، ونشرت جريدة «الوقائع المصرية»، في اليوم نفسه إعلان الحماية: إعلان بوضع بلاد مصر تحت حماية بريطانيا العظمى «يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التي سببها عمل تركيا قد وضعت بلاد مصر تحت حماية جلالته، وأصبحت من الآن فصاعدا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية، وبذلك قد زالت سيادة تركيا على مصر، وستتخذ حكومة جلالته كل التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها». تأليف وزارة رشدي باشا: فترتيب إعلان الحماية على زوال السيادة التركية، لا يفسر إلا بغرض إهدار استقلال مصر الداخلي التام، وهو نيتها منذ احتلالها غير المشروع سنة 1882. في غداة اليوم الذي أعلنت فيه الحماية، وتولى السلطان حسين كامل فيه الحكم، تألفت وزارة حسين رشدي باشا، التي كانت تتولى الحكم من قبل، وبقى الوزراء في الوزارة الجديدة، مع تعديل يسير في مناصبهم، وتغيير خطير في نظام الحكم، إذا سارت البلاد وحكومتها تحت الحماية البريطانية. واستمرت وزارة رشدي باشا في الحكم حتى تولى السلطان فؤاد الحكم، عندما أرسل إليه خطابا يعهد إليه تأليف الوزارة للمرة الثالثة في 1917، ووافق رشدي باشا على تأليفها. تأليف الوفد وموقف رشدي باشا: لم يكن يخلو مجتمع من المصريين المفكرين في أواخر الحرب العالمية الأولى، من التحدث عن مصير البلاد، وما يجب عمله لتحقيق أمانيها في مؤتمر الصلح بباريس (مؤتمر السلام). ففي ليلة 9 أكتوبر سنة 1918، بحفلة أقامها رشدي باشا بكازينو سان استفانو؛ احتفالا بعيد جلوس السلطان فؤاد، بحضور سعد زغلول والأمير عمر طوسون، ابن والي مصر الراحل محمد سعيد، نشأت فكرة تأليف وفد للمطالبة بحقوق مصر واستقلالها في مؤتمر الصلح، فكان أول من فكر في تأليف الوفد هو الأمير عمر طوسون، فأقرها سعد ووافق عليها، ووعد الأمير بأن يفاتح أصدقاءه بالقاهرة في تنفيذها. فاتفق طوسون مع سعد حين قابله في 11 نوفمبر على عقد اجتماع معه في قصره بشبرا يوم 19 نوفمبر، وأرسل فعلا تذاكر الدعوة للمدعوين. أراد سعد زغلول تنفيذ الفكرة والانفراد بها بعيدا عن الأمير طوسون، لكي لا تكون الرئاسة للأمير إذا ظل مشتركا في تنفيذها، وبدا ذلك واضحا من خلال القرار الذى أصدرته الحكومة الذي يوضح أيضا تعاون وزارة رشدي مع سعد وتأليفه للوفد ورئاسته، فأصدرت الحكومة قرار بمنع الاجتماع، وأبلغ رشدي باشا الأمير هذا القرار، وقيل إنه اتخذه باتفاق مع السلطان ومع سعد باشا، فلم يكن من الأمير إلا أن أرسل إلى المدعويين تذاكر (رسائل) بتأجيل الاجتماع. خطوات الوفد لاثبات هيئته بصفته المتحدث عن الأمه بدعم رشدي باشا: عمل الوفد على أن يثبت لهيئته صفة التحدث عن الأمة، ورأى أن الوسيلة العلمية في ذلك وضع صيغة توكيل يوقع عليها أعضاء الهيئات النيابية، كالجمعية التشريعية ومجالس المدريات والمجالس البلدية وغيرها، مع توقيع أكبر عدد ممكن من ذوي الرأي والأعيان وسائر طبقات الشعب. وزعت التوكيلا بالفعل على أعضاء الهيئات وطبقات الشعب، وأخذت في الاتساع في المدن والأقاليم، وأوشكت أن تكون أساسا لحركة عامة للمطالبة بالاستقلال التام، الأمر الذي أوجست منه السلطة العسكرية البريطانية خيفة، وسعت لإحباطها، فأصدر المستر هينز، المستشار البريطاني لوزارة الداخلية، أوامر مباشرة للمديرين بمنع تداول التوكيلات أو التوقيع عليها. علم سعد بهذه الأمور، فأرسل على الفور خطابا إلى حسين رشدي باشا، يشكو فيه من الإجراءات التي اتخذتها السطلة العسكرية البريطانية، ويطلب منه بلهجة ودية أن يأمر بترك الناس أحرارا في التوقيع على التوكيلات في 23 نوفمبر 1918. استمرت الإدارة في خطتها التي أملاها عليها مستشار الداخلية، وزادت شدة، وصادرت بعض التوكيلات التي تم التوقيع عليها، فدعى الأمر سعد زغلول بإرسال خطابا ثانيا، لرشدي باشا في 24 نوفمبر، ينهي إليه أمر المصادرة، ويلفته إلى هذه المعاملة التي يأباها العدل ومبادئ العصر الحاضر. ثم أرسل رشدي باشا ردا على الخطابين، قر فيه أن هذه الأوامر صدرت من مستشار وزارة الداخلية ويرجع سببها لوجود الأحكام العرفية واعتبار التوكيلات من الأمور التي تدعو إلى الإخلال بالنظام العام، وكانت لهجته وأسلوبة في الرد يدلان على على تأييدا ظاهرا للوفد وإرجاحا للسلطة البريطانية، وأن الوزارة على خلاف مع السلطة البريطانية في شأن حركة الوفد، وأن الحكومة لا تشاطر هذه السلطة وجهة نظرها ولا إجراءاتها ضد الوفد، فكان ذلك مما ساعد على نمو الحركة واتساعها. وبالفعل لم تحل أوامر المستشار البريطاني دون استمرار التوقيع على التوكيلات، فكان الأمر عسيرا على رجال الإدارة منع التوقيعات فضلا عن مصادرتها، بالإضافة لشعورهم بأن وزارة رشدي باشا راضية عن الحركة، فبدا لهم التراخي في تنفيذ أوامر المستشار البريطاني. وغدا حلقة جديدة .....