أومبرتو إيكو.. سبع صنائع وحظ سعيد أستاذ لغة ايطالية وتقنيات ترجمة (جامعة تورينو – إيطاليا) الكاتب: البحث مثل الخنزير لا ترمى منه شيئًا لأن كل ما فيه ينبغى أن يستغل حالت شهرته دون حصوله على جائزة نوبل وصفوا مكتبته فى ميلانو ب«الحصن الكبير» احتفظ ب32 ألف كتاب و1200 مخطوطة تقدر قيمتها ب2 مليون يورو تحل فى الخامس من يناير ذكرى ميلاد الروائى والمفكر الإيطالى إمبرتو إيكو، صاحب الرواية الساحرة «اسم الوردة» وأعمال عديدة وضعت اسمه فى صدارة مبدعى ومفكرى القرن العشرين.. وبهذه المناسبة تستعيد د. نجلاء والى أستاذة الأدب الإيطالى فى تورينو، سيرة الكاتب الذى وصفته الصحف عند موته ب«الرجل الذى يعرف كل شىء». ********* (1 ) عرفت إيكو للمرة الأولى فى مرحلة الدراسات العليا عندما نصحنى أستاذى الفاضل دكتور عامر الألفى رحمه الله، بقراءة كتاب إيكو الشهير «كيف تكتب بحث التخرج» وفيه يشرح بأسلوب فذ خطوات كتابة البحث بدءا من اختيار الموضوع إلى ترتيب المراجع العلمية وعلى الرغم من مرور نحو أربعين سنه على هذا الكتاب فإنه لا يزال يشكل مرجعا مهما فى المرحلة الجامعية حتى الآن وفيه عبارة إيكو الشهيرة: كتابة بحث أكاديمى من أكثر الأشياء الممتعة؛ فالبحث مثل الخنزير لا ترمى منه شيئا كل ما فيه يستغل. وبعد ذلك عشقت روايته «اسم الوردة» واقتربت من عوالمه وأصبحت كتبه لا تفارقنى فى أثناء دراستى؛ فإيكو الرفيق الدائم لكل من يقترب من علم اللغويات والترجمة. ثراء شخصية إيكو وتعدد عوالمه يجعل الاقتراب منه تحديا شديد الخصوصية، يراودك معه شعور بعدم الملاءمة والتضاؤل أمام الفيض المعرفى الغزير لصاحبها وقد تشعر بالغيرة من ذلك العالم بكل الأشياء ولكن ما سر كل هذا النجاح والشهرة العالمية لدرجة انه يقال إن شهرته حالت دون حصوله على جائزة نوبل، وكان هو يسخر من هذا الانتشار ويعزوه إلى سهولة نطق لقبه. وبعيدا عن الدعابة، إيكو هو بالفعل ابن عصره ونشأته فى منتصف القرن العشرين الذى كان يذخر بالمفكرين والنقاد وقد استغل بذكاء كل وسائل المعرفة التى أتيحت له، واستطاع تكوين شخصية موسوعية عاشقة للمعرفة. بدأ حياته بدراسة الفلسفة وتخرج فى جامعة تورينو عام 1954 ببحث عن الجماليات لدى توما الأكوينى. وتخصص فى العصور الوسطى التى شغف بها ثم اتجه إلى السيمائية وأسس قسم علوم الاتصال بجامعة بولونيا التى كان يحاضر بها لسنوات طويلة وأصبح رئيس الدراسات العليا بقسم العلوم الأنسانية. وقد فهم إيكو الفلسفة على انها المعرفة الكلية وارتياد لكل دروبها وبذا تفوق على زميله العظيم بينديتو كروتشه. وقد وصف أحد الصحفيين مكتبة منزله بميلانو بالحصن.. إذ إنها تشغل طابقين من المنزل، وهى مكونة من أرفف عديده وقد رُص فوقها آلاف من المجلدات بجميع اللغات فكان يحرص على الاحتفاظ بترجمات أعماله بجميع اللغات بلغت مكتبته اثنين وثلاثين ألف مجلد وألفا ومائتى مخطوط نادر. وبينما تحل هذه الأيام ذكرى إيكو، فإن مكتبته هذه التى أوصى بتحويلها إلى مكتبة عامة تقدر قيمتها المادية ب2 مليون يورو، ولا أحد يعرف بعد أين ستستقر، لأنها محل نزاع بين بلدية روما وجامعة بولونيا وبلدة أليساندر مسقط رأسه. كان أبوه محاسبا، لكن جده كان صاحب مطبعة، وقد حكى عن تأثره الشديد بجده على الرغم من عدم معايشته له، حيث رحل عندما كان أومبرتو فى السادسة من عمره، تاركا له عددا من الكتب الرائعة لأدب القرن التاسع عشر. يذكر إيكو إن تلك الكتب ظلت قابعه داخل صناديق فى قبو منزل عائلته بعد وفاة الجد، وكان الصبى يذهب كل حين لإحضار زجاجة نبيذ أو قطع فحم، وذات يوم فتح أحد الصناديق فعثر على كنز من مؤلفات ألكسندر دوما ومجلة للرحلات والمغامرات فى اليابسة والبحر، ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلة عشقه للكتب والقراءة، وكتب فى أحد مقالاته عن القراءة أن من بلغ السبعين دون قراءة كتاب عاش حياة من سبعين عاما ومن قرأ أضاف إلى عمره سنوات وسنوات فكأنه عاش خمسة الآف عام وشهد قتل قابيل لهابيل وحضر زواج رينزو من لوتشيا (الخطيبين لمانزونى) وتأمل ليوباردى فى اللانهائية؛ فالقراءة هى خلود ارتدادى. وربما لم يحظ كاتب إيطالى معاصر بشهرة وانتشار إيكو؛ الأكاديمى والمفكر والروائى والصحفى، بل والإذاعى، وربما لا يعرف الكثيرون أنه كان كاتب أطفال كذلك، وقد كان مميزا فى كل ما قدمه. كان كما يقول المثل يجيد سبع صنائع لكن حظه لم يكن ضائعا. وقد ترجمت كتبه إلى لغات متعددة ومنها العربية. وارتبط اسم إيكو فى ذهن القارئ العربى بروايته الشهيرة «اسم الوردة» والتى ترجمها أحمد الصمعى وفازت عقب صدوروها عام 1980 بالجائزة الأدبية الرفيعة «لاستريجا» وقد تحولت بعد ذلك إلى فيلم من بطولة شون كونرى عام 1986 كانت «اسم الوردة» هى أولى روايات الأكاديمى وأستاذ علوم الاتصال والسيميائى والفيلسوف أومبرتو إيكو والتى وصفها الناقد الفرنسى بيرنارد بيفو بالزلزال الأدبى. لم يكن أحد يتوقع أن يكتب أكاديمى سيميائى فى سن الخمسين مثل إيكو رواية شيقة ذات حبكة بوليسية تباع منها ملايين النسخ. بعد اسم الوردة توالت إعمال إيكو الأدبية مثل بندول فوكو وقد ترجمته الصديقة أمانى فوزى ،وجزيرة اليوم السابق، ومقبرة براغ، وأخيرا العدد صفر، كتب أيضا للأطفال وكانت قصصه الأولى بعنوان القنبلة والجنرال وصدرت عام 1966. وكل روايات إيكو توظيف عبقرى لمخزون أدبى وفلسفى ودراية عميقة بتاريخ العصور الوسطى لم يتخل فيها أبدا عن روح السخرية والدعابة التى ميزت أعماله التى وصفها بمبارة شطرنج بينه وبين القارئ وكانت طريقته فى الكتابه تطبيق لبحثه البديع النص المفتوح فى عام 1962 يُعرِف إيكو النص بأنه آلة خاملة تحث القارئ على المشاركة فى عملية تأويلية لكشف ما لم يقله المؤلف وتركه غامضا. النص كما يراه إيكو غابة، يتحرك القارئ داخلها وعند كل خطوة يقابل موضعا يتشعب منه طريق آخر وعليه أن يختار الطريق الجديد، وليس ذلك بالأمر الهين، إذ فى العادة يجد القارئ نفسه يسلك الطريق الذى رسمه له المؤلف وقد يتعمد المؤلف تضليله واخفاء جوانب من النص، لذا ينبغى أن يستعيد القارئ حرية الإختيار وتوظيف طاقاته لإختيارات أكثر عقلانيه، وأن يعرف أن كل شخصية تخفى اخرىو كل حكاية تتشابك مع اخرى فى مسالك لا تنتهى. فى المجال البحثى، ترك إيكو رصيدا ضخما مثل «التاويل والتاويل المفرط» و«السيمايئية وفلسفة اللغة» ووهناك كذلك كتابه البديع عن الترجمة والذى لخص عنوانه صلب المشكلة وجوهرها «أن تقول نفس الشىءتقريبا» كما خصص لتاريخ الفن مجلدين: «تاريخ الجمال» و«تاريخ القبح». تألق ايضا فى مجال الصحافة، وكانت له صفحة ساخرة بالمجلة الأسبوعية لايسبريسو والتى استمرت من عام 1985 إلى عام 2016 وقد صدرت مختارات من هذه المقالات فى كتاب «كيفية السفر مع سلمون..معارضات ومستعارات جديدة» وهو يذكرنا بكتاب الفرنسى رولان بارت «أسطوريات» فى تناوله للظواهر الاجتماعية والثقافية بانتقاد فلسفى، لكن إيكو يزيد على بارت بروح السخرية. وفى الإذاعة قدم فى الفترة من 1973إلى 1975 حلقات بعنوان محاورات مستحيلة كان يتخيل فيها احاديث مع شخصيات تاريخية وادبية فى محاولة اعادة تأويل لتلك الشخصيات ولعل من اطرفها الحوار التخيلى مع بياتريشا ملهمة دانتى اليجيرى وحديثها الممتع عن رفضها لإقحام شخصيتها فى الكوميديا الإلهية واستغلال دانتى لها بعد موتها، كل ذلك فى اسلوب طريف ممتع يدعو للتأمل ويضفى بعد انسانى جديد للشخصية. ومع هذا التعدد فى الاهتمامات ومع غزارة الإنتاج يصعب تأطير إيكو فى إطار واحد، ولكننا نستطيع أن نريح أنفسنا بوصف «المفكر الموسوعى» وهو نوع من المثقفين يزداد ندرة يوما بعد يوم. إرث إيكو من الأعمال سيحقق له الخلود لسنوات طويلة قادمة ويقدم لنا الفرصة لإضافة سنون طويلة مثمرة إلى حياتنا.