هذا حدث فى يوم واحد. فى الصباح استوقفنى خبر استقالة قائد الجيش البريطانى فى أسكتلندا وأيرلندا الشمالية وشمال إنجلترا من منصبه احتجاجا على سياسة حكومة بلاده فى أفغانستان. وهو ما أبرزته الصحف البريطانية وتناقلته وكالات الأنباء مشفوعا بعرض لسيرة الرجل، الجنرال أندرو ماكاى (52 سنة)، وبتحليل للأسباب التى دفعته إلى ترك منصبه الرفيع الذى كان قد رقى إليه قبل ثلاثة أشهر. من الكلام المنشور عرفنا أنه كان قائدا للقوات البريطانية فى جنوبأفغانستان فى عامى 2007 و2008، الأمر الذى وفر له خبرة جيدة بظروف الحرب الدائرة. وأدرك من تجربته أن هناك أخطاء فى الاستراتيجية المتبعة إزاء السكان المحليين (الأفغان) وأن هناك ثغرات فى تجهيز نحو تسعة آلاف جندى بريطانى ينتشرون فى أنحاء أفغانستان قتل منهم 217 شخصا حتى الآن. وهى خلفية أرقت ضمير الرجل، ولأنه لم يحتمل الاستمرار كقائد فى جيش ينفذ سياسة لم تقنعه، قرر أن يقدم استقالته ليستريح، وليبرئ نفسه أمام الرأى العام والتاريخ. فى المساء تواجدت فى مكان كان من بين حضوره عدد من المسئولين الكبار فى مصر. وأدهشنى أن أحدا منهم لم يكن راضيا عما يحدث حوله، ولم يكن مقتنعا بالقرارات التى اتخذت مؤخرا بخصوص بعض القضايا الداخلية المهمة. ولولا أن المجالس أمانات، لنقلت بعضا من الانتقادات اللاذعة والأوصاف القاسية التى سمعتها منهم. الكلام أثار عندى السؤال التالى: إذا كان كل واحد من حضراتهم غير راض عما يجرى فى موقعه. أو عن سياسة الحكومة التى هو جزء منها، فلماذا يستمر فى منصبه ولا يستقيل منه؟ ليس الوضع استثنائيا، لأننا بصدد ظاهرة، فاستقالة المسئول من منصبه اعتراضا أو احتجاجا على شىء فى السياسة العامة أمر مألوف فى الدول الديمقراطية، كما أن تعلق المسئول بمنصبه رغم عدم رضاه عن السياسة العامة هو القاعدة فى العالم الثالث والدول غير الديمقراطية، وهذا التعلق يشتد كلما علا المنصب، وهذه القاعدة تحتمل الاستثناء الذى لا يقاس عليه، من قبيل ما جرى فى مصر إبان عهد الرئيس السادات حين استقال بسبب العلاقة مع إسرائيل اثنان من وزراء الخارجية هما محمد إبراهيم كامل وإسماعيل فهمى. وخلال نحو ثلاثة عقود فى حكم الرئيس مبارك استقال المستشار محمود الخضيرى نائب رئيس محكمة النقض من منصبه احتجاجا على تدخل السلطة فى القضاء. إذا جاز لى أن اجتهد فى تفسير ذلك التباين، فلعلى أقول إن الوزير أو المسئول الكبير فى النظم الديمقراطية أقوى بكثير منه فى الأنظمة غير الديمقراطية، ففى الأنظمة الأولى يحتل المسئول موقعه ممثلا لقيمة سياسية أو معرفية. وفى كل الأحوال فإنه لا يأتى من مجهول. أما فى الثانية فالمسئول ينصب فى موقعه ويستمر فيه استنادا إلى رضا ولى الأمر أو أجهزته، وكثيرا ما يولد أو يكتشف بعد أن يجلس على كرسيه، وفى الأولى هناك رأى عام يخاطبه، وهناك جهات رقابية تحاسبه وهناك دستور وقانون يحتكم إليه، وبالتالى فإن مصيره ليس معلقا بإرادة شخص. أما فى النظم الأخرى فلا شىء من هذا كله، لأن ولى الأمر هو الذى يمسك بكل الخيوط، وولاء المسئول له أهم من ولائه للمجتمع أو للقانون والدستور. والمسئول فى النظم الديمقراطية لا يخسر كثيرا إذا ما ترك منصبه وأحيانا يكبر إذا تركه، أما فى النظم الأخرى فخسارته هائلة لأن انتفاع المسئول بمنصبه لا حدود له، وإذا تركه عادة ما يسقط فى بئر النسيان، ذلك أن من يولد إذا جلس على الكرسى يموت إذا سحب منه. لذلك فإن استقالة المسئول فى الدول الديمقراطية تعد شجاعة تحسب له وتدخله إلى التاريخ، أما فى الدول الأخرى فهى حماقة وغلطة العمر يخرج بهما من التاريخ.