«عندما اقترب الموكب من البانثيون مقبرة العظماء انتشر الطلاب وتطلعوا إلى المنصة المقامة تحت القبة الكبرى التى جلس إليها بعض الوجهاء وعلى رأسهم الرئيس فرانسوا ميتران، وعلى الرغم من أنه كان يعانى من مرض السرطان الذى اشتد عليه فى الأسابيع الأخيرة من فترة رئاسته التى امتدت أربعة عشر عاما، فإنه قرر أن يكرس خطابه الأخير إلى رمز المرأة الفرنسية فى إشارة دراماتيكية، حيث قرر أن يوارى رماد مدام كورى وزوجها بيير فى البانثيون، وبذلك جعل من مارى كورى أول امرأة تدفن فى البانثيون لما قدمته من إنجازات، وهكذا تم إخراج رماد آل كورى من مقابرهم بضاحية سيو ليدفنوا بجوار بعض الخالدين أمثال أونورى جبرائيل ريكوتيه وجان جاك روسو وإميل زولا وفيكتور هوجو وفولتير وجين باتيس بيرين وبول لانجفين». الوصف الذى قدمته الكاتبة والمؤرخة المرموقة باربرا جولدسميث لهذا المشهد الراسخ فى الذاكرة الفرنسية بشكل خاص والإنسانية بشكل عام، وصف رفيع يعكس الحالة العامة التى سادت كتابها «هوس العبقرية الحياة السرية لمارى كورى»، الذى أفاض فى الكشف عن حالتى الغرام والافتتان، إن صح التعبير، بحياة العالمة الفذّة مارى كورى التى ملأت وجدان باربرا جولدسميث ،ودفعتها إلى الإبحار فى عوالم كورى الصامتة والصاخبة فى آن واحد، وذلك بعد أن دخلت فى رحلة بحث نهمة أسفرت عن حصولها على كتب وخطابات ويوميات مارى كورى، التى صدرت بعد أن ظلت حبيسة لقرابة الستين عاما، وأسست على متنها هذا الكتاب الذى اختارته نيويورك تايمز ضمن أفضل الكتب مبيعا بعد صدوره، وأخيرا صدرت هذا العام ترجمة هذا الكتاب إلى العربية عن «كلمة» فيما قامت دار «العين» بنشره. كتاب باربرا جولدسميث مشحون بمقومات العمل الروائى الإبداعية والسردية والسحرية، وإن كانت لم تتدخل فى منح حياة مارى كورى أى تفاصيل مختلقة أو مثيرة لإحكام صنعتها ،خاصة أن حياة كورى لم تكن على أى حال بحاجة إلى هذا التدخل، فقد كانت تفاصيل حياتها شديدة الإبهار بطراز فيلم سينمائى مفعم بالنقلات الدراماتيكية التى تأسر جمهور العرض، فهى كما وصفتها المؤلفة «نادرة كوحيد القرن فى مجال العلم»، فقد جاءت من أسرة بولندية فقيرة وعملت لثمانى سنوات لتقتصد النقود لتدرس فى السوربون، وتغلبّت على صعاب تفوق الخيال، وفى سنة 1893 كانت مارى كورى أول سيدة تحصل على درجة علمية فى الفيزياء من السوربون، وفى السنة التالية حصلت على درجة علمية ثانية فى الرياضيات، وكانت أول سيدة تحصل على منصب أستاذ فى السوربون وأول سيدة لا تحصل فقط على نوبل واحدة بل اثنتين، الأولى فى الفيزياء بمشاركة زوجها وهنرى بيكيريل لاكتشافهم ظاهرة النشاط الإشعاعى، أما الثانية فجاءت بعد ثمانى سنوات فى الكيمياء لفصلها لعنصرى البولنيوم والراديوم، وهى أول سيدة يتم انتخابها فى الأكاديمية الفرنسية للطب التى كان عمرها 224 سنة وقتها، وبالإضافة للنجاح المذهل فى عملها فقد تمكنت من تربية ابنتيها وحدها معظم الوقت حتى حصلتا على تعليم جيد. من خلال تتبع سيرة مارى كورى عرض «هوس العبقرية» لفترة تاريخية مهمة فى تاريخ العلوم الحديثة، وملامح المجتمع العلمى الأوروبى فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهى الفترة التى شهدت اكتشاف الأشعة السينية والنشاط الإشعاعى وميكانيكا الكم والنظرية النسبية وفك طلاسم التركيب الذرى، وعلى الرغم من هذه التفاصيل العلمية المتخصصة التى أفنت حياة الكثير من العلماء والباحثين فى ذلك الوقت وعلى رأسهم مارى كورى إلا أن الكتاب حرص على الكشف عن جوانب من الفلسفات الإنسانية الكامنة لدى هذه العالمة التى كانت تؤثر الصمت على الكلام ،الذى كان يعينها على الاستغراق فى مشروعها البحثى وربما التأمل بصورة أعمق فى مراد الحياة، فهى من قالت يوما «لا شئ يرهب فى هذه الحياة، هى فقط لنفهمها». ألحّت جولدسميث على مدار كتابها على تعبير «الملهمة»، معتبرة أن مارى كورى بالنسبة لها كانت امرأة ملهمة، منذ أن شاهدت فيلم مدام كورى سنة 1943 الذى أنتجته هوليوود وتقول عنه « مازلت أتذكر وجه من مثلّت دور مارى وهو يتصبب عرقا عندما كانت تقوم بتحريك وعاء يغلى بالخام، ولن أنسى ما حييت منظر بيير ومارى فى ظلمات الليل وهما يدخلان إلى المعمل ليشاهدا بقعة الضوء الخافت تتوهج فى قاع أحد الأطباق،صاحت مارى حينئذ بينما كانت دموعها تنهال على خديها وتقول: أوه بيير ،هل هذا ممكن؟ هل هذا كل شئ ؟ نعم كان هذا الشئ هو الراديوم». انتقلت باربرا جولدسميث من مرحلة الإعجاب الشديد بنموذج مارى كورى الذى جسدته بطلة هوليوود، ليحرك داخلها تساؤلات عدة أضحت موضوعا رئيسيا فى كتاباتها بشكل عام، أبرزها لماذا تستسلم بعض النساء لأقدارهن بينما تهرب أخريات أو تلتف حول العقبات أو تتغاضى عنها؟ ولماذا تبحث بعض النساء عن الاستقلالية بينما تفضل الأخريات الامتثال إلى ما هو مقدر لهن؟ وكيف أثر المجتمع والأسرة فى طموحاتهن؟ وعلى أى الأوتار عزفت مدام كورى، وعلى الأخص بالنسبة للنساء، وتقول الكاتبة فى هذا الصدد «ما يشغلنى الآن بولع يقع فى المسافة بين الواقع والخيال، وربما ما زالت مدام كورى الأسطورة أشهر امرأة عالمة فى العالم، ويعتبر الراديوم اكتشاف مدام كورى المذهل، وقد حظى باهتمام مهول فى معالجة السرطان من خلال أشعته، لكن فى الواقع، هل هذا صحيح وهل كان ذلك هو مساهمتها الكبرى فى العلم؟ لا شك أنه على مدار القرن الماضى تحولت سيرة مدام كورى إلى قمة الكمال، لكن وراء هذه الصورة كانت هناك امرأة حقيقية، إنها الشخصية التى أرغب فى تتبعها».