يملك بعض الإعلاميين فى مصر قدرة على الفزع، تشتت قدرة الرأى العام على التركيز ومتابعة الحقائق، وتعطى الحكم فرصة إطفاء النيران بأبسط التصريحات أو المناوشات الإعلامية المحدودة، وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة من تناول بعض الدوائر الإعلامية أو السياسية لمسألة الخلافات حول مياه النيل لفترة ثم مضاعفة القلق بعد ذلك بربطها بزيارة «أفيجدور ليبرمان» وزير الخارجية الإسرائيلى لعدد من الدول الأفريقية، التى تقع بعضها فى حوض النيل. وبينما يعتمد العمل السياسى والدبلوماسى فى مصر على الصمت أو الاتصالات الجانبية، فيما يسمونه بالدبلوماسية الهادئة إن وجدت، فإن قدرة «إسرائيل» الإعلامية جديرة أن تجعل المقارنة بين سلوك الدولتين مثيرة، وها هو الوزير المعروف بأنه قنبلة إعلامية أساسا فى الواقع الإسرائيلى، يحول ما سماه ضعف الحضور الإسرائيلى بأفريقيا فى رأيه لمدة عشرين عاما إلى حملة كبيرة تسترد فيها إسرائيل وزنها ويؤكد فيها هو نفسه وزنه الداخلى هو بزيارته لخمس دول بارزة فى شرق وغرب القارة، ولا يسعه إلا أن يرهب من يعيشون على التصريحات الإعلامية، فى زمان العمل والاتفاقات الكبرى، لا يسع «ليبرمان» إلا أن يبدأ «بإثيوبيا» و«دول حوض النيل» ليؤكد إرهابه السابق عن ضرب «السد العالى» بالقنابل! والحقيقة أنه لا يقوم إلا بافتتاح مركز بحوث فى «أديس أبابا» ومشاركة عشرين من رجال الأعمال اجتماعهم مع قرنائهم فى العاصمة الإثيوبية فيما يسميه «منتدى اقتصادى»، بينما يضم وفده رجال أعمال ومختصين بالتكنولوجيا وتجارة السلاح والماس وشركات الأمن. وبالمثل يفعل فى «كينيا»، حيث تصريحات بعض البرلمانيين والصحفيين هناك معروفة حول حقوق بلادهم فى مياه النيل ومراجعة اتفاقياتها، وهنا نجد «ليبرمان» ومصادره تتحدث عن اجتماعه مع «وزير المياه» فى كينيا وتبادل المذكرات معه، ثم لا ترد أى إشارات أخرى ذات قيمة بالنسبة لمكانة «حوض النيل» فى الدبلوماسية الإسرائيلية، بما يجعلنا فى أبعادها الاستراتيجية الأخطر على مستوى القارة والمكانة الإقليمية لإسرائيل مقابل اهتزاز المكانة المصرية والعربية. ولا يمكن تعريف الدبلوماسية المصرية فى السنوات الأخيرة إلا أنها «دبلوماسية» «مجهدة» ذات قيادة «منسحبة» أو «ملولة» من العمل الأفريقى بوجه خاص، بما يمكن أن يضحى بالمصالح أو المكانة ويفقدها أى فاعلية فى مواجهة التصاعد الإسرائيلى المستدام من جهة واقتحامه مناطق حضورنا التاريخية من جهة أخرى. والدبلوماسيات أو المكانة السياسية الخارجية لا تتحقق فقط بالإعدام أو حتى بالزيارات ومهرجاناتها الدبلوماسية هنا وهناك، ولنضع شكوى «ليبرمان» عن ضعف سياسة إسرائيل فى أفريقيا، والتى حاول هو استرداد أنفاسها بهذه الزيارة «كذا» لعدد من الدول الأفريقية، لنضعها أمام الحقائق الكبرى التالية، لصالح وزن إسرائيل فى القارة أمام الانسحاب المصرى الواسع فيها: إسرائيل التى يشكو وزيرها من ضعف علاقتها بأفريقيا، تصل تجارتها المسجلة فى القارة لأكثر من مليارى دولار، مع العلم بأن أكثر من ضعف هذا الرقم قائم لشركات مسجلة بمسميات خارجية أخرى لدواعٍ أخرى ومنها مواجهة المقاطعة التى كانت قائمة. أى أن التجارة الإسرائيلية تدور رسميا فى حدود أحد عشر مليار جنيه مصرى، مقابل نصف مليار جنيه باسم مصر! وفى إسرائيل ثلاث عشرة شركة فى حلف تجارى «أفريجروب» (أفريقيا إسرائيل انفستمنت) لتجارة الماس، يسيطر على 75٪ مما تملكه أفريقيا، وتخرج إحصاءاته عن أرقام التجارة الرسمية لاعتبارات أمنية، وبسبب طبيعة هذه الشركات الدولية أيضا. وإسرائيل هى رابع أو خامس دولة فى تجارة السلاح الكبرى فى العالم، وهى العميل الأول فى هذه التجارة لعدد كبير من الدول الأفريقية (فضلا عن الآسيوية)، وتذكر نيجيريا تحديدا أكبر وأغنى دولة فى القارة على رأس اتفاقات التسليح الأخيرة بسبب الحكم المأزوم هناك سواء تجاه متمردى منطقة البترول فى دلتا النيجر أو مع مسلمى الولايات الشمالية الفقراء. ولإسرائيل باع طويل مع «شركات الأمن» السياسى والعسكرى التى باتت نمطا معروفا مع الشركات المحترفة شبه التجارية، ممتدة من «العراق» و«أفغانستان» إلى «الكونغو» والمحيط الهندى، ويشكل هذا المجال جزءا مهما من التعاون العسكرى الإسرائيلى الأمريكى الذى يتيح لها التفوق وفتح الآفاق لا فى الشرق الأوسط فقط ولكن على مستوى عالمى يفوق حضورها الذى يجرى تكثيفه على مستوى القارة الأفريقية. وإسرائيل، لا تتوقف عند المشروعات الصغيرة، ولا المشكلات المحددة حتى لو كانت اتفاقيات مياه النيل! كانت إسرائيل فى فترات مضت تثبت ودها أمام الوجود المصرى والعربى بأبسط المساعدات الفنية، وكنا نسمى ذلك «التغلغل الإسرائيلى فى أفريقيا»، حيث كان على أكثر من ثلاثين سفارة عربية فى القارة التنبه لكل صغيرة وكبيرة تلمح إلى تزايد الوجود الإسرائيلى فى القارة. لكن إسرائيل قادرة الآن على استغلال الشراكة مع الولاياتالمتحدة وأوروبا فى مجال الاستثمارات الكبرى، كما تستمد هذه الشراكة نفوذا فى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى لتقيم العلاقات مع أفريقيا كميسر للقروض والديون، هذا فضلا عن سعيها لدى المنظمات الإقليمية الكبرى فى أفريقيا نفسها، وكل ذلك مما يغرى دول القارة مجتمعة، وليس مجرد دول حوض النيل تثق فى وزن إسرائيل الدولى، وتسلم معها بخطط البنك الدولى حول المياه والتنمية فى الحوض. وإذا شئنا أن نرى أمورا أخطر قليلا مما يجرى استراتيجيا حولنا فلنعرف مثلا أن السيد «ليبرمان» يصل إثيوبيا بعد زيارة قادة الأركان الأمريكيين خاصة للقيادة الأمريكية لأفريقيا (أفروكوم) لأديس أبابا وعقد ندوات استراتيجية فى العاصمة الإثيوبية حول مستقبل هذه القيادة فى القارة. كما أن وزير الخارجية الإسرائيلى، يزور «كينيا وأوغندا ثم نيجيريا وغانا» بعد زيارة «هيلارى كلنتون» لهذه الدول مباشرة وبثها وضع القيادة العسكرية الأمريكية (أفروكوم) فى القارة فى عهد «أوباما» الذى وجه خطابا لأفريقيا من «غانا» المؤيدة لفكرة القيادة الأمريكية، كما راجعت موقف «نيجيريا» المتحفظ نسبيا على هذه القيادة. الدبلوماسية المصرية المجهدة والملولة تعرف طبعا أنه كان لنا الكثير فى «نيجيريا»، و«غانا»، ومازال لنا فى «أوغندا» وحتى «إثيوبيا» و«تنزانيا».. ولنقل تفاؤلا أن كثيرا من المسئولين يعرفون ذلك ولكن التحرك فى نطاق سياسى كبير يحتاج إلى استراتيجية دائمة، وسياسة شفافة ومؤسسات تعى المصالح والارتباطات وتدير العلاقات مع الداخل والخارج على السواء. وذلك ضرورى ومفتقد في نفس الوقت عند المقارنة بإسرائيل الآن لأن الأخيرة تعى معنى القوة الإقليمية وعناصرها فى التعامل مع مناطق العالم المختلفة ومنها أفريقيا كما نرى، وليس مجرد الوجود حتى فى الشرق الأوسط، بينما تتجاهل مصر كل عناصر القوة الإقليمية عربيا وأفريقيا ودوليا، راضية بالمظاهرات الدبلوماسية أحيانا بما لا يخفى على أحد فى السودان والصومال وفلسطين والعراق والمغرب وموريتانيا، وحتى إدارة الشركة مع ليبيا والجزائر. ولقد دهشت وأنا أتابع أنباء زيارة «ليبرمان» بمصادر إسرائيلية تلفت نظره إلى عناصر ضده فى أكبر دولتين بأفريقيا: إلى ثورة اتحاد العمال وحزب المؤتمر فى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بسبب موقفها من الفلسطينيين، وتصريحات زعيم متمردى دلتا النيجر فى نيجيريا ضد تسليم إسرائيل السلاح للحكومة الفيدرالية، تذكرت عندئذ علاقتنا التى تهدر تباعا مع شعب جنوب أفريقيا وتراث حركته التحررية، وإلى فرصة فضح إسرائيل التى تاجرت ضدنا كثيرا فى مسألة مساعدة الحكم ضد بيافرا. وتمنيت لو أن لمصر قدرة أكبر من مجرد الصمت، وتصور حقيقى لعناصر القوة الإقليمية إلى جانب التمنى على إلعاميينا لوقف الصراخ فقط حول تهديد «ليبرما» لمياه النيل!