فى مقدمة كتابه «تراثنا الفكرى.. فى ميزان الشرع والعقل» يقرر مؤلفه الشيخ محمد الغزالى أن أمة الإسلام هى خمس العالم من ناحية التعداد ولكنها غائبة عن حقول المعرفة والإنتاج والحريات والعدالة. عن هذا الغياب المؤلم وعن أسبابه وطرق علاجه يتحدث الشيخ الإمام فى كتابه الذى ننشر أبرز فصوله.. ما هو أول علم تلقاه آدم عن ربه؟ رفع به مكانته، ورجح كفته، وأقنع الملائكة بأنه أهل للحياة والخلافة فى الأرض والسيادة على أرجائها وأحيائها.. لقد قال سبحانه وتعالى: «وعلّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين! قالوا: سبحاك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم...». ما هذه الأسماء؟.. وما مسمياتها؟.. لا أريد أن أذهب بعيدا، سأبقى مع السياق القرآنى وحده، إن الله يقول للبشر قبل ذلك: «هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا...» وهذه عبارة عامة مجملة، سبقتها فى النزول آيات فصلت الموضوع تفصيلا أوضح «ولقد مكناكم فى الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون. ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم...». ظاهر أن العلم الذى اختص به آدم يتصل بالأرض والحياة على ظهرها، واستثارتها واتصال عمرانها، واستكشاف قواها وأسرارها، ولن تكون الأرض وحدها مهاد الحياة البشرية، فالأرض إحدى بنات الشمس، والمعيشة فوق ترابها مرتبطة بكواكب شتى فى السماء، فلابد أن تتسع المعرفة الآدمية لتشتمل على علوم الكون والحياة. ولا نزعم أن آدم عرف الكيمياء والفيزياء والفلك! لكننا نزعم أنه عرف الأبجديات التى تتكون منها هذه العلوم مع إدمان البحث والتجربة، وأوتى عقلا جوابا فى الآفاق يقدر به على تسخير عناصر الكون لنفسه، كما يقدر به على معرفة آيات الله فى الملكوت الكبير، ودلالة هذا العالم الضخم على عظمة بانيه وبارئه.. وهل خلق الله الكون إلا لهذه الغاية؟ إنه يقول فى كتابه: «الله الذى خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله أحاط بكل شىء علما». إن الله خلق هذا العالم لنعرف نحن من هذا الخلق قدرته وإحاطته، فنقدره حق قدره، ثم نسبح بحمده ونهتف بمجده! والرحلة من الجهل إلى المعرفة بعيدة الشقة، وقد تقطعها أجيال بعد أجيال، ليكن، فهذه رسالة آدم وبنيه على ظهر الأرض.. بها تميز على الملائكة، وبها استحق الخلافة. وعجبى لأمم تحيا على الثرى لا تدرى ما فيه ولا ما تحته لأنها فى طفولة عقلية تحتاج معها إلى المرضع والكافل. أمم لم تمكّن فى الأرض مع أنها أوتيت أسباب التمكين! ولم تجعل لنفسها معايش إلا ما تلتقطه الثعالب من فضلات الأسود! لقد علم أبوهم آدم الأسماء كلها، فجهلوا هم هذه الأسماء كلا أو بعضا، وإنى أرمق المسلمين فى هذا العصر، فأذكر ذا القرنين وقد مر على قوم يغار عليهم ولا يغيرون، وينال منهم ولا ينالون «حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا..». ماذا يطلب هؤلاء العجزة؟ يطلبون من يحميهم من عدوهم، ويبنى لهم حصونا يأمنون خلفها على أنفسهم! لأنهم لا يستطيعون تشييد هذه الحصون! إن علمهم بالحياة ضحل، وحظهم من التمكين قليل. إن صلتهم العلمية بآدم واهية، وطالما شكوت من أن الجانب الإنسانى العام مثلوم فى الحياة الإسلامية المعارصة! وقد يظهر هذا الضعف المخزى فى بعض الأجيال التى تعمر الأرض، فيكون من عمل الأنبياء أن يعرفوا الناس كيف يحمون أنفسهم وكيف يحمون عقائدهم وشعائرهم، يقول الله فى نبيه داود: «وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون». إن معرفة الحياة صنعة إنسانية عامة، والتمكين فى الأرض حق لبنى آدم كلهم، أما الجهل والعجز فعلل تعترى الآدمية تفقد بها شخصيتها وتقصر بها عن رسالتها.. وما يكون الإنسان إنسانا إذا توقف عقله عن الفكر، وأشبهت حواسه وجوارحه حواس الدواب وجوارحها فى أكل ما تيسر، والعيش فى نطاق غرائز بدائية تنطلق بها الكلاب والذئاب. ونعود إلى أبينا آدم، وكم أرق لحاله وهو يهبط من جنته ليكدح كى يبقى! لقد كان فى رزق دار وعيش قار، وها هو ذا يسعى جاهدا حتى لا يجوع ويعرى! هذه عقبى ضعف الإرادة وغلبة النسيان، والخديعة بوساوس الشيطان.. إنه هبط على أى حال وهو مزود بمعرفة نظرية عن حياته الجديدة، وإن كان البون بعيدا بين العلم النظرى والمعاناة الواقعية لابد أن يعرق ويقلق، وقبل ذلك ومعه لابد أن يذكر ربه ويحترم أمره مهما كانت المغريات والمثبطات. وقد قيل له وللشيطان الذى أغواه «اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم منى هدى، فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى».