رئيس مجلس النواب.. منتقدا غياب وزيري المالية والتخطيط خلال مناقشة الموازنة: لا حُجة مقبولة    نشاط مكثف وتوجيهات مهمة للرئيس السيسي خلال النصف الأول من يونيو.. فيديو    رئيس مجلس النواب يعلن قواعد مناقشة الموازنة العامة    تعيين 75 ألف معلم و30 ألف طبيب وممرض في الموازنة الجديدة للدولة (انفوجراف)    رئيس "الرقابة المالية": إصدار منصات صناديق الاستثمار العقاري خلال أيام    وزير الصناعة والنقل يشهد توقيع عقد ترخيص شركة "رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري"    وزير الزراعة: الدولة ملتزمة بما جاء بإعلان كمبالا واستراتيجية وخطة العمل الجديدة    رابع أيام الحرب، سماع أصوات انفجارات متتالية غربي العاصمة الإيرانية    لليوم الرابع.. الاحتلال يغلق المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ويمنع الصلاة فيهما    مصدر بالأهلي يرد على أنباء تدخلات النحاس في وضع تشكيل الأهلي أمام انتر ميامي    موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية بمحافظة الغربية 2025    انخفاض طفيف بالحرارة.. تفاصيل حالة الطقس والظواهر الجوية المتوقعة    محافظ سوهاج يدعو المواطنين للإبلاغ عن وقائع الغش في امتحانات الثانوية العامة بالأدلة    وكيل قطاع المعاهد الأزهرية لشئون الامتحانات: لجنة الفيزياء مستمرة.. وتصحيح عشوائي لقياس دقة الشكاوى    اليوم.. محاكمة 29 متهمًا بالانضمام لجماعة إرهابية فى المقطم    في أول زيارة لماسبيرو.. "المسلماني" يستقبل هدى نجيب محفوظ قبل افتتاح استديو نجيب محفوظ    رغم غلق مطار بغداد.. إلهام شاهين وهالة سرحان تعودان للقاهرة وتشكران العراق- فيديو    قصر ثقافة أبو سمبل يشهد انطلاق برنامج "مصر جميلة" لاكتشاف ودعم الموهوبين    أضرار الحرنكش، الطفح الجلدي وتضرر الكلى    الصحة: لا نعاني من أزمة في أعداد الأطباء.. وبدء تحسين أوضاع الكوادر الطبية منذ 2014    وزير التعليم العالى: بنك المعرفة المصري تحول إلى منصة إقليمية رائدة    "علوم جنوب الوادي" تنظم ندوة عن مكافحة الفساد    القبض على 3 متهمين بسرقة كابلات من شركة بكرداسة    الإعدام شنقا لجامع خردة قتل طفلة وسرق قرطها الذهبى فى العاشر من رمضان    مستقبل صناعة العقار في فيلم تسجيلي بمؤتمر أخبار اليوم    معلق مباراة الأهلي: الحماس سبب تريند «تعبتني يا حسين».. والأحمر كان الأفضل (خاص)    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الاثنين 16 يونيو 2025    أحمد السقا يرد برسالة مؤثرة على تهنئة نجله ياسين بعيد الأب    شام الذهبي تطمئن الجمهور على نجل تامر حسني: «عريس بنتي المستقبلي وربنا يشفيه»    حكم الصرف من أموال الزكاة والصدقات على مرضى الجذام؟.. دار الإفتاء تجيب    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    بعد ليلة دامية.. صعود جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل جلسة اليوم    صيف 2025 .. علامات تدل على إصابتك بالجفاف في الطقس الحار    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    تفاصيل إنقاذ مريض كاد أن يفقد حياته بسبب خراج ضرس في مستشفي شربين بالدقهلية    تنسيق الجامعات.. اكتشف برنامج فن الموسيقى (Music Art) بكلية التربية الموسيقية بالزمالك    موريتانيا.. مظاهرات منددة بالعدوان الإسرائيلي على إيران وغزة    استكمالا لسلسلة في الوقاية حماية.. طب قصر العيني تواصل ترسيخ ثقافة الوعي بين طلابها    ترامب يصل إلى كندا لحضور قمة مجموعة السبع على خلفية توترات تجارية وسياسية    إعلام إسرائيلى: تعرض مبنى السفارة الأمريكية في تل أبيب لأضرار جراء هجوم إيرانى    أحمد فؤاد هنو: عرض «كارمن» يُجسّد حيوية المسرح المصري ويُبرز الطاقات الإبداعية للشباب    إيران تنفذ حكم الإعدام فى مدان بالتجسس لصالح إسرائيل    الرئيس الإيراني: الوحدة الداخلية مهمة أكثر من أي وقت مضى.. ولن نتخلى عن برنامجنا النووي السلمي    سعر الذهب الآن وعيار 21 اليوم ببداية تعاملات الاثنين 16 يونيو 2025    انتصار تاريخي.. السعودية تهزم هايتي في افتتاحية مشوارها بالكأس الذهبية    مدرب بالميراس يتوعد الأهلي قبل مواجهته في مونديال الأندية    "عايزة أتجوز" لا يزال يلاحقها.. هند صبري تشارك جمهورها لحظاتها ويكرمها مهرجان بيروت    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    عمرو أديب: كنت أتمنى فوز الأهلي في افتتاح كأس العالم للأندية    فينيسيوس: نسعى للفوز بأول نسخة من مونديال الأندية الجديد    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    مجموعة الأهلي| شوط أول سلبي بين بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    موجة جديدة من الصواريخ الإيرانية تنطلق تجاه إسرائيل    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



23 يوليو 25 يناير: السؤال القديم الجديد
نشر في الشروق الجديد يوم 24 - 07 - 2016

قبل أيام من الاحتفال «المعتاد» بالثالث والعشرين من يوليو، وفي أجواء سادها اللغط حول "مجانية التعليم"، والإبقاء على فرص "متكافئة" في الالتحاق بالجامعات "الحكومية"، كان لافتا (لا مفاجئا) أن نشهد هذا الأسبوع تحت قبة برلمان 30 يونيو (التي زعموا أنها تستند إلى شرعية 23 يوليو) هذا العداء السافر لما جرى في 25 يناير، مما يستدعي - تحريرًا لمفاهيم التبست - السؤال القديم الذي سبق أن اجتهدنا في الإجابة عليه هنا: هل كانت يناير انقلابا على يوليو أم أنها كانت ضرورة من ضروراتها؟
هل كانت يناير انقلابا على يوليو أم أنها كانت ضرورة من ضروراتها؟ وكيف كان في محاولة إجهاض هذه وتلك عصفا بآمال هذا الشعب في الحرية والعيش الكريم؟
والحاصل، أن في أجواء الهيستريا والشيزوفرينيا الحاكمة لتفكير الواقفين على ضفتي الاستقطاب في مصر (والتي زادت بما جرى في تركيا)، لم تعجب يومها الإجابةُ أحدا. ولذا أحسب أن التذكير بها (ولو في ذلك تكرار غير مستحب)، تنبيها للمتمترسين في هذا المربع كما في ذاك قد يكون فيه بعض الفائدة.
الملاحظة المبدئية، قبل الاجتهاد في الإجابة على السؤال، قد تتمثل في مفارقة أن الباحث الذي يحاول أن يجري تحليل مضمون لخطاب طرفي الاستقطاب هذين قد يفاجأ بالاتفاق التام بينهما في أن دعاية كلا منهما «المعلنة أو المستترة» قد حاولت، بكل دأب أن تضع علاقة ما جرى في يناير بالنسبة ل 23 يوليو في الخانة ذاتها. «ثورة على دولة يوليو» كما يقول الأولون، أو «هدما لدولة يوليو»، كما يقول الآخرون. وأخشى أن كثافة الدعاية، على تناقضها قد ساعدت على تشويش فكر جيل جديد قد لا ىُحسب ابداءً على هذا الطرف أو ذاك.
هل كانت 25 يناير انقلابا على 23 يوليو أم هي ابنة شرعية لها؟
وكيف كان في محاولة إجهاض هذه وتلك عصفا بآمال هذا الشعب (العربي لا المصري فقط) في الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم؟
***
إذ يَلحَظُ القاصي والداني محاولات متعسفة لاستحضار الصور لا مضمونها، غافلة عن حقائق العصر وقوانينه وسياقاته. وعن حقيقة أن يوليو كانت قبل ستين عاما قفزة إلى الأمام ضرورية وواعدة، لا عودة إلى الخلف مربكة ومحبطة. يصبح التذكيرُ بما كان، والتحذيرُ مما هو كائن فرضَ عين وواجبَ ضمير على كل من كان مثلنا من جيل يوليو الذي شاهد الأحلام الكبيرة والإخفاقات الكبيرة، وعرف «بالتجربة» أين كان مكمنُ «الخطأ». وتعلم في أيام يناير «المفاجئة» والعظيمة قيمة ما جاءت به أدبيات يوليو من أن «الشعب هو القائد والمعلم».
في حقائق العصر وصور المستقبل، التي غفل عنها الغافلون: أن هذا زمنُ الجماهير لا القصور، وأن هذا زمنُ الشباب المدرك والمنفتح بحكم ثورة الاتصالات على طموحات عصره، لا زمن أولئك المستكينين المستعبَدين لما اعتادوه، أو المجتَرّين لذكريات «النوستالجيا»، والنافخين لغبار تراكم على الأوسمة القديمة.
في حقائق العصر وشواهده الدامغة، أن حائط برلين سقط ليعلن بوضوح أن «الحريات» تصنع الدول القوية، وأن الاستبداد، مهما تجمل بخطابات الزعماء أو بالاستعراضات العسكرية المهيبة، أسقط دولا وامبراطوريات كانت قد أخذت مكانها المرموق الذي تستحق بما حققته في الحرب الكونية الثانية، قبل أن تنهشها تدريجيا «أوليجاركيا» الفساد والقمع والنخب الحاكمة.
في حقائق العصر وشواهده الدامغة، أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وأن لا ديكتاتور إلا وَقاد بلاده إلى الهاوية، مهما كان قد حقق من انتصارات حقيقية أو مزيفة، فالاستبداد في نهاية المطاف كفيل بهدم كل إنجاز مهما كانت قيمته.. والعبرة كما تعلمنا «بالخواتيم».
•••

عندما كنا صغارا، كنا نقرأ على الغلاف الأخير لدفاترنا المدرسية أن أهداف ثورة يوليو ستة. (من بينها نصًا: «إقامة حياة ديموقراطية سليمة») وعندما كنا طلابا في الجامعات، التي ربما لم نكن لنقترب من أبوابها، لولا هذه الثورة علمتنا حلاوةُ الانتصارات، ومرارةُ التجربة تلو التجربة: أن كل ما أعطته لنا هذه الثورة مهددٌ بالضياع ما لم نعمل على استكمال أهدافها المعلنة. بل وأن هذا الهدف السادس تحديدا «إقامة حياة ديموقراطية سليمة» هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على كل ما تحقق من أهداف، وللوفاء لكل ما أُريق من دماء وعرق، إنْ في حروب لم تتوقف يوما مع العدو الصهيوني، أو في بناءٍ لصروح وقلاع صناعية وثقافية شهدتها مصر الستينيات.
أدرك الشباب (طلاب الجامعات) في 1968 أن غياب الحريات «الكاشفة»، والاستسلام لتخدير الآلة الإعلامية الدعائية كان وراء ضياع الحلم سرابا في صحراء سيناء القاسية في تلك الأيام الحزينة من صيف 1967، وأن الحياة الديموقراطية السليمة هي الضمان الوحيد للحفاظ على «جيش وطني قوي» كانت إقامته ضمن تلك الأهداف الستة.
وأدرك الشباب في 1977، أن ديموقراطية زائفة لن تحول دون تغول «دولة الفرد الواحد»، وإن ارتدى العباءة واعتبر نفسه «كبير العائلة» في تجسيد فاضح لثقافة أبوية وقفت لقرون عائقا أمام تقدم هذه المنطقة من العالم. كما أدركوا حين خرجوا في «مظاهرات الخبز» أن غياب الحريات الحقيقية «الكاشفة دون خوف لما يجري وراء السُتر»، كان كافيا لإنبات بذور دولة الفساد «الاقتصادي»، ولنشأة طبقة «الباشوات الجدد» ولتهديد واقعي «للعدالة الاجتماعية» التي كانت أيضا أحد أهداف الثورة الستة وأحد نجاحاتها الحقيقية.
ثم كان أن أدرك الشباب الذين خرجوا في 25 يناير 2011 مطالبين «بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية» أن «أوليجاركيا» الاستبداد والفساد والقمع قد أوشكت أن تنهي «واقعيا» كل ما جاءت به يوليو الواعدة تلك. «فالملكية الوراثية»، عادت أو أوشكت وإن تدثرت بعلم الجمهورية. «وسيطرة رأس المال على الحكم» تجاوزت مصاهرات السبعينيات، لتسفر عن وجهها بلا حياء في وزارات مبارك، وانتخابات 2010. «والإقطاع» يعود آلافا من الفدادين يحتكرها / أو ينهبها هذا وذاك من المحظوظين القريبين من دوائر السلطة والنفوذ. «واحتكار» النفوذ، السياسى أو الاقتصادي صار مألوفا تتوارثه النخب الجديدة. «والعدالة الاجتماعية» باتت واقعيا أثرا بعد عين. بعد أن صار كلٌ بقدر ما يملك، لا بقدر ما يعمل أو يتعلم. (هل تذكرون حكاية عبد الحميد شتا؛ الشاب المتفوق الذي انتحر بعد أن رفضوا تعيينه في وظيفة يستحقها لا لشيء إلا لكونه ابن مزارع بسيط).
لم تكن تلك وحدها علامات الانقلاب على كل ما جاءت به يوليو، أو قررت أهدافها الستة، بل امتد أثر الانقلاب لينخر في جذور ثقافة مساواة كانت قد بدأت في التكون. إذ لم يعد «كلنا سيد في ظل الجمهورية» كما كنا نقرأ على جدران مدارسنا الابتدائية في ذلك الزمان البعيد. بعد أن عادت الألقاب ذاتها (الباشا والبك)لا يمنحها ولى النعم هذه المرة، وإنما تمنحها تلقائيا علامات «الرتب» اللامعة على أكتاف البزات الرسمية.
جاءت 25 يناير إذن لتنقذ 23 يوليو التي كانت قد ضاعت واقعيا أو كادت. ولم يكن من قبيل المصادفة أبدا أن تكون جُل أغاني الميدان طوال الثمانية عشر يوما المجيدة تلك هي إعادة انتاج «تلقائي عفوي» لأغنيات يوليو التي نعرف ويحفظها جيلنا: «عاش الجيل الصاعد..»، و«ثوار لآخر مدى»، و«على باب مصر تدق الأكف»… إلى آخر أناشيد الثورة والعنفوان والحلم. كما لم يكن أبدا من باب المصادفة أن تعود الحياة للأغنية الوطنية الحقيقية بعد أن كان قد جف إبداعها لثلاثين أو أربعين عاما، فتذكرنا أنغام وعايدة الأيوبي وحمزة نمرة.. وغيرهم بأم كلثوم وصلاح جاهين وعبدالحليم حافظ.
•••
ككل حركات التحرر الوطني التي عرفها عالمنا العربي في منتصف القرن الماضي (من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر)، عرفت يوليو «الخالصة النقية» طفيليات المزيفين المتسلقين المتزلفين إليها، الذين يعملون واقعيا (وإن تحت شعارات ولافتات جديدة) على إعادة أسس النظام التي كانت قد جاءت أصلا لهدمه وإسقاطه، وشهدنا كيف استثمر هؤلاء (هنا وهناك) غياب الحريات والديموقراطية «الحقيقية» في إعادة إنتاج الباشوات والبكوات والنخب الضيقة الحاكمة، وإن على أسس جديدة، (ببزات عسكرية أو حزبية) بديلة عن «الاسموكنج» والياقات البيضاء. وكانت روح يوليو الشعبية الحقيقية دائما تقاوم. هل تذكرون مظاهرات الطلبة في 1968 وفي السبعينيات؟ وهل تذكرون بيان 30 مارس وأغنيات الشيخ إمام؟ (شيء من ذلك بالمناسبة جرى في كل قطر عربي مر بالتجربة ذاتها).
عرفت يوليو (وأساء إليها) أولئك المتسلقون الملتصقون بكل سلطة، أعيان الثلاثينيات والأربعينيات الذين تناسخوا (أو أنتجوا أشباههم، وإن اختلفت أحيانا الأسماء والألقاب) في تنظيمات السلطة كلها من الاتحاد القومي فالاشتراكي. وحتى الحزب الوطني، ودعم مصر.
•••
يعرف جيلنا؛ الذي تمسك بأحلام يوليو ووقف إلى جانب عبدالناصر بعد هزيمة 1967، لا يضع أمامه هدفا غير «إزالة آثار العدوان» أن أكبر خطايا يوليو (بغض النظر عن سياقات وظروف مفهومة) هي خطيئة الترويج «للحاكم الفرد» وعدم إرساء دعائم ديموقراطية حقيقية، ودولة مؤسسات قوية يحكم فيها الشعب نفسه بنفسه بواسطة حكام مدنيين لا يكونون أسرى لثقافة البيعة، ولا السمع والطاعة، ولا التراتبية العسكرية. يعرف جيلنا ذلك، ويعرفه مثقفوه وفنانوه (اقرأوا نجيب محفوظ وأحمد مطر وشاهدوا يوسف شاهين) بل ولا أظنني مبالغا لو قلت أن عبدالناصر نفسه عرف ذلك حيا عندما وصلته أنباء ما جرى في سيناء (اقرأوا هيكل، وراجعوا خطاب التنحى وبيان 30 مارس 1968) وعرفه ميتا عندما انقلب عليه أسلافه؛ انفتاحا منفلتا «وقططا سمانا» وصلحا غير عادل. فلم يجد في صفوف الجماهير «الغائبة» من يدافع عن ثورته وقراراته وعدالته الاجتماعية وحرصه على استقلال وطني كامل وحلمه في وحدة عربية.
من يعرف من جيل يوليو ذلك (قبل أن تغسل الأدمغةَ الآلةُ الإعلاميةُ الكاذبةُ الماكرة) رأى في جيل يناير امتدادا طبيعيا لأحلامه المجهضة. وأملا واعدا في إنقاذ مبادئ ثورته التي كانت قد نالت من نضارة حيويتها تجاعيد الزمان والمؤامرات «والتجربة والخطأ».
أتذكرون:
«فجأة هز الدنيا صوتكو..
والحياة رجعت بموتكو..
والسنة اتسمت يناير..
شيلتو عن عيننا الستاير..
واحنا ليكم مديونين»
•••
جاءت يوليو لتنقذ مصر من التبعية والاستعمار، ولتنقذ المصريين من العبودية والإذلال.
وجاءت يناير (قبل أن يجهضها المجهِضون) لتنقذ يوليو من أولئك الذين تنكروا لمبادئها في المساواة والعدالة الاجتماعية وإقامة حياة ديموقراطية سليمة. فيناير إذن وباختصار هي الابنة الشرعية ليوليو، والذي ينقلب عليها، بحسن نية، أو بغيرها أو استمراء لثقافة اعتادها لا تعرف حريات أو ديموقراطية و(مهما ارتدى من قمصان أو أقنعة) إنما يتنكر في حقيقة الأمر لمبادئ يوليو التي نعرف، والتي كنا نقرأها صِغَارا على الغلاف الأخير لدفاترنا المدرسية.
جاءت يوليو لتجيء لمصر بالاستقلال وللمصريين بالكرامة، وجاءت يناير (قبل أن يجهضها المجهِضون) لتعيد للمصريين كرامة كانت قد أضاعتها هراوة الأمن الغليظة، وطبقة المنتفعين الجدد، وتوريث الوظائف والمكانات، وغياب الديموقراطية الحقيقية.
في 1952 قال زعيم يوليو: «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد»
وفي 2011 هتف شباب يناير: «ارفع رأسك فوق انت مصري»
وفي الحالتين كان هناك من لم يرغب في أن يرفع المصريون رءوسهم؛ حرية، ومساواة، وديموقراطية يحكم بها الشعب نفسه بنفسه، وعدالة حقيقية للجميع.
كان / ومازال «المُستَعبِدون» يشهرون في وجوهنا قوانينهم الفاسدة وهراواتهم الغليظة.. ولذلك، مازالت «الثورة مستمرة».
•••
أتذكر ما قاله طارق البشري من أن: «ثورة 23 يوليو حققت لمصر مالايمكن إنكاره. ولم يتوافر لمصر على مدى القرن العشرين ما توافر لها من استقلال وطني خلال حكم عبد الناصر» وأستكمل المعنى في عبارة المؤرخ «المنصف» بقراءة كتابه القيم عن «الديموقراطية وثورة يوليو» إصدار مؤسسة الأبحاث العربية 1987 ، والذي يشرح لنا فيه كيف كان الاستقلال الوطني ، والديموقراطية صنوان لنضال المصريين عبر تاريخهم الحديث كله، وكيف كانت مخاصمة الديموقراطية سببا في إخفاقات خَصمت من الاستقلال الوطني، وتعثرت بخطواتنا نحو المستقبل.
وأعود إلى ما كتبه محمد حسنين هيكل من مراجع ضخمة عن يوليو ما تلاها («سقوط نظام»، ورياعية «حرب الثلاثين سنة» إصدار دار الشروق) ثم أسترجع ما قاله في محاضرته الشهيرة في الجامعة الأمريكية (أكتوبر 2002) والتي انتهى فيها إلى ان مصر الآن وليس غدا فى حاجة الى «شرعية تؤسس لزمن، يستحيل قبوله امتدادا متكررا لشرعية الرجل الواحد … وأن المطلوب ليس صورة تتكرر بها الصور على نحو ما … كما أن المطلوب ليس نقلة من رجل إلى رجل وإنما من عصر إلى عصر أى من شرعية تستوجبها الظروف إلى شرعية يتطلبها المستقبل. وبالتالى: من الفرد الى المجموع، ومن الحاكم إلى الدستور ومن الصورة إلى القانون.
تعلمنا دروس يوليو إذن:
أن «الاستقرار» يتحقق بالتواصل مع الزمن، وليس باستدعاء الصور القديمة مهما كانت مفعمة بالحنين والنوستالجيا.
وأن الديموقراطية التي وضعتها ثورة يوليو بين أهدافها التي حفظنا، وبعد ستين عاما مما نعرف (نجاحا وإخفاقا) ليست ترفا لا نقدر عليه (كما يتصور البعض أو يحاول إيهامنا) بل هي ضرورة لا بديل عنها لمستقبل واعد وضعه رجال يوليو هدفا، وخرج شباب يناير يبحثون عنه.
•••
وبعد..
فهذه هي الخلاصة التي يجب علينا أن نجد من الهدوء ما يسمح لنا بأن نستخلصها واضحة وسط صخب الشوفينية وإعلام التزييف والتصفيق واللا منطق:
نجحت 23 يوليو في اختبار التحرر والاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية، وتلطخ ثوبها «الأبيض» بما كان من انتهاكات للحريات والديموقراطية، وجاءت يناير (وجيلها) لتستعيد روح يوليو الحقيقية، ولتزيل بقعا سوداء عن الثوب الأبيض، فهل يصح للمنقلبين على يناير أو على ما نادت به شعاراتها من «.. حرية» أن يتمسحوا بيوليو أو أن يرفعوا صور رموزها؟!
سؤال نعرف جميعا إجابته. ونعرف جميعا أن بعض الحياء ضروري، وأن لعبة «الورقات الثلاث» يمكن لها أن تحظى بتصفيق الجمهور، وأهازيجهم ولكنها لا تأتي أبدا لأبنائهم بالمستقبل.
…..
قبل أن تغيبه عن الشاشة سياسة إعلام الصوت الواحد، كان الصديق الهادئ محمود سعد قد تفضل فاستضافني في برنامجه الناجح، للحديث عن علاقة 25 يناير بالثالث والعشرين من يوليو. وقبل أن أغادر الاستديو ليلتها، قال لي أحد مساعديه: لقد أغضبت الطرفين الليلة. ربما لا أعرف إن كانت ملحوظته في محلها أم لا. لكنني أعرف جيدا أن بعض الغضب قد يدفعنا لأن نفكر مرتين.
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
روابط ذات صلة:
25 يناير: الوطن الذي نريد
أيام البراءة الأولى
وثائقي «الجزيرة» عن عبد لناصر وثورة يوليو
طارق البشري عن يوليو وعبد الناصر
حلقة محمود سعد عن العلاقة بين 23 يوليو و25 يناير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.