ويجدر بنا بعد هذا أن نعرض لظاهرة غريبة شاعت فى الناس، وإن الحق ليتقاضى فيها واجبه من العلماء المسئولين أمام الله وأمام الرسول: تلك الظاهرة هى أنه على الرغم مما قرره العلماء فى شأن المتواتر تحديدا ووجودا. وعلى الرغم من هذا التحفظ الشديد فى الحكم لحديث مما دون فى الكتب بالتواتر نرى بعض المؤلفين قديما وحديثا يسرفون فى وصف الأحاديث بالتواتر، وقد يقتصدون فيخلعون عليها أوصافا أخرى كالشهرة والاستفاضة والذيوع على ألسنة العلماء، وتلقى الأمة إياها بالقبول والثبوت فى كتب التفسير وشرح الحديث، أو فى كتب التاريخ والمناقب.. إلخ. وقد يشتط أناس فى سلوك هذه السبيل، فنراهم يتتبعون مع هذا أسماء الصحابة والتابعين والأئمة والمؤلفين الذين جرى ذكرهم على ألسنة النقلة فى رواية الحديث، وهم يعلمون أنها روايات ضعيفة لا تصبر على النقد، وأن هذه الأسماء التى يحرصون على جمعها توجد فى كل حديث حتى فى الأحاديث الموضوعة، ولكنهم مع ذلك يجمعونها ويجتهدون فى عدها وإحصائها وذكر الكتب التى اشتملت عليها لأنهم يريدون أن يخطفوا أبصار العامة، ويستغلون عاطفتهم الدينية. ويزعموا لهم أن هذا الحديث أو تلك الأحاديث قد وردت عن نبيكم فى هذه الكتب الكثيرة، وعلى لسان هذا الجم الغفير من الرواة بين صحابة وتابعين، فهى متواترة لاشك فى تواترها، وهى متصلة بالرسول لاشك فى اتصالها، ومن حاول الطعن فيها، أو الحط من درجتها، فقد ضل ضلالا بعيدا، وحدا عن سبيل المؤمنين! ولهذه الظاهرة أسباب: منها، وقد يكون أقلها خطرا، اشتهار الحديث فى طبقة أو طبقتين فتحسب الشهرة على جميع طبقاته، ويحكم عليه حكم عام بالتواتر أو الشهرة من غير تحقيق ولا تمحيص؛ وقد لا يصل الحديث إلى حد الشهرة فى طبقة ما، ولكنه جاء فى «الخلافيات» فقهية أو كلامية فتعصب له أتباع المذاهب وخلعوا عليه وصف الشهرة أو التواتر تأييدا لمذهبهم، وتناقلته الكتب، موصوفا بذلك منسوبا إلى جمع من رجال الرأى والمذهب فيخاله الناس مشهورا أو متواترا وهو ليس بمتواتر ولا مشهور! وقد كان للقائمين «بالترغيب والترهيب» ونقل الملاحم والفتن وغرائب الأخبار التى تمثل النفوس إلى التحدث بها والاستماع إليها، أثر عظيم فى خلع أوصاف الشهرة والتواتر على أنواع خاصة من الأحاديث التى ليست بمشهورة ولا متواترة، بل ربما كانت غير صحيحة. وقد تأثرت بذلك طبقة من الخاصة لم تعن بتحقيق الرواية، ولا بمعرفة درجة الحديث، واكتفت بنقل ما يقوله هؤلاء وإجرائه على ألسنتهم وفى كتبهم حتى شاع واشتهر. وإنما استباحوا ذلك معتمدين على ما قرره بعض علماء المصطلح من «جواز التساهل فى الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله تعالى وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما. وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب مما لا يعلق له بالأحكام والعقائد». وبذلك رووا الأحاديث الضعيفة بل الموضوعة، ثم توسعوا فوصفوا الآحاد بالتواتر، والضعيف بالصحيح، وتناسوا مقاييس التواتر والآحادية، ومقاييس الصحة والضعف. ومن هنا، رأينا من يصف «المعجزات الحسية» كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وكلام الغزالة وحنين الجذع، بالتواتر، مع أنها غير متواترة، وإنما هى آحادية كما قرره علماء الأصول. وكذلك رأينا من يصف أخبار المهدى والدجال ويأجوج ومأجوج، وما إلى ذلك مما يذكر باسم «أشراط الساعة»، بالشهرة أو التواتر. بقى بعد هذا أمر لابد من تقريره: وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذى لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعية الدلالة، فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ولم يجدوا مانعا من تأويلها.