يبدوا أننا فى حاجة للمرة الثالثة لإيضاح أننا إنما نعرض وقائع قضية د. نصر حامد أبو زيد وقول القضاء فيها ،ولاشأن لنا بتكفيره بناء على آراءه التى عقبت عليها المحكمة ، وليست لنا معه خصومة شخصية وليست لنا به أى علاقة أو معرفة من أى نوع ،وهو إن كان قد أفضى إلى ما قدم فإن مدرسته الفكرية باقية وهى محل الدراسة التحليلية لحكم المحكمة التى نقدمها فى هذه المقالات . فقد بينا فى مقالين سابقين أن محكمة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية قد حكمت بردة د. أبو زيد عن الإسلام و بتطليق زوجته الدكتورة ابتهال يونس بناء على ذلك ،وطعن هو وزوجته على هذا الحكم أمام محكمة النقض . ،وذكرنا فى مقال الأسبوع الماضى بعض الأسباب التى أستند إليها د.أبوزيد وزوجته فى طعنهما على هذا الحكم أمام محكمة النقض ،ونستكمل فى مقال اليوم باقى أسباب الطعن ورد محكمة النقض عليها، وحكم المحكمة فى هذا الشأن. قالت محكمة النقض فى حكمها أن ما دفع به الطاعنان( د.أبوزيد وزوجته (بجلسة المرافعة ، و زعماه من عدم العمل بحديث الآحاد ، فهو مردود ، ذلك بأنه بالإضافة إلى الحديث المتواتر وهو الذى رواه جماعة فى جميع مراحل الرواية من مبدأ تلقى الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وصوله إلينا يمتنع توافقهم على الكذب، فهناك الحديث المشهور أو المستفيض ، وهو ما كان آحادياً فى الأصل ثم تواتر بعد ذلك بأن يرويه عدد يتحقق به التواتر فى عصر التابعين أو تابعيهم وقد اعتبر جمهور الفقهاء، هذا النوع من أحاديث الآحاد وهو عند الحنفية يفيد ظناً قربياً من اليقين ويجب العمل به ، وهذا القسم من السنة كثير ، أما خبر الآحاد فهو ما ليس بمتواتر ولا مشهور سواء رواه واحد أو أكثر ، وجمهور الفقهاء على وجوب العمل به ويحصل به العلم إذا اقترنت به قرائن ينتفى معها إحتمال كذب الراوى ، واشترط الفقهاء فى راويه العقل والبلوغ حين الأداء والإسلام والضبط والعدالة ، وكان الصحابة رضوان الله عليهم لا يأخذون بخبر الواحد إلا إذا شهد اثنان أنهما سمعاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستحلفون الراوى أنه سمعه منه بشرط ألا يعارض الحديث ما هو أقوى منه والإستيثاق من أنه لا ناسخ له واشترط الحنفية ألا يعمل الراوى بخلاف ما روى وألا يكون الحديث مخالفاً للقياس والقواعد المقررة إذا كان الراوى غير فقيه ، ومن هذا يتبين أن حديث الآحاد له ضوابط ومعايير واضحة المعالم ، وذلك على التفصيل الوارد بعلم مصطلح الحديث ، والقول بعدم العمل به يعد إهداراً لمعظم السنة النبوية لأنه قلما توجد سنة قولية متواترة بينما السنة الفعلية المتواترة كثيرة ومنها كيفية أداء الصلوات والحج وغير ذلك ، وقد وردت فى كتب الحديث الصحيحة أحاديث نبوية فى شأن الردة رواها بعض الصحابة منهم ابن عباس وابن مسعود وجابر ومعاذ بن جبل وابو موسى وغيرهم وهم ثقاة لا يتصور تواطؤهم على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلت هذه الأحاديث عنهم وحقق صحتها علماء الحديث ، كما أنه ولئن كان الأصل أن الاعتقاد الدينى من الأمور التى تبنى الأحكام فيها على الإقرار بظاهر اللسان ،ولا يجوز البحث فى جديتها ولا دواعيها أو بواعثها ، والنطق بالشهادتين كاف لاعتبار الشخص مسلماً ،إلا أن الإسلام كل لا يتجزأ ولا يصح الإيمان ببعضه والكفر ببعضه الآخر ، فإذا صدر عمن نطق بالشهادتين قول أو فعل يخرجه عن الملة على نحو ما سلف ، فإنه يكون مرتداً لإظهاره الكفر بعد الإيمان وإن ادعى بأنه مسلم ، ومما يدل على ذلك أن أبا بكر الصديق جمع الصحابة ليشاورهم فى أمر قتال مانعى الزكاة ، فقال له عمر رضى الله عنه كيف تقاتل قوماً نطقوا بالشهادتين ؟ فقال له أبو بكر رضى الله عنه : " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه "،وقد أقر الصحابة رضوان الله عليهم أبا بكر فى ذلك ، فلا عبرة بالنطق بالشهادتين ما لم يراع الناطق بهما ما لهما من حق وما يترتب عليهما من أثر إيمانى عقدى ، فالإيمان ما وقر فى القلب وصدقه العمل ، لقول أبى بكر فى السياق المتقدم " إلا بحقها " ، ويؤكد ذلك قول الله تعالى " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فليس هناك دليل أكبر من شهادة الله تعالى بكذب المنافقين وكفرهم ، مع أنهم شهدوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم رسول الله بما يتضمن شهادة بوجود الله الذى أرسله مما مفاده نطقهم للشهادتين ، وكفى بالله شهيداً ، وأحكام الردة لا تتنافى مع حرية العقيدة التى كلفها الإسلام ، فليس لا حد أن يحمل إنساناً على ترك عقيدته أو اعتناق غيرها ، لقوله تعالى " لا إكراه فى الدين " وقوله تعالى " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ، ولا تطبق أحكام الردة إلا على المسلم الذى ارتد عن الإسلام ولا تنطبق على غير المسلمين بل يدعوهم الإسلام إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن لم يدخلوا فيه عن طواعية واختيار تركهم وما يدينون به مستظلين بحمايته فى تسامح يحفظ لهم حريتهم وكرامتهم وأموالهم وأعراضهم ودمائهم ، ودخول الشخص فى الإسلام مفاده التزامه بأحكامه ومنها أحكام الردة إذ لا يمكن فصل المعتقد عن آثاره المحسوسة فى السلوك ، والدولة عقيدتها الإسلام ، وهذا ما ينص عليه الدستور فى المادة الثانية منه من أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع ، وكل النظم الوضعية تقرر عقوبات وتدابير إزاء الأفعال التى تتعارض مع أسس قيامها ، وارتداد المسلم عن الإسلام ليس أمراً فردياً –يمكن أن تتسامح فيه شريعة الإسلام ودولته كحق من حقوق الأفراد لاسيما إذا كان هذا بالدعوة علناً بالنشر أو التدريس إذ أن الخروج عن الإسلام ثورة عليه ولابد أن ينعكس ذلك على ولاء الفرد للشريعة والدولة وعلى روابطه مع المجتمع ، وهذا ما لا يتسامح فيه قانون أو دولة ، ولذلك تبيح الشريعة وسائر الدساتير والقوانين حرية الرأى بالضوابط التى تمنع من العدوان وإساءة استعمال الحق ، فليس من حق أى فرد أن يدعو إلى ما يخالف النظام العام أو الآداب أو يستخدم الرأي وسيلة للنيل من الأسس التى يقوم عليها المجتمع أو امتهان المقدسات أو السخرية من الإسلام أو أى دين سماوى ، ذلك بأن الدستور يكفل فى المادة 47 منه حرية الرأى فى حدود القانون ، فحرية الرأى تكون وفقاً للضوابط والحدود التى يسمح بها النظام الأساسى للدولة والقواعد التى يقوم عليها هذا النظام وفى صدارتها أحكام الشريعة الإسلامية ، ولو أنه احتفظ باعتقاده فى سريرة نفسه دون الإعلان عنه تلقيناً لطلبته وطبعه ونشره ، فأن الشريعة لا تفتش فى مكنون النفس ولا تشق قلوب الناس ولا تنقب فى سرائرهم ، لأن ذلك متروك لله وحده ، إلا أن الجهر بالسوء من القول طعناً فى عقيدة المجتمع والدعوة إلى ازدرائها يتصادم مع النظام العام وهو ما لا يقره أى تشريع أو النظام ، ولا تعدو أحكام الردة أن تكون معياراً لاستمرار بقاء المسلم على إسلامه يميزه عن غيره فيتعامل معه المجتمع المسلم على أساس هذه الصفة كعضو فيه ، وذلك ما يحدث فى الشرائع الدينية الأخرى بالنسبة لأتباعها إذ تشرط استمرار ولائهم لها ، فإذا انضم إليها الفرد التزم بأنظمتها ، ولها أن تخرجه منها أو تعزله عنها إذا خرج على مبادئها الأساسية التى أنضم إليها وفقاً لها ما يترتب على ذلك من أثار ، وتستلزم بعض الشرائع لصحة الزواج إتحاد الزوجين فى الدين أو المذهب أو الطائفة أو تعميدهما وفقاً لطقوسها ، وتعتبر اختلاف الدين مبطلاً للزواج مانعاً لانعقاده وتوجب الفسخ أو التطليق فى حال اعتناق أحد الزوجين لدين آخر ، وهذا لا يتنافى مع حرية العقيدة أو حرية الراى ، وهو نفس الأمر بالنسبة للتفريق بسبب الردة ،هذا فضلاً عن أنه رغم ما أبداه دفاع (د. أبوزيد) من أنه لازال متمسكاً بدينه ، فإنه لم يتبرأ من كتبه التى ثبتت ردته بما ورد فيها ، وما يثره بشأن استتابته فهو غير مقبول ، ذلك بأن من المقرر فى مذهب الإمام أبى حنفية أن المرتد لا ملة له ولا يقر على ردته ولا على ما اختاره ديناً له ، واستتابته مستحبة على الراجح فى هذا المذهب فيعرض عليه الإسلام فإن كان له شبهة كشفت له، إلا أن هذا العرض غير واجب ، بل مستحب ،لأن الدعوة قد بلغته ، وإذا أبى الإسلام نظر القاضى فى أمره فإن طمع فى توبته أو طلب هو الإمهال أمهله ثلاثة أيام باعتبارها مدة تضرب لإيلاء الأعذار ، وذلك قبل أن يقام عليه حد الردة ، وردة الرجل فرقه بغير طلاق "فسخ" فى قول أبى حنيفة وأبى يوسف وعند محمد فرقة بطلاق ، وهى بإجماع تحصل بنفس الردة وتثبت فى الحال وتقع بغير قضاء القاضى ، فإذا تاب المرتد من الزوجين وعاد إلى الإسلام فإنه لا بد من عقد ومهر جديدين لاستئناف الحياة الزوجية بينهما ، لما كان ذلك ، وكانت الفرقة تتم بين الزوجين بالردة على الفور ، وأثر الاستتابة –سواء كانت مستحبة على الراجح فى المذهب الحنفى أو واجبة فى بعض المذاهب الأخرى- يتعلق بتأخير تطبيق الحد لا فى حصول الفرقة بين المرتد وزوجه ، وإذ التزم المطعون فيه هذا النظر بقضائه بالتفريق بين الطاعن الأول وزوجه بعد أنتهى إلى ثبوت ردته ، دون استتابته باعتبار أن الاستتابة لا تؤثر فى القضاء بالتفريق ، فإنه يكون قد انتهى إلى قضاء سليم ، لما كان ذلك ، فإن النعى فى هذا الصدد يكون غير منتج ، ومن ثم غير مقبول ، ويكون النعى برمته على غير أساس 0 وكانت النيابة العامة قد أقامت الطعن رقم 478 لسنة 65ق أحوال شخصية على حكم محكمة الاستئناف وأسسته على سببين تنعى بهما على الحكم المطعون فيه الخطأ فى تطبيق الشريعة الإسلامية والفساد فى الاستدلال ، وفى بيان ذلك تقول : إن نطق الشخص بالشهادتين كاف شرعاً لاعتباره مسلماً وأن المسلم لا يعتبر مرتداً إلا إذا انشرح صدره بالكفر وأتى من الأقوال والأفعال ما يعد كفراً بما لا احتمال معه لتأويل ، وما يحتمل الكفر والإيمان يحمل على الإيمان فقد يكون الرجوع عن الإسلام مرده شكوك أو شبهات تساور النفس فيجب الإمهال لإزالة تلك الشكوك والشبهات ، وما جاء بمؤلفات المطعون ضده الأول يمكن حمله على الإيمان فقد فرق بين الدين والفكر الدينى وأورد أقوال الفقهاء فى تقسيم مرويات السنة ولم يقر الربا بما لا يصح معه القضاء بردته ، وإذ قضى الحكم المطعون فيه بتكفيره ولم ينزل ما قد يكون عرض له من شبهة وهو ما يستوجب نقضه . وقد ردت محكمة النقض بأن هذا النعى من جانب النيابة العامة مردود ، بما سلف بيانه ، من أن المطعون ضده الأول(د.أبوزيد) قد أفصح بمؤلفاته عما يعد من الكفر الصريح وأن استتابه المرتد مستحبة وغير واجبه على الراجح فى المذهب الحنفى وأن أثر هذه الاستتابة يتعلق بتوقيع حد الردة ولا يؤثر فى القضاء بالفرقة التى تقع على الفور بمجرد الردة بين المرتد وزوجه ، وأن الحكم المطعون فيه قد انتهى إلى قضاء صحيح ، ومن ثم فإن النعى يكون على غير أساس]ولما تقدم يتعين رفض الطعون الثلاثة خلاصة : بناء على ما تقدم فقد حكمت محكمة النقض بتأييد حكم محكمة استئناف القاهرة للأحوال الشخصية فيما قضى به من اعتبار د.نصر حامد أبوزيد مرتدا عن الإسلام و تطليق زوجته منه . وختاما : إحذروا الزنادقة الذين وصفتهم محكمة النقض بأنهم : " الزنادقة الذين يموهون بكفرهم ويروجون لعقيدتهم الفاسدة ويبطنون الكفر ويدّعون الإسلام." أنتم الآن تعلمونهم من أقوالهم وأفعالهم المناهضة للشرع والتى أوضحتها أعلى جهات القضاء فى مصر . "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ".آل عمران( 132) "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" آل عمران (139) صدق الله العظيم [email protected] www.adelafify.com