إثر انهزام جيش رودريكو أمام طارق ابن زياد فى موقعة وادى لكة هرب أحد قواده ويدعى بيلايو إلى أقصى الشمال الغربى للأندلس ولحق به بعض القواد ورجال الدين الكاثوليك فاحتموا فى مغارة «كافادونجا»، التى سميت منذئذ «صخرة بيلايو»، وكانوا قليلى العدد فلم يهتم المسلمون بأمرهم، إلا أن هذه المغارة شكلت بؤرة صليبية ظلت تؤرق دولة الأندلس الإسلامية قرونا عديدة إذ تطورت حتى أصبحت دويلة تقبع فى شمال الأندلس سميت بمملكة أشتوريش، التى أصبحت ليون ثم توسعت مستغلة مراحل ضعف المسلمين وانقساماتهم فضمت الأراضى المتاخمة لها حتى أصبحت بنهاية دولة الأمويين فى الأندلس وبسبب ضعف الحكومات، وتوالى الثورات والانقسامات الطائفية دولة شمالية لها قوتها وسيطرتها بعدما تمكن فرناندو الأول من ضم مملكة ليون إلى قشتالة وهى التحريف العربى لكلمة Castillo أى القلعة بالإسبانية لتصبح دولة قوية فى الشمال «دولة قشتالة»، التى ستبرز إلى مسرح الأحداث مع انقسام الأندلس إلى دويلات. فمع نهايات عام 422 ه الموافق 1031 وإثر قيام الوزير أبوالحزم ابن جهور بإخماد ثورة البربر فى قرطبة ثم اندلاع ثورة المولدين ضد الحكم الأموى، أعلن ابن جهور إنهاء الخلافة الأموية فى الأندلس لعدم وجود من يصلح للولاية وتأسيس ماأطلق عليه «حكومة الجماعة»، وهو نموذج مبكر لنظام حكم الأقلية الأرستقراطية، الذى استلهمته مدن إيطاليا فيما بعد إبان عصر النهضة الأوروبية، وكان ذلك الإعلان إيذانا ببدء ما سُمى فى التاريخ الأندلسى بعصر «دويلات الطوائف» إذ تمزقت الدولة الإسلامية الموحدة إلى مجموعة من الدويلات الصغيرة بلغت اثنتين وعشرين دويلة كغرناطة وسرقسطة وأشبيلية وألمرية وطليطلة وغيرها من الدويلات، التى قامت على أساس عرقى فهذه للعرب وتلك للبربر وأخرى للمولدين من أصل إسبانى وهكذا، ولكل دويلة جيش مستقل وحاكم تسمى بلقب خلافى لا يتناسب مع حجم مملكته ولامع قوتها. حيث أدى التقسيم والتشرذم ثم التصارع على مناطق النفوذ إلى النتيجة المتوقعة من ضعف وتهافت إزاء القوة المتصاعدة لمملكة قشتالة الموحدة فى الشمال، والتى ظلت تترقب لحظة الضعف التى جاءتها مكللة بعار وهوان حتى أضحت مثالا تاريخيا مواتيا لمن يروم الاستدلال بمذلة قوم وصاغها الأدباء شعرا ونثرا، ومن ذلك ماقاله الحسن ابن رشيق: مما يزهدنى فى أرض أندلس سماع مُقتدرٍ فيها ومعتضدِ ألقاب مملكة فى غير موضعها كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد وقد وصل التدنى بهؤلاء الحكام إلى حد الاستعانة بملوك قشتالة فى حروبهم ضد بعضهم البعض مما مهد لتدخل العدو وتعرفه على نقاط ضعف المسلمين ثم إملاء شروطه على من يطلب نصرته، وهى الشروط التى تراوحت بين دفع إتاوة مالية والتنازل عن بعض الحصون والقلاع الإسلامية والامتناع عن التدخل إذا مانشب قتال بين القشتاليين وإحدى الدويلات الإسلامية الأخرى، وصيغ هذا كله فى معاهدات مخزية لم يلتزم ببنودها كالعادة سوى المسلمين. وعلى الجانب الآخر، ظلت الكنيسة الكاثوليكية ترقب الأمر لسنوات حتى اطمأنت إلى تهافت ملوك الطوائف وتصارعهم على المكتسبات المادية ومناطق النفوذ ثم سيطرة ملوك قشتالة عليهم نتيجة معاهدات الذل التى وقعوها معهم، وفى الظلام الدامس حيكت خيوط أكبر أكاذيب التاريخ، والتى لا يدانيها فى الزور والبهتان غير أكذوبة الحق التاريخى لليهود فى فلسطين، وما أشبه الليلة بالبارحة، وهى أكذوبة لاريكونكيستا LA RECONQUISTA أو الاسترداد، إذ أعلن البابا اسكندر الثانى حرب الصليب المقدسة ضد مسلمى الأندلس وأصدر مرسوما بالغفران لكل مسيحى يشارك فى القتال وهكذا تقاطر الفرسان المقاتلون من وراء جبال البيرنيه منضمين إلى القشتاليين بقيادة ألفونسو السادس تدفعهم صيحات الفاتيكان المؤلبة وقدرته الفائقة على تزييف التاريخ والادعاء بأن المسلمين سلبوا الأندلس من حوزة الفاتيكان رغما عن كون أكثر أهل الأندلس فى ذلك الوقت هم أحفاد القوط الذين دخلوا فى دين الله مع الفتح الإسلامى بعدما عانوا طويلا من الاضطهاد الدينى لاختلاف مذهبهم عن مذهب الكنيسة كما بينا سابقا. وهكذا تنازع مسلمو الأندلس ففشلوا وذهبت ريحهم فى حين تجمع الفرسان المقاتلون تحت راية الصليب، وفى يوم أسود حالك السواد: يوم الأحد 25 مايو 1085 ميلادية الموافق الأول من شهر صفر عام 478 هجرية وقعت الواقعة، التى ارتجت لها جنبات العالم الإسلامى شرقه وغربه، والتى ما زالت تمثل حتى اليوم جرحا نازفا فى قلب كل مسلم وترنيمة شجن حزينة تحدو مسيرة قافلة الإيمان عبر الزمن لتذكّر أصحابها بجزاء الجنوح بعيدا عن المنهج الربانى القويم، فى ذلك اليوم الأسود الحزين سقطت طليطلة حاضرة الدنيا ودرة الأفئدة وعاصمة الأندلس البهية بعد حصار دام مايقرب من عام كامل استصرخت فيه مروءة حكام الطوائف الجبناء فلم يهب أحد لنجدتها وظلوا قابعين داخل جحورهم يتوددون إلى ألفونسو السادس ويدفعون له الجزية عن يد وهم صاغرون بينما يعصفون بكل معارض ويملأون الزنازين بخيرة العلماء، الذين أخلصوا لهم النصح وحرضوهم على مد يد العون لطليطلة الذبيحة، ولكن هيهات أن تُسمع من أخلد إلى الأرض وارتضى المذلة. وهكذا ظلت طليطلة تحت الحصار تستنجد بلا طائل حتى هوت فى يوم أسود ودخلها ألفونسو بخيله ورجله فأعمل فى أهلها القتل والتشريد وحول مسجدها الجامع إلى كنيسة، ولما اطمأن إلى أنه استلب الدولة من وسطها وليس من أطرافها وأنه بات قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على كامل الأندلس أسرع بخرق معاهدات الدفاع المشترك، التى أبرمها مع ملوك الطوائف ووضع خطة للانتقال من طليطلة إلى مايجاورها من دويلات، وهكذا انقلب السحر على الساحر وباتت الدول، التى جبنت عن مد يد العون لطليطلة متعللة باحترام بنود معاهدات العار، التى أبرمتها مع قشتالة ومتوهمة أنها فى مأمن من غدر العدو، باتت هذه الدول الهدف التالى الوشيك لفرسان أكذوبة الاسترداد وهاقد حان وقت الحساب واشرأبت أعناق الشعوب تترقب صنيع قادتها، أتراهم بقى لهم صنيع؟