وزير خارجية إيران يدين تصريحات ترامب تجاه خامنئي ويصفها بالمهينة    فلسطين.. شهيدان و12 إصابة إثر قصف الاحتلال مدرسة شمال غربي مدينة غزة    استشهاد 11 فلسطينيا في قصف للاحتلال استهدف خيم النازحين بحى الرمال غربى غزة    موعد مباراة بالميراس ضد بوتافوجو والقنوات الناقلة مباشر في كأس العالم للأندية    «عنده ميزة واحدة».. أول رد من الزمالك بشأن مفاوضات محمد شريف    رافينيا يتحدث عن مفاوضات برشلونة مع نيكو ويليامز    حبس سائق السيارة 4 أيام وعمل تحليل مخدرات له    «كانت بتجمع عنب».. حزن في جامعة المنوفية لوفاة طالبة كلية الهندسة ب حادث الطريق الإقليمي    مصرع 3 من أسرة واحدة في انقلاب سيارة أعلى كوبري قويسنا ب المنوفية    شيماء ضحية حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية.. حكاية حلم لم يكتمل وفتاة اختارت الكرامة على الراحة    رسميًا.. موعد صيام يوم عاشوراء 2025 وأفضل الأدعية المستحبة لمحو ذنوب عام كامل    دون فلتر.. طريقة تنقية مياه الشرب داخل المنزل    ستوري نجوم كرة القدم.. مناسبة لإمام عاشور.. تهنئة شيكابالا لعضو إدارة الزمالك.. رسائل لعبدالشافي    «ملوش علاقة بأداء الأهلي في كأس العالم للأندية».. إكرامي يكشف مفاجأة عن ريبيرو    استمرار تدريبات خطة النشاط الصيفي بمراكز الشباب في سيناء    شيخ الأزهر ينعي فتيات «كفر السنابسة» ضحايا حادث الطريق الإقليمي    واشنطن تؤكد لمجلس الأمن: استهدفنا قدرات إيران النووية دفاعًا عن النفس    انتداب المعمل الجنائى لفحص حريق بمول شهير في العبور    قانون العمل الجديد يصدر تنظيمات صارمة لأجهزة السلامة والصحة المهنية    حزب الجبهة الوطنية يعلن تشكيل أمانة البيئة والتنمية المستدامة    أحمد كريمة ينفعل بسبب روبوت يقوم بالحمل ورعاية الطفل خلال ال9 أشهر| فيديو    ماذا نقول عند قول المؤذن في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم»؟.. أمين الفتوى يجيب    عمرها 16 عاماً ووالديها منفصلين.. إحباط زواج قاصر في قنا    جامعة الازهر تشارك في المؤتمر الطبي الأفريقي Africa Health ExCon 2025    البحيرة تستعد للاحتفال باليوم العالمي للتبرع بالدم    أسعار الذهب اليوم وعيار 21 الآن عقب آخر تراجع ببداية تعاملات السبت 28 يونيو 2025    فصل الكهرباء عن قرية العلامية بكفر الشيخ وتوابعها اليوم لصيانة المُغذى    تريلات وقلابات الموت.. لماذا ندفع ثمن جشع سماسرة النقل الثقيل؟!    «الزراعة»: ملتزمون بالتعاون مع إفريقيا وأوروبا لبناء سلاسل أكثر كفاءة    عبداللطيف: الزمالك يحتاج إلى التدعيم في هذه المراكز    عمرو أديب: الهلال السعودي شرَّف العرب بمونديال الأندية حقا وصدقا    نجم الزمالك السابق: الأهلي يرفع سقف طموحات الأندية المصرية    مصر تفوز بعضوية مجلس الإدارة ولجنة إدارة المواصفات بالمنظمة الأفريقية للتقييس ARSO    أمانة التجارة والصناعة ب«الجبهة الوطنية» تبحث خططًا لدعم الصناعة الوطنية وتعزيز التصدير    طفرة فى منظومة التعليم العالى خلال 11 عامًا    مدارس البترول 2025 بعد الإعدادية.. المصروفات والشروط والأوراق المطلوبة    التعليم تكشف تفاصيل جديدة بشأن امتحان الفيزياء بالثانوية العامة    مقتل شاب على يد ابن عمه بسبب الميراث    حزب الجبهة يقدّم 100 ألف جنيه لأسرة كل متوفى و50 ألفا لكل مصاب بحادث المنوفية    استمرار الأجواء الحارة والرطبة.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم والشبورة صباحًا    بعنوان "الحكمة تنادي".. تنظيم لقاء للمرأة في التعليم اللاهوتي 8 يوليو المقبل    عماد الدين حسين: إيران وحدها من تملك الحقيقة الكاملة بشأن ضرب المنشآت النووية    عمرو أديب عن حادث المنوفية: «فقدوا أرواحهم بسبب 130 جنيه يا جدعان» (فيديو)    ستجد نفسك في قلب الأحداث.. توقعات برج الجدي اليوم 28 يونيو    الصحف المصرية: قانون الإيجار القديم يصل إلى محطته الأخيرة أمام «النواب»    لحظة إيثار النفس    «زي النهارده».. وفاة الشاعر محمد عفيفي مطر 28 يونيو 2010    قصة صراع بين الحرية والقيود| ريشة في مهب التغيير.. الفن التشكيلي بإيران بين زمنين    أمانة الحماية الاجتماعية ب«الجبهة الوطنية»: خطة شاملة بأفكار لتعزيز العدالة الاجتماعية والتمكين الاقتصادي    حسام الغمري: «الاختيار» حطم صورة الإخوان أمام العالم (فيديو)    الأردن يعزي مصر في ضحايا حادث الطريق الإقليمي    لماذا صامه النبي؟.. تعرف على قصة يوم عاشوراء    أمطار غزيرة تضرب باكستان وتتسبب في سقوط ضحايا ومفقودين    ترامب: من الممكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار بغزة خلال أسبوع    أسعار الفراخ البيضاء والبلدى وكرتونة البيض في الأسواق اليوم السبت 28 يونيو 2025    فنانة شهيرة تصاب ب انقطاع في شبكية العين.. أعراض وأسباب مرض قد ينتهي ب العمى    اعرف فوائد الكركم وطرق إضافتة إلي الطعام    تعرف على موعد وفضل صيام يوم عاشوراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التوظيف السياسي للأدب الكلاسيكي في روسيا
نشر في شموس يوم 19 - 11 - 2017

لعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ، إن الأدب الكلاسيكي الروسي ، هو الإسهام الروسي الحقيقي في تطور الثقافة العالمية . فهو يحتوي على عدد كبير من الروائع الأدبية ، التي لا زالت تحتل مكانة مرموقة في الأدب العالمي . وهذه حقيقة يعترف بها كل متذوق للأدب الرفيع ، أتيح له الدخول الى العالم الساحر لعمالقة الأدب الروسي ، عالم العواطف الجياشة والمصائر التراجيدية ، الزاخر بالقيم الإنسانية ، والأخلاقية ، والروحية المشتركة بين البشر ، بصرف النظر عن العرق والدين والثقافة ، لذا فهي مفهومة وممتعة لجميع محبي الأدب الحقيقي في العالم حتى يومنا هذا .
عندما اطلع القاريء الغربي على الأدب الروسي الكلاسيكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وقع في عشق هذا الأدب. ولم يمض وقت طويل حتى شرع نقاد الأدب في أوربا ومن ثم في أميركا ، يتناولونه بالبحث والدراسة، وأخذ عدد كبير من الكتاب الغربيين يتعلمون منه تقنيات الكتابة .
كان القرن الماضي ، قرن الأدب الروسي الكلاسيكي في الرواية ،والقصة ،والمسرح ، والسينما. قرن تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ، ولم يستطع أي أدب قومي ، او وطني في ابعد زاوية من عالمنا الفسيح ، أن يتجنب تأثير هذا الأدب الملهم ، الذي ترجمت روائعه الى أكثر من (170) لغة من لغات العالم مرات عديدة ، وصدرت في طبعات متلاحقة ، وحولت الى افلام سينمائية ناجحة في هوليود وفي بقية انحاء العالم. ويكفي ان نقول ان السينما العالمية أنتجت ( 234 ) فيلماً ، مستوحاة من قصص ومسرحيات أنطون تشيخوف، منذ ظهور السبنما الصامتة وحتى اليوم .
الأدب الكلاسيكي الروسي ، هو أدب " الموضوعات الأزلية " ، فقد حاول الكتّاب الروس الإجابة عن أسئلة الوجود الأساسية : معنى الحياة ، وطبيعة الإنسان ، والخير والشر ، ووجود الخالق . وحاول كل منهم الأجابة عن تلك الأسئلة بطريقته الخاصة ، وتجسيد البطل النموذجي لزمانه .
لن نستطيع أن نفهم روسيا ، وكيف وبماذا يفكر الروس ، من دون أن نقرأ لهؤلاء ولغيرهم من كبار الكتّاب الروس . حقاً لقد تغيّرالواقع السياسي ، والأقتصادي ، والأجتماعي ، والثقافي في روسيا كثيراً منذ ذلك الحين ، نتيجة للأحداث العاصفة ،التي شهدتها خلال تأريخها الحديث ، ولكن ( الروح الروسية ) بقيت تقريباً كما كانت في العصر الذهبي للأدب الروسي في القرن التاسع عشر .لأن تغيير الأنسان أصعب من تغيير الواقع المادي .
الإنسان – أي إنسان – لا يتغير ، الا ببطأ شديد . فقد أخفق البلاشفة في خلق انسان سوفيتي وفق مقاييسهم القيمية طوال (73) عاما من التلقين الأيديولوجي . ولن نفهم روسيا اليوم ، ولا الروح الروسية ، الا بالرجوع الى الأدب الروسي الكلاسيكي ، وهذا صحيح الى حد كبير بالنسبة الى بقية شعوب العالم ، فالأدب الحقيقي يعكس العالم الروحي لأي شعب وثقافته .
كان الأدب الروسي هو المعبر الحقيقي عن الواقع الروسي ، وعن تطلعات الجماهير وطموحاتهم وآمالهم . وعن أفكار العصر التقدمية ، ولعب دوراً اساسياً في تشكيل وعي جمعي يناهض الظلم ، ويسعى الى الحرية والعدالة الإجتماعية . وهو الذي هيأ المناخ العام للثورتين الروسيتين في شباط ، واكتوبر 1917) . ولعل ابلغ دليل على ذلك هو أن زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين ، كتب قبل ثورة اكتوبر أربع مقالات عن أدب وآراء ليف تولستوي ، ودوره المؤثر في الأدب الروسي والعالمي ، وفي تنوير وإستنهاض المجتمع الروسي ، وبضمنها مقاله الشهير تحت عنوان " تولستوي كمرآة للثورة الروسية ". وكثيرا ما كان لينين يهاجم خصومه عن طريق مقارنتهم بشخصيات غير محبوبة وأحيانا هامشية استمدها من الأدب الروسي .
كان الكتّاب الروس دوما معلمي الشعب ، و" مهندسي الروح البشرية ". وكانت أعمالهم الأدبية بمثابة غذاء فكري وروحي للنخب الثقافية . ولما كانت المعارضة السياسية ، وكل وسائل التعبيرعن الرأي ، تقمع بشدة في ظل الأنظمة الروسية المتعاقبة ، فإن الأدب أصبح المتنفس الوحيد للمثقفين. ولعل هذا الدور العظيم الذي نهض به الأدب الروسي هو الذي دفع تلك الأنظمة الى توظيف الأدب كسلاح سياسي لخدمة مصالحها وأهدافها .
كان القياصرة الروس وحكام الكرملين قراءاً نهمين للأعمال الأدبية – ليس لأنهم كانوا من هواة القراءة – بل من اجل فرز الأعمال ( المضرة ) بالنظام القائم – من وجهة نظرهم – عن تلك التي يمكن توظيفه لترسيخ وتعزيز هيمنتهم على السلطة . وحاولوا تحويل الادب الى اداة سياسية قوية ، وسنرى في الفقرات اللاحقة كيف جرى التوظيف السياسي لأهم الأعمال الأدبية الروسية الكلاسيكية .
القيصر رقيباً على شعر بوشكين
لم يكن أمير الشعراء الروس الكساندر بوشكين ( 1799 – 1837 ) على وفاق مع السلطة القيصرية ، بسبب تأييده لأنتفاضة ( 14 ) ديسمبر 1825 ، التي ّ تحدت تنصيب القيصر نيكولاي الأول . ومارس هذا الأخير شخصيا ، بعد توليه السلطة دور الرقيب على نتاجات بوشكين، ومنع نشر بعضها . وعانى الشاعر من النفي والتضييق . ويقال ان السلطة كانت وراء مصرعه في مبارزة خطط لها القصر الإمبراطوري بذكاء للتخلص منه.
النظام السوفيتي ثمّن عالياً قصائد بوشكين ، التي تغنى فيها بالحرية والعدالة ، منتقداً النظام القيصري : " أيها الحاكم المتغطرس أكرهك وأكره عرشك " وتأييده للديسمبريين ( ثوار انتفاضة ديسمبر 1825 ) ، كما أشاد البلاشفة بملحمته الشعرية الرومانسية " غافريليادا" التي كتبها الشاعر في عام 1821 ، عندما كان في ريعان الشباب ، وهي محاكاة ساخرة ولطيفة لبعض الأحداث الواردة في الكتاب المقدس حول (حواء وآدم ) و( السيدة العذراء ) ، وفيها مقاطع إيروتيكية رائعة عن الحب والجمال الأنثوي . وكان هدف النظام السوفيتي من هذه الإشادة هو الإيحاء للقاريء بأن بوشكين كان ملحداً ، وهذا تفسير مغرض لهذه الملحمة البديعة بصورها الأخاذة ، وطابعها المرح اللطيف، حيث تتجلى فيها عبقرية بوشكين المبكرة . أما قصائده الوطنية، التي يمجّد فيها روسيا القيصرية مثل قصيدة " الى المفترين على روسيا " و قصيدة " رجاء المجد والخير " فكان النظام السوفيتي يزعم ان الشاعر قد كتبها تحت ضغط الرقابة القيصرية .
وفي عهد بوتين نجد تقييماً يناقضً تماماً ، التقييم السوفيتي للمنجز الشعري لبوشكين ،حيث يرى النظام الحالي ان قصائد بوشكين الوطنية ، التي مجّد فيها روسيا العظيمة ،هي انجازاته الشعرية الحقيقية . أما مناداته بالحرية والعدالة، والدفاع عن الثوار الديسمبريين ، وعن المضطهدين في روسيا والعالم ، ومحاكاته للكتاب المقدس ، فهي في نظر النظام الحالي ، من طيش الشباب ، ومن أخطاء الشاعر الفظيعة. ويزعمون ان الشاعر نفسه قد ندم على كتابتها .
القيصر ليف تولستوي
كتب الكاتب والناشر أليكسي سوفورين (1834 – 1912 ) في دفتر يومياته بتأريخ 29 أيار 1902 يقول " لدينا قيصران : نيكولاي الثاني ، وليف تولستوي . أيهما أقوى ؟ . إن نيكولاي الثاني ، لا يستطيع ان يهز عرش تولستوي ، ولا أن بفعل شيئاً ضده ، في حين أن تولستوي قادر بكل تأكيد على هز عرش نيكولاي وسلالته . انهم يلعنون تولستوي . والسينود ، أي ( المجلس المسكوني) غاضب عليه . ولكن بوسع تولستوي ان يرد عليهم بمنشور سرعان ما يتلقفه الناس في روسيا ، وينشر في الصحف الأجنبية . جربوا ! من يستطيع أن يمس تولستوي بشعرة ؟
ان التأثير الطاغي لعملاق الأدب الروسي ، لم يقتصر على الشرائح المتنورة في المجتمع ، بل شمل معظم افراده . حتى الفلاح البسيط ، الذي لم يكن يعرف القراءة والكتابة ، كان يعرف ان تولستوي كاتب عظيم ومصلح اجتماعي مهيب .
كانت علاقة تولستوي بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية سيئة . وكان يقول أن " ان الدين نبع ماء صاف ، ولكن رجال الدين يلوثونه ، ثم يقولون للناس تعالوا أشربوا من هذا الماء " .
كشف تولستوي زيف رجال الدين ، والكنيسة ، التي اتهمها بعدم مناصرتها للفقراء والوقوف مع القياصرة والظلم . فكفرته الكنيسة وأبعدتهُ عنها وأعلنت حرمانهُ من رعايتها عام 1901 .
وبطبيعة الحال فإن السلطة السوفيتية اعتبرت هذه العلاقة السيئة أمرأً ايجابياً . اما اليوم فأن نظام بوتين – المتحالف مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية – يرى عكس ذلك تماماً ، ويعد موقف تولستوي من الكنيسة أمراً سلبياً للغاية . ولعل ابلغ دليل على محاولة بوتين التقرب من الكنيسة، هو ان الدولة تجاهلت الذكرى المئوية لوفاة تولستوي (1910 – 2010 ) انصياعاً لموقف البطريكية الأرثوذكسية ، التي رفضت عودة تولستوي اليها ، رغم اعترافها بعبقريته .
دوستويفسكي بين ستالين وبوتين
كان ستالين قارئاً نهماً ، ويقال أن مكتبته الشخصية في الكرملين كانت تضم نحو (30) ألف كتاب ، ومكتبته في بيته الريفي نحو (10) آلاف كتاب في شتى حقول المعرفة ، بينها أهم الأعمال الأدبية الكلاسيكية الروسية والعالمية . وكان يردد غالباً اقتباسات من نصوص الكتاب والشعراء الروس العمالقة ، ولكنه لم يكن بوسعه أن يغفر لدوستويفسكي رواية " الشياطين ". وهي رواية صدرت عام 1872 ، وترجمها سامي الدروبي الى العربية نقلاً عن اللغة الفرنسية في الستينات من القرن الماضي ، تحت إسم "الموسومون ". ويشير الاسم إلى السياسيين المهوسين بالعنف ، ويشبههم الكاتب بالذين أصابهم مسٌ شيطاني
تعد " الموسومون " من أفضل الروايات السياسية ،التى تتناول علاقة التنظيمات الثورية المعارضة بالطبقة الاستقراطية الحاكمة في الإمبراطورية الروسية ، حيث يصور فيها دوستويفسكي بعمق سايكولوجي لا نظير له ، مدى توغل الأفكار اليسارية في المجتمع الروسي ، والصراع المرير بين طبقات الشعب. رواية تدين سفك الدم ، وإحراق المنازل من اجل احداث التغيير . وتسخر من المعارضة والليبراليين . وتعد هذه الرواية نبؤة تستشرف سلبيات الثورة البلشفية قبلَ وقوعها، ولهذا مُنعت الرواية وصودرت في الإتحاد السوفيتي ودول المعسكر الأشتراكي .وقد حاول البلاشفة بكل السبل ، التعتيم على عظمة دوستويفسكي ، وعدم اعادة نشر هذه الرواية والعديد من اعماله الادبية الأخرى .
كما منع البلاشفة نشر ( يومياتب الكاتب ) ، التي تتضمن هجوماً عنيفاً على الراديكالية الثورية . ولقيت رواية دوستويفسكي " مذكرات من البيت الميت " ، إنتقاداً شديداً ، لأن المعتقلات القيصرية كان يذكّر القراء بالمعتقلات السوفيتية .
كان مما يقلق دوستويفسكي ، الألحاد والاباحية والانحلال ، لذا كان مؤلف " الجريمة والعقاب " يعد رجعيا في نظر الحزب الحاكم ،ومصيره التجاهل والاهمال . وكانت التهم الموجهة اليه ، هي : التشاؤم، الموقف العدائي من الثورة ، اللاعقلانية ، والتدين . وهي الاسباب ذاتها التي تجعل من دوستويفسكي اليوم الكاتب المفضل لدى بوتين .
ان " الجريمة والعقاب " و العبيط " و" الشياطين " و" الأخوة كارامازوف " ليست مجرد روايات ، بل مؤشرات على ما يمكن أن يحدث لروسيا اذا لم تعد الى جذورها ، الى ما قبل عهد بطرس الأكبر .
التوظيف السياسي لآفكار دوستويفسكي
لا تمتلك روسيا البوتينية أيديولوحية عالمية مغرية وجاذبة ، كالتي كان الأتحاد السوفيتي يواجه بها الغرب الرأسمالي ، لذا فإنها تستعين بأفكار وآراء عدد من الكتّاب والفلاسفة الروس ، التي يمكن استخدامها لغايات سياسية .
يبدو بوتين أمام الكاميرات وفي لقاءاته مع الكتاب والشعراء الروس – على النقيض من ستالين – مفتونا بدوستويفسكي ، ويحاول استغلال رواية " الموسومون " في محاربة المعارضة ، الليبرالية منها واليسارية على حد سواء ، وضمان تأييد الناخبين الروس الذين ما زال أغلبهم يبجلون عمالقة الأدب الكلاسيكي .
وهذا الأفتتان الظاهري بدوستويفسكي ، هو الذي جعل الساسة والصحفيين في الغرب يعتقدون ان فلاديمير بوتين يؤمن بأفكار دوستويفسكي . ولكننا نرى أن الأمر مجرد استغلال لبعض جوانب أعمال هذا الكاتب العظيم لخدمة النظام الحالي في روسيا ، وهي الجوانب ذاتها التي إنتقدها النظام السوفيتي . حيث كان الكاتب العظيم يعتقد ان لروسيا رسالة سامية ، وهي تحرير الشعوب السلافية ، وتوحيدها بزعامة روسيا . بوتين يحاول اليوم تحقيق هذا الهدف بمعونة الكنيسة الأرثوذكسية ، وبالترويج لبعض آراء وأفكار دوستويفسكي ، التي تنسجم مع سعي بوتين من اجل استعادة روسيا لدورها كدولة عظمي في العالم .
خلال الحرب الروسية التركية (1877- 1878 )، أكد دوستويفسكي أن الحرب قد تكون ضرورية ، إذا كان من وراءها الحرية والخلاص. وأعرَب عن أمله في استعادة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية.
. و ذكر دوستويفسكي في مُذكَراته ،أن الشعب والقيصر يجب أن يكونا صفّاً واحداً: "بالنسبة للشعب، القيصَر ليس سلطة خارجيّة، أو سُلطة لبعض الناس … بل هو قوّة وسلطة للجميع، ولتوحيد جميع الناس ".
ان ما يجذب بوتين في دوستويفسكي ليس العمق السايكولوجي لروايات الكاتب العظيم ، بل إفتتانه بدوستويفسكي البيزنطي، الذي طوّر في" الأخوة كارامازوف " وجهة نظر التصوف الأرثوذكسي، الذي يحلم بانتصار الكنيسة، والقضاء على الالحاد الثوري ، الذي يهدد دور ونفوذ الكنيسة في المجتمع .
ذات مرة وفي اجتماع عقده الرئيس بوتين مع محافظي الأقاليم في الإتحاد الروسي ، أوصاهم بضرورة قراءة روايات دوستويفسكي . وقال : " عليكم بتصفح كتابات دوستويفسكي حول العامل الافرو آسيوي في السياسة الروسية ، فهي ممتعة للغاية ، وكأنها كتبت اليوم . " وقد تبدو هذه النصيحة غريبة للغاية . ما علاقة مضامين تلك الروايات – التي كتبت قبل حوالي قرن ونصف – بإدارة الأقاليم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ؟ . لقد كان لدوستويفسكي حسساسية بالغة ازاء التيارات الليبرالية والعدمية التي اجتاحت الثقافة الروسية والغربية ، ونصيحة بوتين دعوة صريحة لعدم التسامح مع مثل هذه التيارات في ايامنا هذه .
لا يشير بوتين الى تولستوي لا نادراً ، ويركز على أقوال دوستويفسكي ، الذي كان يؤمن بالتفوق الروسي . وهذ يناقض تماماً اعتقاد تولستوي بعالمية التجربة الأنسانية ، بغض النظر عن القومية ، والثقافة ، والدين . بوتين اختار دوستويفسكي ، الذي كان يعتبر روسيا أكثر الدول المتطورة روحياً . ولا يقتصر تركيز بوتين على أفكار دوستويفسكي ، بل غالباً ما يشير في خطبه الى أقوال الفلاسفة الروس مثل سولوفيوف ، وبيردايف ، وخاصة ايلين ، الذين وقعوا تحت تأثير أفكار دوستويفسكي القومية .
أما تولستوي فقد كان وطنياً أحب شعبه دون مغالاة ،أو إحساس بتفوق الروس على الشعوب الأخرى كما هو واضحفي " الحرب والسلام ". وآمن بأن لكل شعب من شعوب العالم ثقافته المتفردة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.