وفي طريقه إلي محطّة القطار، عرّج علي دير شيماردينو لرؤية شقيقته، وقضي ليلة في فندق بجانب أحد الأديرة. ثم غادر مرّة أخري في الرابعة فجرا باتجاه الجنوب.المشهد العام لأيّام تولستوي الأخيرة كان انعكاسا حيّا لامبراطورية هشّة تقف بقلق علي حافّة الحرب والثورة كان تولستوي شخصية ذات تأثير هائل، سواءً في أعماله أو في حياته في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1910، هرب تولستوي من بيته عند منتصف الليل، ولم يُسمح لصوفيا، (زوجة الكاتب)، برؤيته. وفي النهاية، وبعد أن فقد وعيه تم الرضوخ لطلبها. فدخلت وركعت عند سريره بينما كان يحتضر. وقد كتبت في مذكّراتها فيما بعد تقول : لم يسمحوا لي أن أقول لزوجي وداعا. أولئك الناس غلاظ القلوب". وفي يوم وفاة تولستوي والأيّام التي تلته، أرسلت الدولة الجواسيس لتعقّب كلّ حركة وخطوة من أتباعه خوفا من أن يشجّع موته الملايين من مؤيّديه من الشباب والفلاحين والمثقّفين علي القيام بتحرّك شعبي أو ثورة ما. أما ممثّلو الصحافة فقد حوّلوا موته إلي نوع من الملاحقة الإعلامية المحمومة . كان هروب تولستوي من ضيعته المسماة ياسنايا بوليانا قد أصاب معاصريه بالذهول. البعض رأي في تصرّفه "تحرّرا بطوليّا" من قيود الحياة العائلية. الصحافة الروسية وصفت قرار تولستوي بأنه "انتصار روحي"، بينما وصفه بعض الكتّاب بالمأساة العائلية. موت تولستوي، مثل حياته، كان حدثا تاريخيا، خاصّة في روسيا. فقد تقاطر الكتّاب والفنّانون والأتباع والفلاحون علي ضيعته واكتظّت القطارات من موسكو إلي كراسنايا بالناس الذين قدموا لحضور جنازته. وحمل نعشه حشد من الفلاحين، وأنشدت اللحن الجنائزي جوقة من مائة مغنّ، ومشي في أثر النعش موكب من حوالي عشرة آلاف شخص.ولم يكن هناك رجال دين في الجنازة، إذ كانت الكنيسة قد أصدرت قرارا بطرد تولستوي منها قبل ذلك بسنوات، بعد أن صرّح علناً رغم تدينه، بأن علاقته مع الله لا تحتاج لوسطاء. بعد الثورة، في روسيا عام 1917م. وصف لينين تولستوي بأنه "مرآة الثورة الروسيّة"، متجاهلا أفكاره السلمية وإيمانه بالله. ومن خلال تحويل البلاشفة تولستوي إلي رمز لهم، فإنهم في نهاية الأمر أفرغوه من أهميّته. كان البلاشفة علي علم بانتقادات تولستوي الجريئة لسلطة القيصر. وكانوا يدركون مكانته كأحد أعظم الكتّاب في العالم. كانت أفكاره وكتبه أثمن من أن يتركوها خارج قانونهم الفنّي. لذا كان يجب أن تُروّض وتُهذّب كي تنسجم مع قيودهم الأيديولوجية التي فصّلوها سلفاً. كان قرار طرد تولستوي من الكنيسة ما يزال سارياً ( حتي اليوم ) حين اتهم مجموعة من المثقفين الروس الكنيسة بالعناد لإصرارها علي إبقاء الكاتب المشهور علي قائمتها السوداء وبالتحكّم في أمور السياسة والثقافة في البلاد. وفي مواجهة مطالب عائلة تولستوي وأصدقائها بإلغاء قرار الطرد، أصدرت الكنيسة بيانا قالت فيه إن أعمال تولستوي جميلة ولا يمكن نسيانها، وأنها، أي الكنيسة، سمحت للناس بالصلاة علي روحه والدعاء له بالرحمة". وأضاف البيان أن تولستوي شخصية مأساوية في تاريخ الأدب الروسي، وأنه استخدم موهبته لتدمير النظام الروحي والاجتماعي التقليدي للبلاد".وكان "المجمّع المقدّس" قد اصدر قرارا عام 1899 بحظر كلّ صلاة تذكّر تولستوي أو الترحّم عليه بعد وفاته باعتباره مرتدّا.كان أمرا محزنا، وإن لم يكن مفاجئا، أن تمرّ الذكري المئوية لوفاة تولستوي قبل عامين دون أن يلحظها احد في روسيا. كان تولستوي يعارض العنف الذي تمارسه الدولة. وقد وصف الدولة بأنها سيطرة الأشرار المدعومين بالقوّة المتوحّشة. وكان يري أن اللصوص أقلّ خطرا من الحكومة المنظّمة. كما دعا إلي فكرة المقاومة السلمية وشجب كافّة أشكال الحروب. فلاديمير تولستوي، احد أحفاد تولستوي، انتقد بمرارة إصرار البطريرك الذي يأتمر بأوامر فلاديمير بوتين علي رفض الاستجابة لنداءات العائلة برفع قرار الطرد الكنسي الذي ما يزال مطبّقا منذ أكثر من مائة عام. ليوبولد سولرجيتسكي، احد أصدقاء وأتباع تولستوي، كتب يقول إن ل تولستوي شخصيّتين: تولستوي العظيم وتولستوي الحقيقي. تولستوي العظيم ما يزال حيّا وسيبقي معنا إلي ما لا نهاية. أما تولستوي الحقيقي، أي الإنسان الرحوم والرقيق والصبور والمملوء إنسانية وتواضعا فقد ذهب إلي الأبد". سيرة جديدة لتولستوي كتبتها روزاموند بارتليت بعنوان تولستوي: حياة روسية . وهو كتاب مليء بالمعلومات والحقائق التفصيلية عن حياة تولستوي وأفكاره.تذكر بارتليت في كتابها أن انطون تشيكوف، وكان احد أصدقاء تولستوي المقرّبين، قال ذات مرّة: تخيفني فكرة أن يموت تولستوي. وإذا مات فإنه سيترك ولا شكّ فراغا كبيرا في حياتي. وطالما انه حيّ، فإن موجة الابتذال والرداءة والقبح في الأدب ستبقي بعيدا في الظلمة الخارجية". "ياسنايا بوليانا" هذا المكان يعكس، أكثر من أيّ مكان آخر، طبيعة تولستوي. والحقيقة أن ياسنايا بوليانا لم تتغيّر كثيرا منذ أن تركها تولستوي قبل أكثر من قرن. وما يزال بالإمكان الوصول إليها عن طريق زقاق تصطفّ علي جانبيه أشجار البتولا.بعد وفاة تولستوي عام 1910، مُنحت بعض أراضي الضيعة للفلاحين الذين كانوا يخدمونه. بينما أعيد توزيع أجزاء من الأرض بعد قيام الثورة عام 1917. الاسطبلات ما تزال تؤوي بعض الخيول حتي يومنا هذا . الغريب أن بيت تولستوي نجا من فوضي ثورة 1917، عندما تمّ نهب الكثير من الممتلكات والبيوت المجاورة والأغرب ان ارتباط عائلة تولستوي ب ياسنايا بوليانا ما يزال قويّا إلي اليوم. وبعد رحيل تولستوي، تولّت صوفيا، زوجته، المسئولية عن المنزل والعقارات الملحقة به. كانت، حتي وفاتها عام 1919، تصطحب الضيوف الكثيرين الذين كانوا يزورون الضيعة، في حين تولّت الكسندرا، الابنة الصغري ل تولستوي، هذه المسؤولية خلال العشرينات قبل أن تغادر الاتحاد السوفياتي نهائيا عام 1928م. خلال العصر السوفياتي، احتفلت الدولة بالذكري المئوية لميلاد تولستوي عام 1928 وبالذكري الخمسين لوفاته في عام 1960م. وحظيت المناسبتان بتغطية واسعة في الصحافة. وكان ذلك أمرا مثيرا للاهتمام. فالعلاقة بين السلطات السوفياتية وأفكار تولستوي كانت متوتّرة. وأفكاره السلمية غير مقبولة بشكل متزايد بالنسبة إلي النظام الجديد. إذا نظرنا إلي الوراء وقارنّا بين أوضاع روسيا زمن تولستوي وحالة البلاد الآن سنجد بعض أوجه الشبه المذهلة. فهناك اليوم فجوة تتّسع باطّراد بين الأغنياء والفقراء. وثمّة تحالف ملحوظ بين الكنيسة والدولة. وهناك رقابة بشكل أو بآخر وإقصاء للأصوات المستقلّة. كما أن الدور السياسي للدولة يقع علي حدود الاستبداد. والواقع أن هناك الآن من يجادل بأن الأوضاع في روسيا اليوم ليست بأفضل حالا ممّا كانت عليه في بدايات القرن الماضي. كان الملايين من الروس، زمن ما قبل الثورة، ينظرون إلي تولستوي باعتباره منارة للحقيقة. واليوم يفضّل الناس عدم تذكّر عظمة وإنسانية كتّابهم في القرن التاسع عشر، ربّما بسبب شعورهم بعدم الارتياح إزاء تفريطهم وتقصيرهم ولامبالاتهم. جاذبية تولستوي في قلوب وعقول مواطنيه توارت كثيرا بدليل فشل الدولة المشين في تكريم ذكري واحد من أعظم مواطنيها. علي المستوي الرسمي، يبدو أن لا مكان لأفكار فوضويّ ونباتيّ مسالم كان يبشّر بالأخوّة بين بني الإنسان في بلد لا يمجّد اليوم سوي أفكار الذكورة والمال والفساد والعزّة القومية والحكومة القويّة. ولا يمكن إغفال نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية التي استعادت نشاطها في العقدين الأخيرين وتتمتّع الآن بعلاقة وثيقة مع الحكومة الروسية. هذه الكنيسة هي نفسها التي ما تزال تعتبر تولستوي زنديقا علي الرغم من جهود سلالته وسخط الكثير من الروس.