أُطفئت أضواء السيارة وهدأ هدير محركها ..الليل يرخي سدوله ، ليجثم على القلوب المكلومة ، ثمة نسائم باردة تداعب وريقات الشجر ..تحتضر الأنفاس أمام جمر العواطف اللاحب . نزلت ببطيء بعد أن ابتعدت من على مقعدها الوثير ، لتكشف عن ساقين أسيلين انزاح عنهما فستانها الفضفاض ،استقامت بآلية متقنة ، تلفعت بشالها ، ثم تأبطت كلبها المالتيز* . سقط هاتفها النقال ، حين أرادت الرد على من هاتفها ، لم تنحني لالتقاطه ، الرجل الذي كان يقعي ، على قارعة الطريق ، كان أسرع من التفاتها حتى زحف نحو الهاتف ،مسحه مما علق به من وحل بجلبابه المتسخ ، ثم أعطاه إياها ، رنا لجمال عينيها ، نظرت إليه بازدراء .. رمت ورقة نقدية صغيرة إلى الأرض .. وقبل أن يهم بالكلام ، أراد التقاط الورقة دفعت بها الريح بعيدا ، حاول اللحاق بها .. أرتطم بشاب ترجل من ذات السيارة .. جذبه من ذراعه ، وقال محذرا : -الم اقل لك ابتعد من هنا ! جدف بمجدافه نحو البعيد ، ورجع بخطواته كاسفا ليفسح الطريق ، شطب كل حزنه المرسوم على جدران عمره الضائع ، حين وجده بلا جدوى ، لا شيء يرتجى منه ، قارب مخروم وسط بحر لجي ودون شراع .. عمر لا يتوقف مسيره كمجرى نهر أزلي ، كل يوم يمضي يقربه خطوة نحو الآزفة ، صديقه يعب كأسا من الهم ويتجرعه على مضض ليؤكد له (( إن كل ما بينهما قُدَّ ذات ليلة بعد أن ترجل من فقره واعتلى صهوة الثراء ولُيطَلِقَ عالمه القميء ، الذي ما تآلف معه … )) أنا أكره رؤية المتسولين ..؟ قالت لزوجها و راحت تسير على أطراف أصابعها بغنج ، مضى يتبعها مذعنا .. لم يهتم لكلامهما راح يلاحق تلك الورقة النقدية .كلما هم بالتقاطها أبعدتها الريح ، أفكاره تسترجع ذكريات صاحبه ((منذ أربعين سنة اشترى دراجة هوائية لولده الصغير ؛مكافأة النجاح , .لم يكن الولد بارعا بالقيادة ، كان يتابع حركاته المضطربة وهو يحاول السير بخط مستقيم لكن العجلات تأخذه إلى اليمين تارة وفينة لليسار .. (الطريق الملتوي اقرب للوصول ) قال صديقه ذات ليلة أول درس لقنته لولدي وعلمته طرق الظفر بالأشياء ..فحصدت ما زرعت فكلما أراد أبني شيئا ابتزني ببكائه المتواصل …)) الريح تبعد تلك الورقة وثمة إصرار منه لاقتفاء أثرها .. . واخيرا .نجح بالتقاطها قبل أن يسقط وإياها في هوة عميقة ، ،نظر إلى الشاب استفزه شحوبه وخوفه المخبوء تحت طي فؤاده ، راح ينظر إلى القاع السحيق ..ويغمض عينيه , اعاد الورقة للشاب ، رنا لعينيه وكأن لسان حاله يقول .. لا تخف لن افعلها ..؟ عندما جن الليل ، تأرجحت الظلمة في أراجيح الارتياع الملتبس بالوهم ، تهاوى جسده النحيل في ركن من أركان الحديقة العامة لينغمس في خضرة الحشائش المبتلة ككلب سائب ، يراقب بريق الأضواء من كوة النافذة البعيدة يتراءى له شبحيهما ، موسيقى هادئة راحت تصل إلى مسامعه ، ؛وكعروض سينما الظل رآها تسند رأسها على كتف زوجها وتتمايل على الأنغام، فيما مضى كان صديقه يجالسه ويحاكيه ، بجلسات سمر إلفاها سويا ، حدثه عن لعبة الظل والضوء والتمثيل بالإيماء تلك الحرفة التي امتهنها سنوات طويلة حيث كان ممثلا في مسرح البانتو مايم ، في غرفة قميئة كانا نزيلين في دار المسنين ، احتبست ألاف الآهات في صدريهما لسنوات ، ولفافات الدخان تكاد الا تنقطع ،تعتم الرؤية ، تدمع العيون ، وتهيّج سعالا في صدر صاحبه الذي أنهكه ربو مزمن ، قبل أن يغمض عينيه ، التهم عشاءه أوجاعا يستعين بها على محطات رحلة الليل الطويلة حيث تتألق ملايين النجوم ؛يعدها تباعا ، وتدور الأفلاك وهو قابع في ذات المكان لا أنيس له سوى الذكرى ،الهموم تتناسل حتى يتنفس الصباح . قادته قدماه ككل فجر يبحث عن لقمة تركها صاحبها بعد شبع ، الكل ينظر إليه بازدراء صاحب المطعم يزجره بقسوة .. قام متأففا نفث دخان سيجارته بوجهه وقال ..( إياك أن تأتي مرة أخرى هنا ؛ كم تثير القرف يا هذا …) عاد من حيث أتى .( دار المسنين ، ما عادت تستوعب هذا الجسد النحيل ، الهزيل ، الأعجف ،منذ أن طمع بالحرية ) . آآآآه ،..بعد الدعة ، .والرخاء …. هكذا أزرى الزمان بي . ) . قالها في داخله وكأنه يشكو حاله لحاله ..ثم قال ، ( ضعوني بأي غرفة أنام بها ، تحت الأرائك ، في المطبخ ، في أي جحر للجرذان ، أرجعوني نزيلا ..مللت التسكع في الطرق ) أين أنت يا ولدي يامن سقيتك بدمعي وأطعمتك من لحمي فأبيت أن تسمع نداء أبوتي ) عند الصباح رآهما يخرجان ؛ تقلبت ألوانها وكأنها ترى مسخا ..نظرت إليه شزرا ( لا أريد أن أرى هذه القمامة المتحركة عند الصبح ) قالت ذلك وصعدت سيارتها .مسكت المقود وهي ترنو إلى زوجها وهو يحادثه. _(هذه امانة ) اخرج كيسا قطنيا وهم بأن يعطيه له .. _خذه لك ،وأغرب عن وجهي .. _دعني أكلمك … لم ينصت إليه ، _ يا هذا … تعسا لك ، حسبتك مثل ولدي ..؟! (ضحك بأسى ؛ تبعه ورغم صدود الشاب إلا أنه أراد إيصال تلك الامانة له .. ) _ .. إياك ..! _ لا تخف .. إني أخشى الهاوية …؟ ******* (هل تعرفه أراك تودعه بنظراتك طويلا ، كلما أبصرته ..) قالتها فيما مضت تسوي خصلات شعرها على مرآة السيارة .. _ عبير ماذا تعرفين عن جدك لأبيك …؟ تغيرت سحنتها ، فجأة ، ضغطت على مكابح السيارة . ، رجعت إلى الخلف ثم استدارت لتعود . قطعت مسافة طويلة دون أن تنبس بكلمة ، المطر يضرب زجاج السيارة بقوة ،الشارع صار كبركة كبيرة ، الأضواء تتراقص على جانبي الطريق ، المذيع يعلن أن الأمطار ستستمر لعدة أيام ، البرق يخطف الأبصار ، الرعد يدمدم .. أنفاسها تتعالى .. عيناها تتابع انعطافات الطريق رغم شرود أفكارها ، تختنق بعبراتها .. ( ابحثي عن جدك ، قالها أبوها قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ) استرجعت شريط ذكرياتها ، لعلها تظفر بصورة لجدها ما زالت بقاياها عالقة في مخيلتها .. ليلة احتضار أبيها كانت تنظر إليه بحزن عميق ، يحاول جاهدا إيصال الكلام إلى مسامعها ..يداها تمسكان بيده .. ( كان يوما ماطرا ، البرد قارص ، الريح هوجاء ، طردته من البيت ،ألقيت بفراشه في الشارع ، وأوصدت الباب ، كنت لا أرد لأمك طلبا أذعنت لأوامرها ، كلما استجدت ذكراه أموت ألف مرة ، يا أبنتي ) قشعريرة تسري بجسدها ، أحست ببرودة باغتتها فجأة ثمة دمعة تسقط من عينيها .. زوجها يرنو إليها بصمت … أوقفت السيارة .. فتحت الباب بسرعة ، ركضت نحوه، وجدته في ذات المكان يغطي رأسه بقطع من الكارتون اتقاء المطر ، جسده النحيل يرتجف .. قام الرجل وثمة فرح في عينيه …. _أنت َ هز رأسه بالإيجاب .. استفزها منظره ، جلبابه المتسخ ، شعره الأشعث ، لحيته المنكوشة ، وعيناه الجاحظتين ، أيمكن أن يكون هذا البائس جدي ..؟! … دفعته بكل قوتها وصرخت به … _ أنت علة مأساتنا ،لم نذق طعما للهناء ، طلقت أمي ، و أبي مات وفي نفسه غصة بسببك أنت ، ما الذي تريده بعد مني .. أنا أكرهك ، احتقرك .. تكورت دمعة في عينيه بعد أن أذلت بكلامها بقايا كبريائه .. _ هذه أمانة لم أفتحها … وامتدت يده لجيب جلبابه .. وهذه شهادة وفاة جدك . أعطاها كيس القماش والشهادة ، ثم مضى وهو مطرقا. مغطيا رأسه بقطعة الكارتون ، جلبابه مكتنز بالوحل ومياه المطر المنهمر .. ، فتحت الكيس ، برفق قلبت محتوياته ، ..وفي عينيها دهشة وأكثر من سؤال ..!! قطع ذهبية ،مسبحة من اليسر **، ساعة فاخرة ، مبلغا من المال . صورة لجدها مع أبيها وهو صغير يمتطي دراجته الهوائية ، و ثمة قصاصة صغيرة من الورق . قرأتها …. _ صديقي كل ما في هذا الكيس لك ، ابتدأ حياتك به من جديد ….! فرت عينيها باحثة عنه ، فلم تجده ، و دون انتظار لشكر غذ الطريق بأقدامه نحو المجهول ..