لم يعرف شقاوة الصغار ولا شيطنة الشباب , فقد أصاب والداه وكانا على حق حين أسمياه " أديب " . والعرب كما نعلم يحبون أن يضفوا على أسماء أبنائهم ما يأملوه في مستقبلهم . فحين يسمون أحد أبنائهم " أديب " يتوخون أن يتربى هذا الابن على حسن الخلق والتأدب في المعاملة , مع أن الكلمة لها في اللغة مدلول آخر, وهو الشخص البارع المبدع في مجال الأدب كالشعر والنثر وكتابة الرواية والقصة وكل ما ينضوي تحت هذا العنوان , إلا أنني أعتقد أن والديه قصدا المقصد الأول . فقد سمت العرب " فارس " لعله يكون فارسا و" محمود " لعله يكون محمودا في خلقه وأدبه …الخ. ومن المؤكد أن ليس بالضرورة أن تكون النتيجة كما المبتغى , فكم من شخص أسمه كامل وينقصه الخلق والادب والعلم والمعرفة لم يكن الله ليخيب رجاء والدي أديب , فهكذا عاش أديب طفولته وشبابه ,كما أراد له والداه أن يكون , فقد أمضى طفولته خلوقا مؤدبا لا يحب العراك ولا يميل إلى الشجار , وهو اليوم شابا يافعا أنيقا على درجة من الخلق لا يحب أن يؤذي أحدا ولا يحب لأحد أن يؤذيه . إعتاد أديب أن يسرح ويمرح مع أقرانه , ويمضي عطلته الصيفية , ما بين اللعب في الحارة بكرة القماش " الشرايط " أو لعبة الدواحل , أو الطميمة " الغماية " وما بين ركوب الدراجات الهوائية , طبعا عن طريق الاستئجار فلم تكن أسرته في طفولته قادرة على توفير الدراجة الهوائية التي كانت بالنسبة له حلم صعب المنال . ذات يوم من أيام الصيف , ووقت العصر تحديدا , كان أديب – الطفل المؤدب – يقف وحيدا , فقد ابتعد عنه أقرانه على الدراجات الهوائية التي استأجروها , بعد أن كان قد انتهى دوره في ركوب واحدة منها . وبينما كان أديب يقف لاهيا , سارحا , منتظرا عودة أقرانه حتى يكملوا فترة ركوب دراجتهم المستأجرة وإذا بواحد من الأشقياء , أشقياء الحارة ينهال عليه بالضرب بواسطة عصا من "القصيب" الطري دون سابق إنذار , فأوسعه ضربا وبشكل متواصل وقوي على جميع أنحاء جسمه الغض . لم يأخذ الطفل أديب فرصته حتى لصد الضربات عن نفسه , الا ما تمكن من صده بيديه الغارقتين في الطفولة والبراءة . التقط أديب فرصته فلمح ذاك الذي أوسعه ضربا فعرفه , وإذا به أحد شباب الحارة الذي يعرفه الجميع ويعرفون عليه بأنه " مجنون " وهو بطبعه يتصرف يناء على هذا الوسم الذي أتسم به , فقد كان يعرف بالمجنون أحمد , ولا أحد يؤاخذه على ما يبدر منه من تصرفات على اعتبار أنه مجنون الحارة. أكمل المجنون " أحمد " مهمته وغادر على عجل إلى تلك الدكان القريبة من مسرح الحدث , والتي تعود لأحد أقارب أديب , فلحق أديب به على الأقل ليستد شيئا مما لحق به من أذى . دخل أديب دكان قريبه البالغ الراشد الذي يتقدمه على الأقل بعشرة أعوام , كانت المفاجأة مدوية , وقعت على رأس أديب كالصاعقة . صاحب الدكان يتهامس مع أحمد المجنون ويناوله شيئا بيده أكثر الظن أنها قطعة من النقود . تناول المجنون أحمد ما أعطاه إياه صاحب الدكان وخرج مسرعا . فسأل صاحب الدكان أديبا مع ابتسامة خفبفة لطيفة صفراء : ما به كان يضربك بهذه الشدة وبهذه السرعة؟ لم يستطع أديب الإجابة لأنه تربى على الأدب وحسن الخلق فلا سنه ولا تربيته ولا صلة القرابة التي تربطه بصاحب الدكان تسمح له بأن يبوح بما شاهده , فتجمدت الأحرف على شفتيه … ولم يجب كبر صاحب الدكان بالسن , وداهمه المرض وهو في ريعان شبابه , فبات لا يقوى على الكلام ولا يقوى على الحركة , جسد معتل , مشلول , يحرك شفتيه ولا يستطيع الكلام . صار أديب يزور قريبه بين الفترة والأخرى ويعطف عليه ويمده بشيء مما أعطاه الله من مال , وفي كل مرة يتبادلا النظرات , يحاول صاحب الدكان أن يحرك شفتيه ليقول شيئا فلا يستطيع. وأديب يود أن يذكره بذاك الموقف , فلا يستطيع لأنه يدرك أنه لا يستطيع الإجابة. هذا الموقف بالنسبة لأديب لا يمكن أن ينسى , وبالنسبة لقريبه صاحب الدكان قد يكون موقفا أسعده لدقائق معدودات . رحل صاحب الدكان عن الدنيا , وبقي سؤال أديب معلقا ," هل أنت الذي دفعته لضربي , وكافأته حين عاد اليك ؟ بقي السؤال دون إجابه , وبقيت كلمات صاحب الدكان محبوسة في حلقة لم يكتب لها الخروج , فهل كان سيقول سامحني لو نطق ؟ لست أدري .