يقول هيمنجواي (كل الحكايات تنتهي بالموت). وهيمنجواي لم يكن سوداويًا حين قال ذلك، السوداوية تظهر في الطبقة العميقة لمقولته : كل الأبطال يموتون. ربما هذا يفسِّر لمَ مات هيمنجواي منتحرًا، الشغف بالبطولة .. شغف ربما بوضع نهاية احتفالية، ونحن لن نجد تتويجًا لكل ما نقوم به سوى بهذا الغياب وهذا المشهد الذي يحوِّلنا فجأة إلى قلوب بريئة ليس لها أن تحتمل خيانة الغياب وقسوة الإقصاء .. وحده أناتول فرانس أدار الأمر بأسلوب آخر، حين وضع على فراش الموت قديسًا يجاور عاهرة .. يُمارس الراوي خدعته كاملة حيث " إنه مجرد مسرح" .. كأننا فقط نناقش الأمر وجوديًا، تدور الأحداث كما لو أنها تقع هكذا بالفعل، وبين الحين والحين نهمس في هدوء "إنه مجرد مسرح". كيف يُكتب هذا النوع من الروايات؟ إننا نبدِّل كل قطع اللُعبة دون المساس بطبيعة المشهد، فقط سيقوم الشيطان بدور الله، في يوم ما بالقرن الثالث الميلادي يفزع أحد نُسَّاك الصحراء برؤية ما (ربما القديس بيصارون) .. رؤية لامرأة فاتنة، راقصة ما، لتكن ألمع راقصات الأسكندرية موطن الخطيئة .. كان على الله بالطبع أن يختار أحد رجاله، أحد قديسيه .. يشد الرجل الرحال لبلاد الخمر والنساء، تخيَّل ناسك برداء بالٍ زهيد وغبار السفر يدخل على مجلس إمتاع ويتجه إلى أيقونته "تاييس" وينتشل روحها من هذا الوحل .. ما تم على يد أناتول فرانس في الرواية هو الالتفات منذ اللحظة الأولى للعالم الداخلي لكل من الشخصيتين.. أحدهم متعطش للأنا وغرور الاصطفاء والآخر مأهول بمحبة غريبة لله .. قلب تاييس وحده الذي لا يصدق فكرة "المسرح" .. وحده يتحدث عن الله وكأنه تذكَّر للتو مهمة أوكلت إليه أو حبيبًا ينتظر .. لهفة ما نجدها أشعلت تاييس للدنو أكثر فيما نجد راهب الصحراء وقد تكشف له ولعه بجسد تاييس .. يصير الراهب في النهاية خادم الغريزة لا راقصة الأسكندرية .. كَم مرة ينظر المرء لنفسه في المرآة ويسأل: سأقوم بالأمر كما يجب، لكن هل هو حقًا نداء نبيل، هل هو حقًا مجرد مشهد ما فوق خشبة المسرح، أم أننا أمام نداء عميق لغريزة أو اشتهاء . أجمل ما يُكتب هو هذا الذي يسمح لنا برؤية الأمر كونه لا مجرد مسرح، وإنما مجرد حقيقة، مجرد واقع .. هذا العالم الذي نعيشه وكل مَن فيه يظن أنه يقف هناك، فوق الخشبة، يردد رغبات الله وينفِّذ مشيئته .. كلنا إلى أن نقف بطريقة ما .. ربما لقراءة ما على ناصية ذواتنا: ماذا لو كنَّا اللعنة التي نحاول الفتك بها .. على الجانب الآخر أحال أناتول فرانس الموت للشيء ونقيضه في مشهد واحد حين يموتا معًا؛ القديس والساقطة.. لكن ما المختلف تحديدًا في قراءة الموت هنا؟ ينجح الراوي هنا حين يكتب ببساطة أن الله لا يقف ضد الموت، ولا يجد مرارة فيه، بل إن الموت يصير النافذة الوحيدة لروح تاييس، للفناء في محبوبها الأنقى " الله". لم "ترقد" تاييس وإنما ماتت؛ فالموت ليس دنسًا وإنما خلاص وعناق بفضاءات أرحب لله. والتلاعب الذي مارسه علينا أناتول فرانس هو استرداد المعنى الأصيل للموت، الكلمات القليلة التي تعود بنا لشاطيء الكلمة.. ما معنى الموت؟ هل جاء موت تاييس منذ البداية حين وُجدت كامرأة أسرفت في الخطيئة، أم أنها ماتت في نهاية النص لتلحق بركب القديسين؟ .. ما الموت الذي حاول الله أن ينتشلنا منه، هل هو الحضور أم الغياب؟ هل يُولد المرء ميتًا، وما أيامنا سوى رغبة عميقة دسَّها الله فينا لاقتناص حياة نبيلة؟ هل نجلس جميعًا كلاعبي البوكر في هذه الحياة نُدير ربحًا مزيفًا ؟ أم أننا جسد "تاييس" نحمل انتماءً عفويًا للموت والحياة معًا. على ما يبدو لا "كل الحكايات تنتهي بالموت" وإنما "كل الحكايات مجرد واقع ليس فيه حقيقة واحدة عدا الموت ..