قبل عشرين سنة عرفني صديقي – شاعر العامية المنتحر – على بيرم التونسي بوصفه الرجل الذي سوف يجن إن لم يسافر إلى لندن أو باريس، وقتها لم أكن أعرف أن بيرم نفي إلى باريس واضطر أن يأكل وجبتين فقط في الأسبوع لأنه "خزّوق" الملك، كما لم أكن أعرف أن القائل "أنا المصري كريم العنصرين" ظل معدودا ضمن الرعايا الأجانب على الأرض المصرية حتى وصل 61 عاما. يحلو لورثة الحقيقة المطلقة تسمية بيرم ب"الزجال الكافر"، خصوصا بعد أن هاجم بيرم كبيرهم – وقتها – مفتي الديار المصرية محمد بخيت، بسبب معارضة الأخير – كما هي العادة – أن يسافر سعد زغلول لطلب إنهاء الاحتلال البريطاني من فرنسا، وهو موقف يشبه كثيرا ذلك الذي أخذه منه أناس لا تخفى جهالتهم وإن اكتفوا بوصفه ب"الزجال" دون إضافة الكفر، قال هو فيهم قبل قرن… "حافضين عشرة اتناشر كلمة نقل من الجورنال شوق وحنين وأمل وأماني وصد وتيه ودلال واللي اتعاد ينزاد ياخوانا وليل ونهار هُوّاه ياهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقه سكوت لله" كنت أعتقد أن لبيرم على شعر العامية ما للسيد درويش على الموسيقى، لكن الحقيقة أن لبيرم على الجمال والمحبة ما ليس لغيره، اكتشف بيرم نفسه شاعرا بعد أن تيتم وطرد من بيته وأفلس وترمل ولم يكتب إلا عن العام، أظن أن بيرم كان يعرف أنه أمة كاملة. لهذا، يمكن أن نكتب عن بيرم الصحفي، وبيرم الشاعر، وبيرم المؤلف المسرحي، وبيرم الناقد، وبيرم المطرود، وحتى بيرم البقال والعامل في مصانع الصلب، نكتب ونتكلم كثيرا كثيرا في مناسبة مثل اليوم، لنعود في الصبح القادم ناسيين، ومرتاحين جدا لما أدينا من واجب ناحية "رموز" الأولين. في الحقيقية لم أفهم أبدا لمَ هم – على عظمتهم – رموز؟ كيف يمكن أن تتحول الأفكار الحية والتجارب الغنية إلى رموز بدلا من أن تتجلى أفعلا ومناقشات وحياة؟ لبيرم تجربتين صحفيتين "المسلة" و"الخازوق" وزعت إحداها في عدد واحد – سنة 19 – 1000 ألف نسخة، وله في الشعر تجربة دعت الأهرام لأول مرة في تاريخها أن تنشره على صفحتها الأولى، وله مسرحيات تدخل القصر لتعديل اسمها خوفا من أثرها بين الناس، وله في المنفى تجربة بطول 21 عاما، حتى في حديثه عن المرأة، التي رآها باب الدواء للأمة قال دون مواربة "ميت ألف راجل بما فيهم من الشنبات.. ما يجوش في ضافر صباع واحدة من الستات". أحببت بيرم التونسي في "شمس الأصيل" كما لم أحب شاعرا أبدا، وصاحبني في "أهل الهوى" شتاء وراء شتاء من غير تأفف، ودعا الجميع للحب في "القلب يعشق"، وحرض الجميع على الابتسام لما قال "أوريه الملام بالعين وقلبي ع الرضا ناوي". لكنه أخجلني كثيرا حين قال "النقد امتداد للنبوة، ولولا النقاد لهلك الناس ولطغي الباطل على الحق ولامتطى الأراذل ظهور الأفاضل، وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال". أعتذر منك سيدي الجميل؛ أعتذر منك وقد أصبح للدجال وحده صوت ومنبر ومئذنة، أعتذر منك وقد أصبح كل مجلس بلدي قراقوش خسيس، أعتذر منك وقد ركبنا أهل المغنى ليل نهار على راحهتم، أعتذر منك وقد فقدنا الطريق والبوصلة، أعتذر منك وأقد أصبح الحل فرديا، وأنت – بعد – تسأل… "ليه أمشي حافي، وانا منبت مراكيبكم ليه فرشى عريان، وانا منجّد مراتبكم ليه بيتى خربان، وانا نجّار دواليبكم هي كده قسمتي؟ الله يحاسبكم ساكنين علالي العتب، وانا اللي بانيها فارشين مفارش قصب، ناسج حواشيها قانيين سواقي دهب، وانا اللي أدور فيها يا رب ما هوش حسد لكن بعاتبكم من الصباح للمسا، والمطرقة فيدي صابر على دا الأسا حتى نهار عيدي ابن السبيل انكسى، واسحب هرابيدي تتعروا من مشيتي واخجل أخاطبكم ليه تهدموني وانا اللي عزكم باني انا اللي فوق جسمكم قطني وكتاني عيلتي في يوم دفنتي مالقيتش أكفاني حتى الأسيّه وأنا راحل وسايبكم؟