في كل مرة سنقرأ قصيدة، أو جزءاً من قصيدة، أو حتى بيتاً واحداً فقط لأحد الشعراء المعروفين أو غير المعروفين اسماً، وإن بقيت أشعارهم هذه أبداً.. نفعل ذلك بحثاً عن "شوية هوا" نتنفّسهم عبر كلمات معطّرة يبقى رحيقها طويلاً طويلاً. إذا مررت -ولو مروراً عابراً- بين سطور إحدى قصائده أدركت تلك الحقيقة المؤلمة التي تحاول الفرار منها دائماً، وهي: "أن تموت واقفاً، أكرم لك من أن تعيش راكعاً" ذلك الشاعر الذي قال عنه أمير الشعراء أحمد شوقي: أنا لا أخشى على الشعر العربي طغيان أحد أو شيء إلا بيرم وأدبه الشعبي. وُلد الشاعر الشعبي محمود بيرم التونسي في الإسكندرية، في 3 من مارس 1893م، وهو صاحب شعار موقعنا: "يا مصري وإنت اللي هاممني من دون الكل .. نمت والعالم فايق قوم بص وطل". وسُمّي "التونسي" لأن جَدّه لأبيه كان تونسياً، قَدِم إلى مصر سنة 1833م، و"التونسي" لقب لُصق به وبأفراد أسرته لكوْنهم من تونس أصلاً، وهاجروا إلى الإسكندرية، وأقاموا فيها؛ فكان أهلُ الحي يصفون الفرد منهم بالتونسي؛ فلحق بهم هذا اللقب كعادة الغريب حين يقيم في غير مدينته يلقبه الناس لقبًا ينسبه إلى بلده الأصلي. عاش طفولته في حي "الأنفوشي" ب"السيالة"، التحق بكُتّاب الشيخ "جاد الله"، ثم كره الدراسة فيه لما عاناه من قسوة الشيخ؛ فأرسله والده إلى المعهد الديني، وكان مقره مسجد المرسي أبو العباس، توفي والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، فانقطع عن المعهد وارتدّ إلى دكان أبيه؛ ولكنه خرج من هذه التجارة صفر اليدين. كان محمود بيرم التونسي ذكياً، يحب المطالعة، تساعده على ذلك حافظة قوية؛ فهو يقرأ ويهضم ما يقرأه في قدرة عجيبة، بدأت شهرته عندما كتب قصيدته "بائع الفجل"، التي ينتقد فيها المجلس البلدي في الإسكندرية، الذي فرض الضرائب الباهظة وأثقل كاهل السكان بحجة النهوض بالعمران، وبعد هذه القصيدة انفتحت أمامه أبواب الفن؛ فانطلق في طريقه ودخله من أوسع الأبواب. اليوم ومع ما نعيشه من أحداث سياسية وتصريحات مختلفة حول العامل المصري، لم نجد من يتكلم عن تلك الطبقة الكادحة سوى "بيرم"، الذي يصلح لكل زمان، وأي مكان. وحده لديه الملَكة التي تجعلك تتنفس وتُخرج ما يختلج بداخلك من مشاعر في صورة "شوية هوا" .. فمع القصيدة ليه أمشي حافي. وأنا منبت مراكيبكم ليه فرشي عريان, وأنا منجّد مراتبكم ليه بيتي خربان, وأنا نجار دواليبكم هي كده قسمتي؟ الله يحاسبكم **** ساكنين علالي العتب, وأنا اللي بانيها فارشين مفارش قصب, ناسج حواشيها قانيين سواقي دهب, وأنا اللي أدور فيها يا رب ماهوش حسد لكن باعاتبكم **** من الصبح للمسا؟ والمطرقة ف ايدي صابر على دي الأسى! حتى نهار عيدي ابن السبيل اتكسى, واسحب هرابيدي تتعرّوا من مشيتي وأخجل أخاطبكم **** ليه تهدموني وأنا للي عزكم باني أنا اللي فوق جسمكم قطني وكتاني عيلتي في يوم دفنتي مالقيتش أكفاني حتى الأسية وأنا راحل وسايبكم؟!