سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
غاب عنه "بخيت" و"الراوى" و"الشريعى".. وظل هو حاضرا
بيرم التونسى.. تاريخ أدبى ونضالى كبير.. وقسوة أكبر
• نجوم شعر العامية.. فؤاد حداد وصلاح جاهين وفؤاد نجم.. خرجوا من عباءته.
•مواقفه الوطنية وانتقاداته اللاذعة للأنظمة الاستبدادية جعلته يعيش منفيا
رغم أهميته الأدبية والنضالية.. وما قدمه من أعمال للمكتبة العربية وتاريخ العمل الوطنى.. جاءت الاحتفالية التى نظمها معرض الكتاب للراحل الكبير بيرم التونسى بعنوان "خمسون عاما على رحيله.. بيرم التونسى المغترب مبدعا" على عكس المتوقع بسبب غياب ضيوف المنصة. جاءت الاحتفالية شديدة الظلم والقسوة على هذا الشاعر الكبير الذى غاب عنه كل الضيوف: الشاعر جمال بخيت ود. صلاح الرواى والموسيقار عمار الشريعى.. لم يحضر أحد.. فتقدم الناقد محمود قاسم للمنصة فى محاولة منه لإنقاذ الموقف.. واعترف أن ليس لديه القدرة على الحديث عن بيرم التونسى مستوفيا كل الجوانب ولكنه سيتحدث فى مجال تخصصه وهو الأغانى.. مشيرا إلى أنه سيتناول مشوار بيرم التونسى من خلال الأغانى التى كتبها فى الأفلام السينمائية. كذلك تدخلت الدكتورة سحر سامى فى محاولة منها لتخفيف وطأة الغياب.. و تحدثت بشكل عام يدل على حبها لهذا الشاعر لكن ليس من باب حديث التخصص. بدأت د. سحر سامى حديثها قائلة: بالطبع لا يمكن اختصار حياة بيرم التونسى فى ندوة واحدة فهو يمثل حالة فريدة فى الشعر العربى، كما أن مشواره كان مليئا بالاختلافات، سواء حول شخصه أو إبداعه بداية من مولده.. فقد تم الاختلاف عليه، هل هو مولود فى تونس أم أنه سكندرى؟!!. وأضافت: تأثر بيرم التونسى بالتراث الشعبى المصرى وكتب لكثير من مغنين عصره كأم كلثوم.. وخرج من عباءته العديد من شعراء العامية ومن بينهم فؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وغيرهم.. وأشارت د. سحر سامى إلى أن حبه لمصر وانتقاده الدائم لسياسات الأنظمة جعله يدفع الثمن غاليا فقد نفى نتيجة لهجائه للنظام ومفاسده ورغم ذلك لم ينسى مصر فكتب عن النيل وعن المرأة المصرية والإنسان المصرى من خلال نقد مليئ بالحب لهذا الوطن. كما أثر بيرم التونسى فى شكل الغناء المصرى وخلق لنفسه مكانة متميزة بين الناس.. فقد جاءت قصائده بسيطة وحميمية ومستقاة من طبيعة وحياة الشعب المصرى واضطر أمير الشعراء أحمد شوقى وغيره من شعراء الكلاسيكية أن يلقبوه ب"أمير شعراء القصيدة العامية". وكان لبيرم التونسى – كما قالت د. سحر سامى - أوبريتات ومسرحيات بجانب أشعاره الزجلية فكتب عزيزة ويونس والتى تأثر فيها بالتراث الشعبى المصرى والسير والمواويل وهو ما انعكس على آليات التلحين المصرى لتلائم كلمات بيرم التونسى. ولما قدمه لمصر وللحياة الثقافية احتجت الحركة الثقافية فى مصر على نفيه خارج البلاد حيث كتبت مقالات تطالب بعودة بيرم التونسى باعتباره مصرياً كامل المصرية ولا يجب أن ينفى عن الوطن.. وهو ما عبر عنه بيرم عن نفسه فى كثير من قصائده مثل «عطشان يا صبايا والسيد وحرمه فى باريس» وغيرها المليئ بالنقد البناء الذى يريد لمصر أن تكون مثل باريس التى نفى فيها فحينما شاهد فى باريس الشوارع وسلوكيات الفرنسيين وعلاقتهم وحبهم للفن نقل هذا فى قصائده باعتبار أن مصر لا تقل فى جمالها وروعتها عن فرنسا والقاهرة عن باريس. واختتمت د. سحر كلامها قائلة: للأسف لم تتم مناقشة أشعار بيرم التونسى أكاديمياً إلا بعد سنوات طويلة من رحيله وهذا ظلم كبير له ولكن يعوضنا هذه الدراسات الكثيرة التى كتبت عن أشعاره مثل دراسة د.يسرى العزب. من جانبه تحدث الباحث محمود قاسم عن الجانب الإبداعى الغنائى فى إشعار بيوم التونسى فى الأفلام السينمائية وتتمثل فى الأغانى البدوية المرتبطة بأهل الصحراء المصرية وعاداتهم وعزلتهم فى المجتمع وأيضاً المفردات اللغوية التى يتحدثون بها.. وهو أمر صعب فلا يستطيع أحد أن يكتب عنهم إلا من عاش بينهم إلا أن بيرم التونسى استطاع أن يفعل ذلك. وعن الأغنيات التى كتبها بيرم التونسى للسينما قال: قاسم كان يكتب الأغانى السينمائية كمصدر رزق له، وكانت البداية فى عام 1936 بفيلم «وداد» وتدور أحداثه فى أجواء صحراوية وبدوية فتم الاستعانة ب"بيرم التونسى" لكتابة هذه الأغانى. وأضاف: الصحراء فى الثقافة المصرية ذات مفهوم ثابت من العادات والتقاليد والسلوكيات وعقود الزواج والخصام وكان بيرم التونسى يلم بكل هذه التفاصيل التاريخية، لذلك كان هو الأقدر على التصدى لكتابة أغانى مثل هذه الأفلام. ويشير قاسم إلى مطربة الفيلم وتسمى «ناجية إبراهيم» واشتهرت باسم «كوكب»، كانت تعشق الأفلام البدوية التى تدور فى البيئة الصحراوية وقامت بأداء دور البطولة فى أفلام من هذا النوع.. ك«عنتر وعبلة» و«رابحة» وغيرها وكل أغانى هذه الأفلام كتبها بيرم التونسى وللأسف هذه الأغانى أو الأشعار لم يتم جمعها فى الديوان الشعرى لبيرم التونسى. لقد قمت بتجميع هذه الأغانى – الكلام على لسان محمود قاسم - وقسمتها حسب كل فيلم ونوعيته ولعل أشهرها أغانى فيلم «سلامه» وأغنيته الأشهر «سلام الله على الأغنام». وأشار إلى أن المخرج نيازى مصطفى كان أكثر المخرجين الذين تعاملوا مع بيرم التونسى لكتابة الأغانى البدوية والصحراوية، وظل بيرم التونسى يكتب أغانى الأفلام حتى قبل وفاته بسنة واحدة. وحول تأثير أم كلثوم فى إبداع بيرم التونسى اختتم الباحث محمود قاسم كلامه قائلا: كانت أم كلثوم مطربة ثقيلة فهى صاحبة تأثير صوتى طاغى مما يجعل أى كاتب يعيد الكتابة مرات عديدة حتى يصل إلى أقصى درجات الإبداع، وكانت أم كلثوم فى أحيان كثيرة تتدخل فى تغيير بعض الأبيات ولقد فعلتها مع بيرم التونسى. الجدير بالذكر أن بيرم التونسى ولد في الإسكندرية في 4 مارس 1893م، وسمي التونسي لأن جده لأبيه كان تونسيا قدم إلى مصر سنة 1833م، والتونسي لقب لصق به وبأفراد أسرته لكونهم من تونس أصلا، وهاجروا إلى الإسكندرية، وأقاموا فيها فكان أهلُ الحي يصفون الفرد منهم بالتونسي، فلحق بهم هذا اللقب كعادة الغريب حين يقيم في غير مدينته يلقبه الناس لقبًا ينسبه إلى بلده الأصلي. عاش بيرم طفولته في حي الأنفوشي بالسيالة، والتحق بكُتّاب الشيخ جاد الله، ثم كره الدراسة فيه لما عاناه من قسوة الشيخ، فأرسله والده إلى المعهد الديني بمسجد مسجد المرسي أبو العباس، وعندما توفى والده انقطع عن المعهد وارتد إلى دكان أبيه – كان فى الرابعة عشرة من عمره – ولكنه خرج من هذه التجارة صفر اليدين. كان محمود بيرم التونسي ذكياً يحب المطالعة تساعده على ذلك حافظة قوية، فهو يقرأ ويهضم ما يقرؤه في قدرة عجيبة. بدأت شهرته عندما كتب قصيدته بائع الفجل التي ينتقد فيها المجلس البلدى في الإسكندرية بعد أن فرض الضرائب الباهظة وأثقل كاهل السكان بحجة النهوض بالعمران، وبعد هذه القصيدة انفتحت أمامه أبواب الفن فانطلق في طريقها ودخلها من أوسع الأبواب. أصدر محمود بيرم التونسى مجلة "المسلة" في عام 1919م وبعد إغلاقها أصدر مجلة "الخازوق" ولم يكن حظها بأحسن من حظ سابقتها. وبسبب مواقفه الوطنية وانتقاداته اللاذعة نفي بيرم إلى تونس التي يحمل جنسيتها بسبب مقالة هاجم فيها زوج الأميرة فوقية ابنة الملك فؤاد، ولكنه لم يطق العيش في تونس بسبب ما شهده من قمع من المستعمر الفرنسي فسافر إلى فرنسا ليعمل حمّالاً في ميناء مرسيليا لمدة سنتين. بعدها استطاع أن يعود إلى مصر، وإلى أزجاله النارية التي ينتقد فيها السلطة والاستعمار آنذاك، حتى ألقى عليه القبض مرة أخرى لتنفيه السلطات المصرية إلى فرنسا فعمل هناك في شركة للصناعات الكيماوية.. لكنه فصل من عمله بسبب مرض أصابه فعاش حياة صعبة وواجه أياماً قاسية يملؤها الجوع والتشرد. ورغم قسوة ظروف الحياة على بيرم إلا أنه استمر في كتابة أزجاله وهو بعيد عن أرض وطنه، فقد كان يشعر بحال شعبه ومعاناته وفقره المدقع. وفي عام 1932تم ترحيل الشاعر من فرنسا إلى تونس بعد أن قامت السلطات الفرنسية بطرد الأجانب، وهناك أعاد نشر صحيفة الشباب. ثم أخذ بيرم يتنقل بين لبنان وسوريا ولكن السلطات الفرنسية قررت إبعاده عن سوريا لتستريح من أزجاله الساخرة واللاذعة فتم نفيه إلى إحدى الدول الأفريقية حتى عاد به القدر إلى مصر عندما كان في طريق الإبعاد لتقف الباخرة التي تُقلّه بميناء بورسعيد فيقف بيرم باكياً حزيناً وهو يرى مدينة بورسعيد من بعيد، فيصادف أحد الركّاب ليحكي له قصته فيعرض هذا الشخص على بيرم النزول في مدينة بورسعيد، وبالفعل استطاع هذا الشخص أن يحرر بيرم من أمواج البحر ليجد نفسه في أحضان مصر.