بدأت فعاليات اليوم الأول – الجلسة الثالثة – من ملتقي القاهرة الدولي للترجمة بعنوان "الترجمة مشروعا للتنمية الثقافية" حول الترجمة مابين الحرية والدقة والأمانة والمعايير، رأس الجلسة ثائر ديب، وشارك بها كل من د.حسين محمود، والمترجمة سحر توفيق و طلعت الشايب وعادل النحاس وصلاح نيازي. وعن معايير الوفاء في الترجمة ومفاهيم الأمانة والدقة؟ فقد تحدث د. حسين محمود قائلا: في كل مرة يواجه المترجم فيها نصًا تبرز له معضلة الأمانة التي تطارده منذ شاع المثل اللاتيني "المترجم خائن"، وهو مثل صحيح إذا سلمنا بما سلم به الدارسون من استحالة الترجمة. لكن علوم الترجمة الحديثة سخرت من هذا المثل، وناقشت الأمر من زاوية استحالة الترجمة وإمكانية الترجمة، وبالطبع يعمل دارسو الترجمة الآن، وربما أيضًا في المستقبل، على معايير إمكانية الترجمة لا استحالتها. وفي هذا الإطار يصح أن نستبدل بمفهوم الأمانة مفهومًا أوسع قليلاً، وهو مفهوم الوفاء، ، وأشار إلي أنه يمكن ترجمة نص بوفاء كامل للغويات النص الأصلي، وتكون النتيجة أن تبدو الترجمة تقريبية وغير مرضية.وأكد أن أمانة الترجمة إذا تم فهمها على أنها التزام المترجم بما جاء به النص حرفيًا، تتحول إلى خيانة مؤكدة. فالأمانة المزعومة تعتمد فقط على النتيجة التي تتحقق في اللغة الهدف في سياق زمني تاريخي معين يحاول فيه المترجم ربط نص تم إنتاجه في عصور أخرى مع قارئ عصره هو. ومن هنا، فإن مسألة أمانة الترجمة لها علاقة بقناعة المترجم بأن الترجمة هي في الأساس شكل من أشكال التفسير، والتفسير ينبغي أن يستهدف العثور على ما يقصده النص، أي على النوايا، وما يقوله النص باللغة التي عبر عن نفسه فيها، وفي السياق الثقافي الذي ولد فيه. ثم تناول الشايب في حديثه الحرية والترجمة قائلا: يتمتع الكاتب بدرجة كبيرة من الحرية الإبداعية؛ فالأفكار أفكاره، وهو الذى يختار من الألفاظ ما يراه مناسبًا وكافيًا للتعبير عنها، كما أنه حر تمامًا أثناء عملية الإنتاج، يغير ويبدل ويعدل. المترجم محروم من هذا الترف، محكوم بعقد ضمنى مع المؤلف، عقد يتنازل فيه المؤلف عن لغته، ويتنازل هو فيه عن أفكاره؛ ففى النص المترجم إذن، غياب للغة المؤلف وغياب لأفكار المترجم، وأضاف لما كانت كل لغة من اللغتين – المترجم عنها والمترجم إليها- "تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها"، كما يقول "الجاحظ"، أثناء عملية التحويل، ولما كانت كل ترجمة – أى ترجمة – ليست سوى القراءة الأعمق للنص فى لغته الأصلية، نستطيع أن ندرك عمق أزمة المترجم الذى يحاول أن "يخدم سيدين" فى الوقت نفسه: المؤلف الذى يقطن لغته (أى لغة النص الأصلى) والقارئ الذى يقطن لغته "أى لغة النص المترجم"، وتساءل عن ما هى درجة حرية المترجم فى التصرف، والصعوبات وهو يواجه الصعوبات المعتادة فى عملية الترجمة، وهو يحاول أن ينتقى ألفاظه هو، ويدقق عباراته هو، ويضبط معانيه هو، ويستبدل تراكيب النص الأصلى ذاته دون الإخلال بأفكاره؟ أما المترجمة سحر توفيق فقد تطرقت لحدود الترجمة بين الثقافتين مستشهدة بكتاب كتاب Beyond Good & Evil الذي ترجمه والتر كوفمان للفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشه إلى الإنجليزية، وأنه كتب فى مقدمته للكتاب أنه قرأ ترجمتين سابقتين إلى الإنجليزية لنفس الكتاب، لكنه عندما حاول مراجعة إحدى الترجمتين وجد أنه بحاجة إلى إعادة ترجمة الكتاب بأسلوبه وطريقته، لماذا؟ يقول كوفمان لأن الترجمتين السابقتين لم يقم بأى منهما فيلسوف، ولأنه فيلسوف، يصل إلى أن المترجمين لم يفهما الكتاب حق الفهم، وأنه فهمه أفضل منهما، وأن ثمة أخطاء كبيرة فى الترجمتين، ولذا رأى أن لا مفر من إعادة الترجمة. وأشارت إلي أن الترجمة تعتبر من الحقول المعرفية الحديثة، والتي لم تحظَ بعد باستقرار في النظريات التي تتناولها. وربما من أسباب تأخر الترجمة في هذا المجال أنها تتداخل مع حقول معرفية كثيرة أخرى؛ وأكدت أن نظريات الترجمة بدأت مجرد "نظريات وصفية"، تصف للمترجمين كيف يقومون بالترجمة. وفي أواخر الخمسينيات ظهرت لأول مرة الدعوة لوجود حقل معرفي أكاديمي خاص بالترجمة منفصلاً عن الدراسات الأدبية أو اللغوية، واستمرت المحاولات لدراسة الترجمة كحقل معرفي متخصص، وإن ظلت تلك الدراسات تتداخل مع حقول معرفية أخرى، خاصة الأدب المقارن. حتى ظهرت الدراسات الحديثة التي تتناول جوانب عديدة منها معنى الأمانة والدقة، وهو أمر دارت حوله مناقشات كثيرة، منها البحث حول كيفية الحفاظ على جماليات النص الأصلي في لغة المصدر، وهي جماليات قد تختلف في اللغة الهدف، وإلى أي مدى ينبغي الالتزام بالصور التي يستخدمها المؤلف في اللغة الأصلية. وتناول صلاح نيازى الدقة والأمانة في الترجمة وتطرق لمفهومهما ككلمتان لا يختلف في معناهما اثنان، للوهلة الأولى، ولكنْ في الوهلة الثانية، حينما نحاول تأطيرهما، تبدأ الصعوبة، ويصبحان لغزيْن مستغلقيْن كما سنرى؛ إذْ كيف نقيس الدقة؟ وبأيّ معيار نزن الأمانة؟ مع ذلك لا بدّ لنا من وسيلة ولو تقريبية لمفاضلة ترجمة على ترجمة. وحتى نبتعد عن التنظير مؤقتًا لنأخذْ ثلاثة أمثلة من الترجمات لثلاثة من أساطين المترجمين، واستشهد بالمترجم البريطاني مايكل هامنبيرغر المتخصص بترجمة الشاعر الألماني هيلدرلن، وأيضا تطرق نيازى للشاعر الأمريكي إزرا باوند، صاحب أوسع النظريات في الترجمة. قائلا : يقول هيو كينرHugh Kenner في مقدمته لكتاب "ترجمات إزرا باوند": كان إزرا باوند يمتلك الشجاعة والدهاء في صنع صيغة جديدة مشابهة من حيث التأثير بالنصّ الأصلي، فوسّع من حدود الشعر الإنجليزي"، أمّا عن ترجماته عن كونفوشيوس فيقول هيو كينر: " ترجمات إزرا باوند هنا ما هي إلا تبادلات بين أصوات الأحياء وشخصياتها مع أصوات وشخصيات الأموات"، بكلمات أخرى كان إزرا باوند يطوّع النص، شرط أن يبقى المترجم "أمينًا للصور الشعرية المتوالية الأصلية للشاعر أو التأثير الناجم عن الإيقاعات، مع الاحتفاظ بإيقاعاته هو"، واختتم حديثه بذكره لأول مترجم في التأريخ اسمه شين نيقي نينيني الذي ترجم ملحمة كلكامش من البابلية إلى الآشورية. وتحدث عادل النحاس عن الترجمة من خلال وقوعها بين الالتزام الأدبي والالتزام الأخلاقي ، متناولا حدود حرية الترجمة بين الثقافات المختلفة، ومدى إدراك المترجم لتلك الحدود، كما تعرض إلي المشكلات والصعوبات التي قد تواجه المترجم أثناء ترجمته لعمل من الأعمال. وتختلف هذه المشكلات من مترجم إلى آخر ، ومن لغة إلى أخرى ، بل ومن بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى.وهناك العديد من التساؤلات التي قد تدور حول مدى التزام المترجم بطبيعة العمل الذي يقوم بترجمته ، وكذلك بجنس العمل "روائي، مسرحي، شعر ، نثر" وتتطرق عادل النحاس لتجربته الشحصية أثناء مشاركته في ترجمة ومراجعة بعض الأعمال عن اللغة اليونانية القديمة، مثل ترجمة: ملحمة "الإلياذة" لهوميروس التي صدرت عن المركز القومي للترجمة عام 2004 ، وكتاب "طبائع الشخصيات" للكاتب والفيلسوف اليوناني ثيوفراستوس التي صدرت عام 2015، وترجمة " موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي: العصور الوسطى"، تحرير آلاستير مينيس ويان جونسون، عن اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية القديمة، صدرت عام 2016، وفي مراجعة رواية "أيام الإسكندرية" عن اللغة اليونانية الحديثة للكاتب اليوناني ذيميتريس ستيفاناكيس، التي صدرت عام 2014