النص الحاصل على المركز السابع في المسابقة للكاتبة الرائعةأ. رحيمة بلقاس ، من المغرب لم تعد أغنية الحياة تعنيني… جوفاء كقشة متآكلة تقي نملة من بغتة هوجاء، ليس خطوا ما تحكيه قدماي في برارٍ جرداء، فذا الصبح يمسح بأصابعه على جبيني، يصب في عيني قهوة بيضاء، على كرسي شاغر ألقيت جثتي الخامدة بعد أن أصابها سهم مسموم… هل حقّا الغدر يأتي من الأعداء؟ ترجلت من صهوة بلاهتي، وركبت خيول الانزواء في فصل شتاء قارس حزين، الجليد يكلل زوايا الأنين، حتى الصوت فقد وتر الغناء… ها أنا أتعلم فن المشي من جديد بخريف شُلَّت رجلاه، فهل ستسعفه عكازة الشيخوخة على الوقوف لخوض غمار هذا الكون المهووس بحرق كل جميل… كيف وضعتُ رقبتي تحت سكين الثقة العمياء، كانت كل شيء لي، هي الأم حين الرحيل سن حتميته فانحسر الدمع في مجراه، يردد خيبة طفلة لم تفقه أبدا معنى الحذر والانتباه… وهي الأخت حين خذلتني المسافات… كريشة فريدة تنازعها الرياح، تطوح بها أنى شاء لها التيار… وهي الصدر الرحب حين حاصرتني المآسي على ركح غيوم تمارس طقوسها بوحشية الانهمار… كيف طاوعتها العبارات لتنفت فحيح الأفاعي في وريد أثخنته القراح؟… لم تشفع سنوات العمر التي قطعتها مركبة صداقتنا، ولا هنيهات العزف على الوفاء والايثار من أجل من نحب بصدق السرائر النقية من كل الشوائب مهما اشتدت النوائب. تلك التي يفيض الفؤاد لها بكل ما يحمله من أوجاع، يصب زائده بين يديها فتمسح بحنانها دمع الأحداق أو هكذا يتهيأ لي، تنتشلني من دهاليز الإحباط فأقف منتصبة الظهر أعاود السير بإصرار، تلك التي إذا ضاقت بي الرحاب لا لغيرها ينطق اللسان فتنساب العبارات والعبرات تحط أوزار الأثقال وتخف الأحمال أو ربما كما تعتقده نواياي السليمة من لوثة النفاق… هل حقا هي كما ظننتها من سنين خلت؟ هل هي فعلا تلك التي جعلتها ظلي أبثها الأشجان والأفراح، أشاركها المر والحلو؟ ما تخليت عنها يوما… ما هاجستني الشياطين قط باحتمال تغير الإنسان، ما فكرت قطعا أن الغدر قد يأتي من أقرب الناس إليك… ها أنا أجلس في هذا الركن القصي من شرفتي، أرمي بصري إلى أبعد مكان هناك حيث تلوح لي سكناها، هناك حيث كنت أتوجه بسرعة البرق، لأراها… لأحدثها… لأستأنس بالاطمئنان بوجودها… بنصحها… بدعمها… إنها خزان الطاقة الذي يمدني صبرا لأتحمل أكثر… وهي الفرح والبهجة حين تباغتني السعادة وتوهمني أنها قادمة… كيف جعلتها أختا وصديقة وجعلتني الغريبة والعدوة… أيمكن أن تنقلب صداقة عمر لعداوة تنهيه في لمحة من بصر، كأن الذي كان ما كان، أو كأن الذي كان كان وهما أو نفاقا… ها أنا في هذا الركن القصي من شرفتي أرى في صفحات الأفق أن البشر أفاق… وأن جسوره لتحقيق مبتغاه جثث إخوة بلا أدنى ذرة ضمير أو إحساس… بصمت أجلس في هذه الزاوية المظلمة أهامس النجوم الساخرة مني، إنها شزرا تنظر إلي، تشير بإبهامها في اتجاهي: اُنظروا لتلك الغبية لم تتعلم شيئا من الحياة، قد شارفت على المنتهى وما فقهت من دروسها بعد ما يزودها زادا لتركب الصعاب وتدوس الأشواك تحت حذاء الإهمال والنسيان، لم تتعود بعد على أن الطريق ينطوي من تحت الأقدام إلى حيث الهدف دون الالتفات إلى الوراء… ها هي منكفئة على وجهها تحاول فهم عجلة السيرورة… بلا جدوى تفكر وفي اللاجدوى تحرق ما تبقى منها… مرآة في الزاوية الأخرى، المقابلة لي، هي أيضا بازدراء ترسل نظراتها، تعكسني مشوهة الملامح، متعددة الظلال، منكسرة الأطياف، ندب توشم محياي، واحدة تفصلني عن جسدي فأبدو مقطوعة الرأس، ورأس منفصل يتحرك بكامل إرادته، يرى، يسمع، يتكلم، يشم، رأس يحلق بعيدا عن ثقل جذعه المتكوم تحت أطنان الجراح، رأس انعتق منه وطار بخفة يجوب شظايا المرايا، التي استقبلته بآلاف الندوب، المرايا أكبر من مجرد انعكاس، فهي حين تتشظى تشرِّح كل جزء منك تشريحا، فتكبر الرؤيا لتقتحم خلاياك، تنكأ ذاك الصديد المحموم في غياهب سدم العظام المتآكلة من حمى الوجع، ها أنا أتجاسر عليك يا عيني المتكورة في محاجر رأس مخلوع عن وطنه، ولازلت لا أصدق ما أحدثه صدّها العنيف وضرباتها البتارة، غموس تغرقني نزفا ونزيفا… أغرق دون أمل للنجاة. قد أتجاوز محنتي ولكن لا أظنني سأعود كما كنت تلك البلهاء.