صدر حديثًا عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع، رواية جديدة بعنوان "وداعًا نيومينسو" للكاتبة الكبير "فاطمة المرسي" فاطمة المرسي حاصلة على دبلوما عليا في رياض الاطفال من الولاياتالمتحدةالامريكية، كانت بدايتها مع الشعر في الصف الرابع الابتدائي، وأول قصيدة كتبتها للرئيس الراحل جمال عبد الناصر. هاجرت الى الولاياتالمتحدةالامريكية في بداية عام 1980، نشرت لها أعمال في عدد من الصحف الخليجية، حصلت على وسام الثقافة العربية من منظمة الطلبة العرب في امريكا وكندا في اغسطس عام 1982، لها ثلاث دواوين قبل الثورة كتب معظمها في الولاياتالمتحدة اثنين بالعامية المصرية والثالث بالعربية الفصحى. حصلت على جائزة افضل ديوان شعر عاميه بمعرض القاهره الدولى للكتاب 2014 قراءة في رواية وداعا نيومينسو لو كان للتمرد إسما آخر فلن يكون أفضل من (إيريك) الذي يعمل طبيبا نفسيا ناجحا ويمتلك عيادة مشهورة في مدينة نيويورك، يتردد عليها المشاهير من مدينته بالإضافة الى زبائنه من كل أنحاء الولاياتالمتحدة، وأحيانا من أماكن مختلفة من العالم، وذلك نظرا لشهرته الواسعة وذكائه الحاد وخلقه الدمث ووسامته التي تبعث على التفاؤل وتساعد أيضا على التعجيل بشفاء الكثير من الحالات التي تتردد عليه، وخاصة من النساء . لكن إيريك كان متمردا على كل ما يحيط به، مما جعل منه شخصا غير عاديا. فهو متمرد على إسمه لأنه لم يختاره، متمرد على ملابسه لأنها تقيد حريته، متمرد على البيت لأن جدرانه تحدد خطواته وسقفه يمنعه من رؤية الفضاء الخارجي، متمرد على الهاتف لأنه يرن دون موافقة مسبقة منه، متمرد على التلفاز لأنه يفرض عليه أفكار الآخرين وسخافاتهم، متمرد على الطعام لأن الطهاة فرضوا عليه مذاقه ومحتواه، متمرد على سيارته لأنه ملتزم بربط الحزام واتباع اشارات المرور. وذلك كله على سبيل المثال وليس الحصر، لأن التمرد في حياة دكتور إيريك لا ينتهي عند حد ولا يتصوره أحد . تمخضت لوثة التمرد التي أصيب بها ذلك الطبيب المشهور عن ولادة فكرة سيطرت عليه بقوة قد تمكنه من خلق عالم خاص يشكله بطريقته دون تدخل أو وصاية. وما كان منه إلَّا أن إستقل سيارته من الولاياتالمتحدة الى المكسيك بحثا عن فتاة لا تتكلم الإنجليزية ولديها الإستعداد التام لتقبل فكرته. وقد استعان على ذلك بمترجم مغمور دفع له مالا كثيرا كي يحافظ على سرية تلك المهمة الى الأبد. وقبل أن ينتهي المترجم من عمله، طلب منه دكتور إيريك والذي اختار لنفسه إسم إيلاروف، أن يسأل الفتاة إن كانت ترغب في إختيار إسم جديد لها بدلا عن ذلك الذي فُرض عليها، فاختارت وهي مبهورة بالفكرة إسم (شيروديت) بدلا عن إسمها الأصلي وهو (شيلا) وافقت شيروديت على كل مقترحات إيلاروف، وإنطلقا معا متوجهان الى الغابات ليحيا حياة جديدة تبدأ من ورقة التوت. وعند أطراف المدينة خلعا ملابسهما تماما تاركين خلفهما كل شيء، ثم توغلا في الغابات المتاخمة للحدود الأمريكية سيراً على الأقدام. لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، لكن إصرار إيلاروف وشحنة التمرد التي تتغلغل في خلاياه، جعلته ينسى تماما أنه قد ترك خلفه مدنا جميلة وحضارة حديثة وناطحات سحب وحسناوات ومطاعم راقية ومراقص تعج بالموسيقى والصخب، وحياة مرفهة وسهلة، غير التي قرر أن يحياها بعيدا عن كل ذلك، بالإضافة الى زوجة تحبه بكل ماتملك من مشاعر وقد هيأت له كل أسباب النجاح والشهرة، ولم يمنحها طوال حياتها معه إلا الشعور بالضجر من كل شيء حتى حبها له، والذي كان يصفه دائما بالقيد الذي يخنق روحه التواقة الى التحرر. لذا فان السيدة نيكول لم تتعجب من إختفاء زوجها، ولم تهتم بأمر إبلاغ الشرطة على الفور. ولأنها تعمل محامية في مكتبها الذي تملكه في ( منهاتن)، فقد قامت برفع دعوى لتطليق نفسها من الطبيب النفسي المشهور ليقينها بأنه لن يعود . سنوات مرت على إيلاروف وشيروديت بالمكان الذي اتفقا على أن يكون مقرا لعالمهما الجديد، خلقا خلالها لغة جديدة نتجت عن مزيج من الانجليزية والإسبانية. لم يمر وقتا طويلا حتى تعلما الصيد والإحتطاب وإشعال النيران بواسطة الصخور وشواء مايقومون بصيده وتجفيف اللحم الزائد عن حاجتهما وإستخلاص كل ماهو ضروري لإستمرار الحياة من الطبيعة المحيطة دون ضجر أو رجوع الى الماضي. والغريب، أنهما قد قررا معا أن لا يبنيا بيتا أو كوخا أو ما شابه ذلك حتى لا يداهمهما الملل مرة أخرى. وكان لابد من التناسل لإكتمال عناصر الإستمرار للعالم الجديد، فولدت شيروديت سبعة من الصبيان ولم ترزق بنتا واحدة. الأمر الذي أزعج إيلاروف وأشعره بالخطر الذي قد يهدد عالمه بالفناء. ولم يجد لمشكلته حلا غير الإستمرار في الإنجاب الي أن وصل العدد الى إثنى عشر صبيا. وعندها فقد الأمل وفقدت (شيروديت) أيضا القدرة على الإنجاب. إستسلم إيلاروف لما قد تفرضه عليه الطبيعة من أحكام. وعندها فقط تسرب الى قلبه أول نقطة من تمرد. كان إيلاروف يمنح أولاده أرقاما حسب ترتيب ولادتهم الى أن يصبحوا قادرين على إختيار أسمائهم بأنفسهم . كبرالأولاد وبدأوا يتعاملون مع الطبيعة بكل معطياتها إلا أنهم كانوا يستغربون عدم وجود كائن آخر بينهم يشبه أمهم في التكوين الجسماني وبدأ كل منهم يفتش عن الجديد في الوجود، وعن كيفية خلق المستحيل من الممكن. فلا يمكن أن تستمر الحياة على نسق واحد الى الأبد. فبدأ أحدهم وكان يحب الطعام في إختراع طرق أخرى غير الشواء، وبدأ آخر في اختراع وسيلة يتواصل بها مع أخوته أثناء تفرقهم في الغابة، وفكر أحدهم في الإستفادة من تغيُّر حجم القمر في حساب عدد الأيام، وإيجاد أسماء لها وكأنهم قد قرروا التمرد وفرض قوانينهم . قرر الإبن الرابع والذي إختار لنفسه إسم (توجا) وهو المهتم بالفلك، التركيز أكثر في أبحاثه، وإختار لذلك أعلى قمة جبل يحيط بالمكان، ليتخذ منها مقرا لتأملاته ومراقبة السماء بما فيها من متغيرات، ويدونها على صخرة كبيرة منبسطة برموز ورسومات يفهمها هو وحده. الى أن رأى ذات يوم كائنا غريبا يمر في السماء ويصدر صوتا لم يسمعه من قبل، والذي و يختلف كثيرا عن الطيور بكل أشكالها المعروفة لديه. فقال في نفسه: لابد من التواصل معه والتعرف عليه عن قرب. وبعد تفكير طويل، جمع توجا حطبا كثيرا وكدسه على قمة الجبل استعدادا لاشعاله وقت مرور ذلك الكائن مرة أخرى. لم يستطع إيلاروف أن يتجاهل تصرفات أبنائه ومحاولاتهم التمرد على الطبيعة وتطويعها وفرْض قوانينهم وسبل البحث والتجريب التي لا تتوقف، راجعا بفكره الى ماوصل اليه عالمه الذي جاء منه، والذي تمرد هو عليه في الماضي، وكيف كانت البدايات وتاريخ التطور الإنساني كما درسه في الجامعة. أحزنه ذلك كثيرا لإستشعاره باقتراب بداية النهاية لتجربته الجريئة. وقام بطرد شبح الحزن والإستسلام بعيداً. إذ لابد وأن تنجح التجربة كي يثبت فعلياً لنفسه أن الإنسان ليس مضطرا للخضوع لأحكام وقوانين إنسان مثله. وبينما كان سارحا في تقييم تصرفات أولاده ذات ليلة، اقتربت شيلا منه وكان مستلقيا على الأرض وساندا رأسه الى صخرته المفضلة ناظرا في سكون الى السماء وكأنه يستشير النجوم في أمر يشغله. وضعت شيلا رأسها على ذراعه هامسة في أذنه باللغة الإنجليزية: كم أشتاق الآن لأبي وأمي , وخزانة ثيابي .. وخاصة ثوبي الأسود الشفاف الذي قابلتك فيه أول مرة، وكم أشتاق لأن أعزف مقطوعة (ضوء القمر) لبيتهوفن على البيانو الذي أهداه لي أبي بمناسبة تخرجي من الجامعة بتفوق، وكم أشتاق… وقبل أن تسترسل أكثر في سرد قائمة اشتياقاتها، إنتفض إيريك من مكانه راميا رأسها من فوق ذراعه حتى كاد أن يفصلها عن جسدها، وزأر في وجهها كأنه في صراع مع أحد الأسود قائلا بالإنجليزية: هل تتحدثين الإنجليزية؟ كم أنت مخادعة وذاك المترجم الحقير كاذب .. كلاكما خدعني ولن أغفر لك ذلك أبدا. يا الهي لماذا يتدخل البشر دائما لإفساد حياتي؟ شعرت شيلا بالذنب الفظيع واعتذرت له كثيرا، وبررت فعلتها بأنها آمنت بفكرته جدا وأرادت أن تكون جزءا منها والدليل على ذلك أنها لم تتكلم الإنجليزية طوال كل تلك السنوات التي عاشتها معه. لم يكن بمقدور إيريك، ذلك الإنسان المهذب إلا أن يسامحها، فتقرب منها وضمها إليه قائلا: دعينا نستمتع بحياتنا التي إخترناها بمحض إرادتنا يا حبيبتي، ولا داعي لأن يكون الماضي جزءا منها لأنه غير موجود أصلا. قطع حوارهما صياح إبنهما توجا الذي كان يود إخبارهما بأنه صاعد الى الجبل لاستكمال أبحاثه التي ظل عاكفا عليها الى أن لمح ذلك الكائن المتحرك مرة أخرى من بعيد. فأسرع باشعال النار وإصدار أصوات مختلفة والقيام بحركات بهلوانية حتى إنتبه طاقم الطائرة الهيلوكبتر لوجوده، وقاموا بالتقاط بعض الصور للمكان. فغيرت الطائرة مسارها على الفور، وحاولت الإقتراب منه شيئا فشيئا حتى كاد الهواء الصادر عنها يرديه من فوق الجبل، لكن شغفه بالإكتشافات وإعتقاده أن هذا الكائن الذي يرتفع عاليا قد يساعده في أبحاثه، وربما يأخذه قريبا من الشمس، جعله يقاوم الموت ويدق ساقيه في الصخر كالأوتاد . أرسل طاقم الطائرة حبال التسلق لتوجا , وأعطاه تعليمات بكيفية الصعود وإستمر في توجيهه الى أن نجح في ذلك . لم يكن التفاهم بينه وبينهم أمرا سهلا , إذ أنهم يتكلمون الإنجليزية والإسبانية وتوجا يتكلم خليطا غريبا من اللغتين لا ينفع معه أى مترجم في العالم . ولكنه بمهارة إستطاع أن يخبرهم بوجود آخرين غيره في نفس المكان مستخدما الرسم والإشارة وبعض الكلمات التي استطاعوا أن يفكوا شفرتها . لم يُقلق غياب توجا أحدا من أسرته، فهم يدركون مدى شغفه بالسماء التي يتأملها من أعلى قمة الجبل وقد يستغرق منه ذلك أياما دون أن يفكر في النزول. لا وصف يليق بانبهار توجا بما رأى، وكأن الجن قد إختطفه الى عالم مسحور، ولم يكن بمقدور عقله البدائي أن يستوعبه، لكن ذلك العالم المسحور لم ينسيه أسرته ولا رغبته في العودة إليهم. ولما كانت أسرة توجا تمثل للعالم المتحضر إكتشافا مُهما، فقد رافقته فرقة إنقاذ مجهزة على مستوى عال من الخبرة، وعادوا معه الى نفس المكان الذي حملوه منه. إستقرت الطائرة على مكان منبسط من الجبل، ثم ساروا على الأقدام حتى قمة توجا الذي إقتادهم منها نزولا الى حيث توجد عائلته. لم يصدق إيلاروف ما رأى, ربما لأنه لم يتوقعه يوما، ولكنه رفض أن يحدق ثانية في عين العاصفة بعد أن إتسع الفتق على الراتق، وكان عليه أن يتعامل مع الواقع دون تمرد هذه المرة. إقترب من طقم الإنقاذ في شجاعة المحارب وثقة تقترب من حافة الغرور، ثم رحب بهم وقدم نفسه بلسان إنجليزي فصيح، مما أصاب الجميع بالدهشة: أهلا بكم .. أنا دكتور إيريك فريدمان، طبيب نفسي من نيويورك، وهذه زوجتي شيلا من المكسيك وهي تتحدث الأسبانية والإنجليزية أيضا تجيد الصيد والإحتطاب والشواء, وبارعة جدا في إعداد عصير (الكابيتورا) وهؤلاء بعض من أولادي الإثنى عشر, والبعض الآخر قد إنصرفوا إلى شئونهم في الغابة، وهم جميعا يتحدثون (الأنجلوأسبانية) وهي لغة جديدة تعتبر مزيجا من الإنجليزية والإسبانية، لكن الكلمات الإسبانية هي الغالبة عليها كون زوجتي العزيزة تتميز بالثرثرة. فهي تقوم هنا مقام الراديو والتلفاز والسينما والمسرح، وهي أيضا حكاءة من الطراز الأول ومقلدة بارعة، وتتمتع بقدرة عالية على الإضحاك، لكنها في الآونة الأخيرة أصبحت تجيد تقليد الحيوانات بحكم البيئة، ثم أعقب كلامه بابتسامة مهذبة . بادر الإبن المخترع لجهاز التواصل بارسال إشارات إلى إخوته ليحضروا فورا لأمرهام. وعندما حضر الجميع، إسترسل توجا في سرد حكاياته عن ملابسه الجديدة، وعن الشيء الذي يقص الشعر في لمح البصر، وعن ظهور الشمس في الليل، ونزول المطر ساخنا أو باردا في أى وقت، وكان أكثر ما أثار لوثة الإنبهار التي أصابت توجا هو ذلك الكائن الذي حط فوق الجبل وحمله قريبا من النجوم ثم ألقى به وسط عالم مسحور في لمح البصر. والكثير .. الكثير مما رأى وسمع، وأنه عازم على الرجوع إلى ذلك العالم لا محالة. لم يُظهر دكتور إيريك أى إعتراض على فكرة الرجوع التي طرحها توجا التواق بشراهة إلى العلم والمعرفة، وأيضا لإدراكه الفطري أن فكرة اللاعودة لم تعد مجدية بعد أن إكتشف توجا بفضل التمرد، ما أخفاه هو لسنوات طويلة وبسبب التمرد أيضا. كان لوصول دكتور إيريك وعائلته إلى مدينته نيويورك ضجة إعلامية هائلة، والجميع يتنافس على أن يستأثر لجريدته أو لمحطته التلفزيونية بالسبق الصحفي عن تلك التجربة الإنسانية الغريبة، وخاصة عندما يقوم بها طبيب مشهور يتمتع بكل أسباب الرفاهية في أكثر مجتمعات العالم علما وتقدما. لكن دكتور إيريك أو (إيلاروف كما إختار لنفسه) لم يكن راغبا في الحديث عن تجربته، وإختصر كل تصريحاته في جملة مفادها: "أن الحياة بكل مافيها , وما سوف يكون فيها , ستبقى دائما وليدة التمرد"