كانت وسيلة النقل والتنقل المتاحة في النوبة الغريقة الحمير وكانت لنا أوامر واضحة وصريحة من ولاة أمورنا بأن نساعد الذين ليس لديهم أولاد ذكور في أعمال الزراعة والنقل وكنا نقوم بهذا بطيب نفس لذا كنا نشعر أن القرية كلها أسرة واحدة وهكذا كان يتم بناء الرجال . وبالمناسبة خالي رحمه الله كان عنده حمارة بيضاء اللون ولما رزقت بجحش أبيض اللون ايضا وهبني خالي إياه وكنت اهتم به للغاية من حيث مأكله ومشربه بل وتنظيفه وكلما كبر ازددت تعلقا به وكذلك هو ولما اشتد عوده عهدنا لمتخصص لتسيسه حتي استطيع ركوبه إلا أنه أبي فقد كان حمارا شقيا كعادة الذكور من جميع الأجناس فتعهدت أنا به حتي تمكنت من ذلك وقد كان هذا الحمار في قمة الذكاء حيث كان يرفض أن يمتطيه أحدا غيري وكان إذا استعاره احد من أقاربي كان يتجه نحو غابة النخيل ويدخل بسرعة عبر نخلتين ملتصقتين من المنتصف بحيث يصطدم راكبه بهما كي يجبره علي النزول وإلا اصطدم بالنخل . واذكر أن الترعة القريبة من البيوت حينما كانت تعلوها المياه بعد غلق أبواب الخزان كنا نفقد الكوبري الذي كان مصنوع من جذوع النخيل ويبقي مكانه خاليا حتي يتم عمل كوبري اخر . وذات مرة أردت وبعد انحسار المياه ان اعبر مكان الكوبري الخالي من جذوع النخل الذي كان ضيقا بعض الشئ بالحمار كما يفعل الفرسان الذين يقومون بالقفز فقفز الحمار ولكنه تركني في الهواء ونزلت علي ذراعي اليمين حيث حدث خلع عند المعصم قمت بتجبيره بجبيرة بدائية تكفل بعملها أحدهم كان يعمل لدينا في ذلك الوقت بالبناء وكان اسمه (اوشي ليمونا) حيث ضغط علي معصمي وانا اتألم ووضعه في مكانه الطبيعي ثم قطع جريد من النخل وجعله شرائح صغيرة وقام بتوزيعها حول المعصم وقام بربطها جيدا وبعد أيام قمت بفك تلك الجبيرة البدائية وذهب الألم واستقر الكف في مكانه .. ولايزال هناك اثر لمكان الجبيرة تذكرني بذلك اليوم المؤلم.. ثم ماتت الحمارة الام قبل الهجرة بشهور اشتري خالي حمارة أخري سوداء وبعدها بشهور مات حماري الشاب يبدو أنه حزن علي فراق أمه لأنه كان فتيا ولم يكن مريضا .. فجلست ابكي والدموع تنهمر مني بغزارة وجلس بجواري خالي وجدتي يربتون علي كتفي وعيناهما ممتلئتان بالدموع .. أتذكر تلك الواقعة وكيف كانت العلاقة بين الانسان والحيوان بل بين الإنسان والجماد تلك المشاعر المفقودة في المدن ..فلا شك أن التربية بجوار النهر والمزارع ومع من تقوم بتربيتهم من المواشي وحتي كلاب الحراسة يفجر في الاإسان ما هو مخلوق به من المشاعر وينفجر من داخله ينابيع الرحمة والحنان اقول هذا ونحن نقتل من شبابنا من يقول رأيه او من يقوم بحماية امن وطنه او من يذهب لتشجيع فريقه وللأسف يكبرون ويهللون وكأنهم يذبحون الاضاحي … ضاعت الأحاسيس وفقدت المشاعر ونحجرت الدموع في المآقي . ماتت الحمارة البيضاء في النوبة الغريقة وهاجرت الحمارةةالسوداء الي النوبة المستنسخة…..