( 10) – " هكذا يفعل بكم أبي السّماوي إن كان كل واحد منكم لا يغفر لأخيه من كلّ قلبه" ( متى 35:18) وحده الرّبّ يغفر ويسامح بكلّ ما تحمل هاتين الكلمتين من معنى. فالغفران والمسامحة ينبعان من فيض حبّ إلهيّ عظيم يمحي فعل الشّرّ الّذي نقدم عليه أمامه. أمّا نحن البشر، فلا نسامح ولا نعرف معنى المسامحة على مثال الرّبّ، وليس لنا القدرة على الغفران الكامل. وحتّى لو سامحنا يظلّ في عمق أعماقنا جرح وألم يوقظان في داخلنا رغبة المبادرة بالمثل. وكي نتمكّن من فعل المسامحة، لا بدّ لنا أن نتخلّى عن قلوبنا ونبدّلها بقلب يسوع المسيح. كما علينا أن نطلب هذه النّعمة، أي نعمة مسامحة الآخر، بدموع غزيرة وتوسّلات نابعة من عمقنا الإنسانيّ. وإذ نقول أنّ الرّبّ يغفر ويسامح، فهذا لا يعني الاستهزاء به، والسّلوك بما لا يرقى بإنسانيّتنا المخلوقة على صورته كمثاله. فالرّبّ لا يسامح كدليل على الاستهتار أو ليبقي أبناءه في شرّهم، وإنّما يسامح ليخلق فيهم من جديد إنساناً يسعى دوماً لتحقيق الجمال الإنسانيّ. كما أنّ الرّبّ لا يفرض نفسه على أحد، ويحترم بالكامل حرّيّة الإنسان، وبنتظر دوماً خطوة نحوه حتّى يفيض حبّه ويصبح أقرب من الّذات. الرّبّ يسامح قبل أن نطلب منه الغفران، " فحيث تكثر الخطيئة تفيض النّعمة" ( رومة 20:5)، وأمّا طلبنا للغفران، فما هو إلّا تفاعل مع الغفران الإلهي واعتراف بمدى جسارتنا على فعل الشّرّ أمام الله. إلّا أنّ الله أبّ، ويحبّ جميع أبنائه ويريد منهم أن يتعاملوا مع بعضهم البعض كما يتعامل هو معهم. إذا انطلقنا من الواقع، سنرى أنّ الأم والأب لا يمكنهما محبّة من لا يحبّ أبناءهم. وبالتّالي وجب علينا أن نحبّ الإخوة كيما نُثبت لأبينا السّماوي أنّنا نحبّه. نصلّي في الصّلاة الرّبّيّة: " اغفر لنا ذنوبنا كما نحن غفرنا"، بيد أنّ غفراناً يبقى ناقصاً، وغالباً سطحيّاً ولا ينبع من عمق محبّتنا. ولعلّه ينبغي أن نقول: " غفرنا فاغفر لنا"، إذا أردنا حقيقةً أن يغفر لنا الرّبّ بحسب رحمته لا بحسب طرقنا في المسامحة. وكما أنّ الرّبّ يمنحنا الكثير من الفرص لكي نتبدّل ونعود عن أخطائنا، كذلك علينا أن نمنح الآخر فرصة ليفهم خطأه ويعود عنه. (11) – " كُنتَ أمينًا على القليلِ، فسَأُقيمُكَ على الكَثيرِ: اَدخُلْ نَعيمَ سيِّدِكَ." ( متى 21:25) الوزنات هي كلّ ما هو بين أيدينا من عطايا الرّبّ، ولقد هبنا الله الكثير، ووثق بنا وسلّمنا ما هو له. أن يضع الله ملكه في خدمتنا فهذا يعني أنّه يؤمن بقدراتنا على إظهار مجده في هذا الملك، ويثق بأنّنا نستطيع المتاجرة به وجعله أضعافاً. وزناتنا هي صحّتنا، ومالنا، وأولادنا، وعلمنا، وعقلنا، وعاطفتنا… وهبنا الرّبّ إيّاها ووثق بنا وعلّق علينا آمالاً كثيرة لنتاجر بها، فمن وثق منّا بالله أحسن المتاجرة، ومن لم يثق، حفر في الأرض ودفنها. أوّل وزنة مُنحت لنا هي ذاتنا، أي كياننا الإنسانيّ المقدّس في عينيّ الرّبّ. وبالتّالي تستحقّ هذه الذّات الاهتمام والرّعاية على كلّ المستويات، الفكريّة والنّفسيّة والرّوحيّة. وينبع هذا الاهتمام من محبّة الذّات التّي هي لله. وليس المقصود محبّة الذّات من باب الأنانيّة والانطوائيّة، بل المقصود محبّة الإنسان الّذي كان في فكر الله ثمّ خُلق على صورته كمثاله. هذه المحبّة للذّات ضروريّة، وعنها تنتج محبّة الآخر. فكيف يمكن للإنسان أن يحبّ آخراً ما لم يكن محبّاً لذاته. ولو تأمّلنا قول الرّبّ: " أحبب قريبك حبّك لنفسك"، فهمنا كيفيّة محبّة الآخر انطلاقاً من محبّة ذواتنا. بمعنى آخر، يصبح الآخر متساوٍ معنا، فنحبّه ونهتمّ به كما بأنفسنا. من ناحية أخرى، محبّة الذّات تشمل الاهتمام بالعقل وتطويره وتقدّمه وانفتاحه على الحكمة الإلهيّة. كما تفترض مصالحة مع الذّات وصداقة معها، تبيّن لها حسناتها وسيّئاتها، فترفع الأولى وتحاول التّخلّي عن الثّانية. ولمّا اتّزن العقل وتنقّت النّفس من شوائبها، تحرّرت الرّوح من كلّ اضطراب وقلق، وتفاعلت أكثر فأكثر مع الحبّ الإلهي، واقتربت من بلوغ ملء قامة المسيح. نحن الأغصان في الكرمة، يسوع المسيح، ننمّي عطايا الله، نصقلها لنحقّق صورة الله فينا وفي الجماعة، وإلّا نكون قد أقصينا أنفسنا عن هذه الجماعة. لقد اؤتمنّا على القليل، وينبغي استحقاق ثقة السّيّد حتّى نستحقّ دخول نعيمه.