كتب الناقد ربيع مفتاح: "قراءة في رواية "السلفي" للكاتب . د.عمار علي حسن " هل يمكن أن تتنازل مصر عن حضارتها مقابل أية أيدلوجية أحادية؟ هذا هو السؤال الأهم الذي تطرحه رواية "السلفي" من خلال 21 عتبة هي مكونات الرواية التي تصل إلي 300 صفحة من القطع المتوسط. نعم مصر حالة متفردة علي مستوي التاريخ الإنساني والجغرافيا الطبيعية والبشرية والسياسية. مفصل تاريخي وجغرافي لن يتكرر وليس له مثيل. ولهذا فهي عصية علي التنميط أو التحويل إلى نموذج أحادي. مصر متعددة وستظل هكذا. يجيء هذا السؤال المحوري علي لسان الراوي الحاضر. أنت سألتني لماذا أنا هكذا؟ وأنا أجبتك بسؤال كيف أصبحت أنت هكذا في غفلة مني ؟ ولم أدرك ما حجم خطيئتي وفجيعتي إلا حين صرخت في وجهي: أنت كافر ووصمت أمك بأنها كافرة. أظن أن المسافة بين الابن الذي ضل طريقه والأب الذي يتهم في عقيدته هي المسافة بين مصر الحضارة ومصر التي يريدونها إمارة صحراوية تأوي المتطرفين. استطاع الكاتب توظيف الفضاء الزماني والمكاني اللامحدود من خلال سرد مقطر اللفظ على قدر المعنى دون ترهل أو اختزال مخل "لم تكن البيوت هكذا قبل ان يولد أبوك، كانت من الطين السود مثل لحيتك الكثة ومع ميلادك أنت يا ولدي. خلخلها الفلاحون الذين ترعي في أكبادهم المهترئة وحوش كاسرة لا أحد يري أنيابها فأسقطوها فوق تعرجات الشوارع القديمة وأقاموا مكانها غابات الأسمنت المتجهمة التي يتعانق فيها الصهد والصقيع وتكاد تحجب عن أرواحنا شمس العصر الأليفة. فى هذه البداية يتبلور مفهوم الرواية وتكشف عن تقنية الروائي في تناول هذا الموضوع. نحن أمام أب يخاطب ابنه. نتعرف علي الابن من خلال ما يطرحه الأب. كما أن غياب شخصية الابن تقنية مقصودة منذ البداية. الأب يستحضر الابن متى شاء وأينما شاء. هوية مصر يمثلها الأب وكل النماذج المشرقة في الرواية أما هوية الإسلام السياسي يمثلها الإبن السلفي وكل النماذج التي أخذت طريقه. وإذا كانت الرواية هي الشكل الأدبي الوحيد القادر علي استكناه الذات والواقع واستقراء المجتمع والتاريخ بصدق موضوعي موثق وتخيل فني . فإن الكاتب قد مزج الواقع والتاريخ بالخيال وقد ساعده على ذلك قدرته علي رسم الشخصيات بدقة داخل بناء روائي متماسك . نحن إذن أمام وثيقة أدبية سياسية تاريخية والحس الروائي هو المهيمن علي الأحداث والشخصيات من خلال سرد بلغة شفيفة وسارد حاضر مشارك في الأحداث. ليست القضية الأساسية هي الرسالة التي بعث بها الإبن الغائب للأب والتي قلبت العالم رأسا علي عقب لكنها تكمن فى هذا التوحد والتماهي بين الأب وشخصية مصر. كلاهما انكسر لكنه لم يهزم من جراء هذا الفيروس الذي أصيبت به مصر منذ منتصف السبعينات إلي يومنا هذا. وقد وضع عمار يده في عش الدبابير منذ البداية عندما صرح بالعنوان "السلفي". هذه التيارات التى تدعى الإسلام جاءت من الصحراء كالجراد لتأكل كل شيء في مصر. عبر آليات سرد متنوعة يأخذنا الراوي إلى نبوءة الشيخة زينب "سيدة مجذوبة" التي اختارت بيت فهمي أفندي الأم والجدة وقالت لهما : عندي نبوءة لإبنكم وابن ابنكم وأنه لن يكون سعيدا بعلو نجمه بل سوف تحدث له مشاكل وبالفعل تتحقق النبوءة. المكان وهو مسرح الأحداث يتمثل في القاهرة حيث كان يعمل الأب ويعيش وكفر صفط اللبن التابع للمنيا في صعيد مصر وعلاقة هذا المكان بالإسلام السياسي المتشدد وتكتمل الواحد والعشرون عتبة بين هذين المكانين. والأماكن الأخرى مثل أفغانستان وهي جبال شهيقة وصحاري وتطرف شديد في المناخ صيفا وشتاء، صحراء تورا وبورا أو الأرملة السامة يتدربون فيها وفي ليبيا تحت مسمي الجهاد الإسلامي. بالنسبة للتقنية الروائية الخاصة بنبوءة الشيخة زينب وفيما يخص العالم الروحاني فإنه يوجد لدينا ثقافة شعبية في هذا المجال. لقد استجلب الكاتب هذه الشخصية للتدليل علي حدث ما لكن المشكلة هنا في ثبات الموقف الفكري للشخصيات الرئيسية فمن ضمن عوامل جذب الشخصية الروائية التناغم والتطور وأحياناً الانقلابية وهذه الأشياء تؤجج الصراعي الدرامي الروائي كما اعتمد الكاتب في بناء الرواية علي ما يعرف بالتوالد النصي أو توالد الخطابات أي ربط الخطابات ببعضها وقد استوعبت الرواية ذلك. وقد وظف الكاتب ذلك في إبراز شخصية مصر واختلافها ثقافيا وحضاريا عن أي بلد آخر وقد بث الكاتب سمات الشخصية المصرية الأصيلة في شخصية الأب فهمي المحامي المثقف المستنير أو في شخصية من تحدث عنهم ووصفهم المحامي نفسه. وعلي لسان فهمي أفندي أيضا تكون نهاية الرواية بهذه الفقرة: "يأتي الآن صوتك ولا أسد أذنيَّ بل أتركه يدوي. وأسمع صداه يتردد بين جدران الغرفة ثم يسكت فأسمع صوت الصمت هسيساً وطنيناً وأزيزاً بعيداً. أتري أن صوتك راح ينكمش ثم اندس في السرداب إلي جانب خطابك الأول والأخير الذي كفرتني فيه؟ لكن حين يسكت صوتك أري صورتك مرسومة علي الجدران تكاد تضيء العتمة. إنها صورتك أيام الطفولة البريئة وأنت تبتسم ثم لا تلبث أن تزحف عليها لحيتك ... حتى جاءت الشيخة "زينب" ورسمت أمامي عتباتها الإحدى والأربعين " في ظل هذا الأتون الذي يغلي ويفور باتجاهات سياسية متناقضة وتداخلات شتى تأتي رواية السلفي لتقول كلمة شجاعة وجريئة من خلال تقنية روائية محكمة قادرة علي المواجهة وقد تعانق فيها الجمالي مع المعرفي في إطار من التوازن الفني والتميز الروائى