حتى لا نتوه الثورة المصرية... والمهام التاريخية المتعددة في البدء،رفعت الثورة المصرية شعارات تقدمية وانسانية وعصرية بكل معنى الكلمة، كانت بمثابة نبراس يضيء سماء العالم، والهمت كل الشعوب المشتاقة للحرية والخلاص من الاستبداد،كان التضامن والتلاحم داخل ميادين الثورة، يمحوا كل احقاد الماضي المصتنعة بين فئات الشعب الثائرة، وكان الشعار الاساسي (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة انسانية)، يشكل ملخصا عبقريا لنظرية التغيير المطلوبة، فهي ترسم طريق العدالة الاجتماعية بطريقة ديمقراطية، واحترام لكرامة وحقوق الانسان، ولم تكن الثورة المصرية تقل شيء عن اعظم ثورات العالم، بل وافضل منها، ولكن رواسب الماضي القريب والبعيد، كانت بمثابة حائط صد ضد تحقيق اهداف الثورة المصرية على ارض الواقع، ومن هنا اصبح على الثورة المصرية ان تدافع عن اشياء اخرى، كان لمن يرى مشاهد الميادين المتوهجة يظن ان تلك المهام قد ذهبت مع النظام البائد، ولكن الحقيقة انها كانت اقوى من وهج الثورة في تلك اللحظة، وما ان شرعت الثورة في تحقيق شعارها في الواقع، حتى اصطدمت بعدة مهام مؤجلة، اتضح انها لا تقل اهمية عن تحقيق اهداف الثورة الاساسية (العدالة الاجتماعية، والحرية، والاستقلال الوطني)، بل انها مكملة لها ولا يمكن تحقيق احدهم بدون الاخرى، وهي مهام كثيرة ومتشابكة، ويصعب حصرها في مقالنا هذا، لذا سنركز على المهام الاكثر الحاحا وتاثيرا في مسار الثورة المصرية، ويمكن ايجاز تلك المهام في ستة مهام اساسية. اولا:مهمة انجاز قضية التنوير، والتي هي اصلا المهمة الاساسية للطبقة الوسطى التقليدية المنهارة وغير المؤهلة اطلاقا للقيام بها، والتنويرمصطلغ غربي نشأ في القرن الثامن عشر،وهو يعني ان يكون الانسان جريئاَ في اعمال عقله، اي انه لا سلطان على العقل الا العقل نفسه (مقالة لكانت رائد التنوير الغربي في 1784م، بعنوان "ما التنوير")، وان هذا السلطان كفيل بتحرير الانسان من الانغلاق الفكري او المذهبي او الديني او الاثني او الايدولوجي او السياسي او اي شكل من اشكال الانغلاق الفكري، ويمكن تعريفه بانه التفكير بشكل نسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق، وهناك ارتباط وثيق بين التنوير والثقافة والابداع، واذا كانت الثقافة تعرف بانها المجموع المتشابك من المعرفة والفن والايمان والقانون والاخلاق والعرف وجيمع قدرات الانسان الاخرى، من حيث هو عضو في مجمع، وجميع تلك الامور نسبية ومتحركة ومتغيرة حسب الزمن والتاريخ، فان القياس والاحكام والتفسيرات الخاصة بها نسبية ايضاَ، وهنا ياتي دور العقل في التفسير والتاويل في جميع المجالات النسبية، وهذا المنطق يتعارض مع تقديس النسبي، ورفض اعمال العقل،وهو ما يسمى بالسلفية، والسلفية رغم انها تطلق على التيارات الدينية المنغلقة فكريا، الا انها في حقيقتها تخص اي انغلاق فكري، حتى لو كان تقدميا في بدايته، والوجه الثالث للتنوير هو الابداع، اي التفكير المستقبلي بفرض اطروحات مستقبلية وليست حالية، ، فهو بوابة الابداع والخلق والتطوير، مع ملاحظة ان هذا التنوير عملية حضارية شاملة، وترتبط بالتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لكل بلد على حدى، ولجميع المجتمعات البشرية ككل،وهذا يضع تحدي حقيقي على الطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، في المشاركة الحقيقية والفعالة في ضرورة انجازتلك المهمة، التي تعتبر مهمة كبرى في بلد مثل مصر بتركيبها الاجتماعي الحالية، وهذا يتطلب الاستيعاب الجيد للتراث المصري والعربي والعالمي لتطور مفهوم التنوير، ابتداءَ من اسطورة التنوير التاريخي (ابن رشد)، وعلماء التنوير في القرن الثامن عشر في اوربا وما بعده، ودور رواد النهضة في مصر، مثل رفاعة الطهطاوي وعلي عبدالرازق ومحمد عبده وقاسم امين وطه حسين، وكثيرون جدا ساهموا بشكل مبدع وخلاق في صياغة مفهوم التنوير،وقد فتحت الثورة المصرية آفاقا بلا حدود لصياغة مفهوم التنوير المبدع والخلاق، والبعيد عن الاقتباس واحياء شعارات الماضي رغم قيمتهاواهمتيها ، ولكن بربط كل ما هواجتماعي وسياسي واقتصادي وثقافي وفكري وديني في نسق تقدمي، يتفاعل مع اهداف الثورة المصرية العظيمة. ثانياً: مهمة اتمام تحقيق الثورة السياسية الاصلاحية، والتي هي وظيفة الجناح الاكثر تقدما (افتراضياً) داخل الائتلاف الطبقي الحاكم، وهي الراسمالية الوطنية، المنهارة هي الاخرى والعاجزة تماما عن القيام بتلك المهمة، والتي كانت بدورها سببا رئيسيا في صعود الفصيل الاكثر تخلفا ورجعية وظلامية داخل الائتلاف الطبقي الحاكم، وهو تيار التأسلم السياسي بجميع فصائله،واستلام السلطة بعد اندلاع الثورة المصرية في موجتها الاولى في 25 يناير 2011م، بمساعدة المجلس الاعلى للقوات المسلحة وقتها، في اكبر عملية خداع سياسي في تاريخ مصر، مما جعل نتائج التغيير بالسالب، فبدل من التقدم خطوة للامام، تراجعنا خطوات للخلف، حتى تم دحرهم في الموجة الثانيةللثورة المصرية في 30 يونيو 2013م، ويلزم لاتمام تلك المهمة تحقيق الديمقراطية بمفهومها التعددي الليبرالي المتعارف علية في العالم كله، واحترام حقوق الانسان، والفصل التام بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، واحترام الحريات العامة والخاصة لجميع افراد المجتمع، وبناء دولة القانون الحديثة والمدنية، دون لبس او مواربة. ثالثاً: مهمة الارتقاء بوضع الطبقات الكادحة، اي تعظيم المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية، للدرجة التي تجعل الطبقات الكادحة تستطيع ان تنوع من اهماماتها، ومنها العمل الجماعي المشترك، بحيث تخرج من حالة البؤوس المزري، والذي يؤدي الي تحقير الانسان وزيادة دونيته، وهو امر يتعارض من الرغبة في العمل الجماعي المشترك، والسعى لبناء النقابات والاتحادات والروابط المستقلة، الخاصة بالطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وتعظيم دورهم في المشاركة السياسية، والارتقاء بوعيهم السياسي والعام، بحيث يتم الربط بين المطالب الاقتصادية والاجتماعية، والسعي الى الوصول الي السلطة لتحقيق برنامج الثورة، وبناء التحالف او الائتلاف او الجبهة بين التنظيمات السياسية والمجتمعية المعبرة عن تلك الطبقات، بما يعظم من امكانيةالقيام بتلك المهمة الكبرى. رابعاً: مهمة الدفاع عن الدولة القومية النامية ضد دول مركز الراسمالية الغربية، الراغبة في استمرار العلاقات غير المتكافئة، لاستمرار تدفق رؤس الاموال الي دول المركز الراسمالي، لضمان استمراره وتطورة، عن طريق نهب الاسواق الخارجية، وتامين وصول المواد الخام بارخص الاسعار، وذلك باتباع النموزج الاقتصادى الاكثر ملائمة للاوضاع المصرية، وهو نموزج التنمية المستقلة الشاملة، وطرح افكار جديدة لتحقيق هذه المهمة، مثل دمج الصناعات والتابعة للقوات المسلحة، مع ما تبقى من الصناعات التابعة للدولة، لقيادة الصناعة المصرية في القطاعين العام والخاص، للوصول الى بناء قاعدة صناعية مصرية حقيقية ومنتجة، مع التاكيد على المسار الديمقراطي في جميع الاحوال وفي كل المراحل، والبعد عن التكفير الوطني والسياسي كما التكفير الديني، وادراك ان الدفاع عن الدولة القومية والاستقلال الوطني وخاصة في دول الاطراف في المنظومة الراسمالية مهمة جوهرية واساسية لأي تنمية، وليتذكر الجميع ان تلك التحديات كانت ترافق بطل التحرر الوطني جمال عبدالناصر طيلة حياته، ورغم ذلك تعد من اهم الحقب السياسية في تاريخ مصر، بما حققته من انجازات هائلة في شتى المجالات، كما كانت وبالاً علينا في حقب اخرى كثيره اهمها ما عايشناه طيلة الاربعون عاما قبل الثورة المصرية في 25 يناير 2011م. خامساً:مهمة تاسيسالمجتمع المدني، وهو يشير الى الطبيعة المدنية التي تميز الدولة عن المجتمع، وهو يعني مجمل المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية غير الحكومية وغير الارثية، والتي تشكل الروابط الاجتماعية بين الفرد والدولة، ومن مسؤولياته تنظيم الفاعلين الاجتماعيين، من خلال قنوات مؤسسية أهلية تعمل على تمكين الافراد من المشاركة في الحقل العام، وتخلق بينهم آليات تضامنية، وتتميز مؤسساته بالمرونة والدينامية والتعددية والعمل التطوعي والمبادرات الخاصة للافراد والجماعات إضافة الى الإستقلالية، ويهدف المجتمع المدني الى دعم مشاريع وخطط التنمية الشاملة والمستدامة، ورصد الانتهاكات والخروقات التي تعترضها،وإقتراح قوانين وأنظمة ولوائح وتقديمها الى البرلمانات والجهات التشريعية والحكومات،والسعي من أجل بناء مواطنة متساوية وكاملة ودون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو المذهب أو الجنس أو المنحدر الاجتماعي أو غير ذلك، العمل على بناء قدرات الافراد وتنمية مهاراتهم وتدريبهم، ليسهموا فيمجتمعاتهم وفي مؤسساتهم المهنية والنقابية للدفاع عن مصالح منتسبيها وعن مصالح المجتمع ككل،وتشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفعاليات الاجتماعية. سادساً: المهمة الاساسية لها وهي تحقيق العدالة الاجتماعية، عن طريق ثورة اجتماعية شاملة او عدة ثورات سياسية كبيرة وجوهرية، تنجز بها مهامها الواحدة تلو الاخرى، كلا حسب الظروف التاريخية والموضوعية والذاتية لكل مرحلة، والاجتهاد المسبق لوضع التصورات الايدولوجية والمرحلية لتحقيق تلك العدالة الاجتماعية، والتحديد الجيد للطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في ذلك، وخلق الاطر السياسية والمجتمعية التي تعتبر مجال عمل مشترك لهم، واجادة عمل التحالفات والائتلافات والجبهات السياسية بشكل ديمقراطي في تشكيلها وفي الممارسة السياسية، ووضع معايير واسس وضوابط كل حالة من تلك الحالات حتي لا تتسم بالعشوائية التي تحرف اي نضال، وتضيع ثمرة اي اجتهاد. ولان المجتمع المصري لا يعتبر مجتمعا راسماليا ناضجا، فان الطبقة العاملة وهي اهم الطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، ليست بالحجم او النضج او التنظيم الذي يسمح لها بتحقيق تلك المهام لوحدها، وبسبب وجود طبقة اجتماعية تتشابه معها في اغلب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتهميش السياسي ولكنها تفتقد الى ميزة التجمع في اماكن كبيرة مشتركة، واقصد طبقة الفلاحين (صغار المزارعين)، وجب ان تكون هاتان الطبقتان متحالفتان ومتضامنتان،يعوض كلا منهما النقص في الاخر، حيث تعوض الطبقة العاملة تشتت طبقة الفلاحين، وذلك بتمركز الطبقة العاملة في اماكن عمل مشتركة، وتعوض طبقة الفلاحين قلة عدد وانتشار الطبقة العاملة، وذلك لضخامة عدد وانتشار طبقة الفلاحين على امتداد البلاد، وذلك ليكوناالنواة الاساسية، وقلب التحالف الطبقي،مع كل الطبقات والفئات صاحبة المصلحة في التغيير، وبقيادتهما الديمقراطية. لذا وجب على الطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، العمل على تحقيق جميع تلك المهام بشكل متزامن مع السعي لتحقيق المهام الاساسية وهي (العدالة الاجتماعية، والحرية، والاستقلال الوطنى)، والا يقتصر دورها في التشجيع او الدعم فقط، بل بالانخراط الكامل في الاطر السياسية والمجتمعية المعنية بتحقيق تلك المهام، سواء كانت في المعارضة، او مشاركة في السلطة، او مسيطرة على السلطة السياسية، والتعلم من التجارب التي افرزتها الثورة المصرية، حتى لا يتم الانتكاسة على كل مجهود او نضال من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وادراك ان هذه المهام المؤجلة يمكن ان تكون في اي وقت او زمن حاضنة حقيقية لاعداء الثورة، وايضا للثورة المضادة، وهذا يتطلب كثيرا من العمل والابداع في تنفيذ مهام متعددة ومتنوعة، بشكل متزامن، وواعي بعيدا عن العشوائية والتعامل بمطق رد الفعل وليس حسب فعل مخطط واستراتيجية واضحة، والبعد عن الشطط الفكري والتنظيمي، سواء يمينا او يسارا. بقلم : محمد السني