التيار الاشتراكي المصري لم يعد ممكنا الحديث عن أن قوي اليسار المصري تمثل الطبقة الوسطي تمثيلا مطلقا ، لأن تلك الطبقة قد أنجزت ثورتها وأصبح لها قواها السياسية التي تعبر عنها من اليمين الليبرالي والديني ، بالإضافة إلي أنها في طريقها إلي التحول من طبقة مضغوطة إلي طبقة حاكمة وصارت مقولاتها هي برنامج المرحلة الحالية للحكم.ولذلك فمن الخطأ الاعتقاد أن البرنامج النظري و التوجهات العامة لليسار المصري ستظل كما هي في مرحلة ما بعد الثورة الوطنية الديمقراطية. نقد مواقف التيار الاشتراكي تنوع موقف التيار الاشتراكي المصري في العقود الستة الأخيرة بين ثلاثة توجهات جاءت إما بنائية أو تعايشية أو تصادمية، ولكنها في معظم الحالات كانت ملحقة بالبرنامج النظري لليبرالية العربية. كان الفكر الاشتراكي ومنظماته في أربعينيات القرن الماضي حيا ومتنوعا ونشطا إذ تضافر التنظير بالتنظيم ، ثم دخل في صدام فكري وتنظيمي مع حركة الضباط الأحرار وإن أيد جزء من الحركة الاشتراكية هذه الحركة العسكرية. ولكن سرعان ما تحول هذا الصدام إلي احتواء وتعايش من النظام للتنظيم، ثم عاد الصدام مرة أخري مع الحكم التبعي الذي أسسه السادات وطوره مبارك وعضد من قواه . بيد أن السنوات الأخيرة لليسار المصري كانت الأكثر سوءا وتراجعا لأسباب خارجية وداخلية منها ما هو متعلق بانهيار الكتلة الاشتراكية العالمية وتنامي الضغط الاجتماعي والثقافي الذي مارسته قوي الإسلام السياسي علي الوعي الجمعي للأمة. تكامل مع هذا الضغط هوجة الانفتاح الاقتصادي المرتبطة عضويا بالامبريالية العالمية ، إضافة إلي سوء الإدارة الداخلية للتنظيمات والأحزاب الاشتراكية والتقدمية المصرية . كل هذه المتغيرات وغيرها أثرت علي اليسار المصري بشكل سلبي دفعته إلي فقدان الاتزان النظري والتنظيمي والجماهيري. أن ما أريد التنويه عنه هنا أن قوة الجذب العام التي تنحرف بقوي اليسار خارج دائرة التأثير كانت أقوي من رغبات الأفراد في دفعه من جديد إلي مركز الأحداث. رد فعل لا فعل وفي تقديري أن السبب الرئيسي وراء ذلك أنه تيار عمل وفق رد الفعل علي ما قدمته القومية العربية من أفكار وبرامج إبان سيطرة قواها السياسية علي الحكم في بعض البلدان العربية أو ما طرحته الرأسمالية الطفيلية في العقود الأربعة الأخيرة ،في حين عجز اليسار المصري أما عن طرح برامج بنائية عملية أو الترويج لها بالقدر الكافي . نعم تميز الكادر الاشتراكي بالفدائية والاستعداد للتضحية من أجل أفكار يعتنقها ، ولكن القدرات التبشيرية بالفكر أو الانغماس المتفاني في العمل الجماهيري أو إبداع تصرفات خدمية تتوافق مع رؤيته الاشتراكية لم تكن علي القدر المطلوب ، إنه كادر - باستثناء- منعزل ينظر إلي العالم من خلف كتاب، وكثيرا ما ينسج علاقاته الشخصية وصداقاته من بين هؤلاء الذين ينتمون إلي جماعته الفكرية الخاصة. لقد خلقنا لأنفسنا عالما مستقلا عن العالم الطبيعي واكتفي الكثيرون منا بقوة الفكرة وشمولية البرنامج فبترنا الأيدي التي يجب أن تتواصل مع الجماهير بطرق شتي. المرحلة الانتقالية إن اليسار المصري إزاء مرحلة تحول كبري وجذرية في الإطار العام وفي التصورات والأولويات والبرامج تحوله من شريك في انجاز مهام الثورة الوطنية بكل ما تستلزمه تلك الشراكة من تحالفات وبرامج إصلاحية ومطالب ذات طابع ليبرالي أكثر تطوراً من الوضع المتجمد الذي ميز السياسة المصرية في عهد الارتباط التبعي بمنظومة الامبريالية الدولية ؛ إلي مرحلة أخري جديدة تتسم بقدر من وضوح الرؤية النظرية والتوجهات العملية باتجاه الطبقات الشعبية الأكثر فقراً والقوي العاملة الأكثر استنزافاً وانتهاكاً لحقوقها، بما يكشف تماما عن درجة تعبير محددة عن القوي البشرية القادرة علي العطاء سواء أكانت طاقات متعطلة أو طبقة عاملة تعمل في إطارات قانونية ولائحية مانعة لتحقيق العدل الاجتماعي بصورته العلمية أو عمال يكتسبون قوتهم من توظيف قدراتهم الذهنية والتعليمية لصالح فئات اجتماعية أكثر علواً في السلم الاجتماعي المصري.إن هذا المنظور يعني بالضبط أننا بصدد توجه محدد وصريح أن اليسار المصري الآن مدعو إلي تنقية برامجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية من أبعادها الليبرالية والتحول إلي وضع إطار نظري وعملي يؤهله لقيادة المجتمع نحو الاشتراكية الديمقراطية التي تتضمن مرحلتين من الانتقال: المرحلة الأولي : تدور حول المساهمة الحالية في تأكيد مكتسبات الثورة كدعم مشروع التنوير للطبقة الوسطي وتدعيم الحريات النقابية للطبقة العاملة وتطويرها وكذا إبداع تصورات نظرية جديدة في قضايا التوظيف والبطالة ثم التأكيد علي ترسيخ علمانية الدولة ومدنية المجتمع مع الربط بين الحداثة والتحديث.واعتقد أننا نسلك غمار تلك المرحلة الآن ويبدو أن التيار الليبرالي أدرك بدرجة ما مسئوليته التاريخية في تلك اللحظة. أما المرحلة الثانية المهمة والتي يضطلع بها التيار الاشتراكي بكل تنوعاته فإنه معني بالأساس بالانخراط والبحث الجاد ودراسة التجارب الاشتراكية الناجحة عالميا ولا سيما في دول أمريكا اللاتينية للكشف عن سماتها وخصائصها وإبداعاتها في التواصل مع الجماهير المختلفة، وهذا بالطبع لا ينفصل عن دراسة المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المجتمعية وتبني مشروع تنويري أكثر عمقا وتقدما من المشروع التنويري البرجوازي. تيار اشتراكي جديد ثم ننتقل من هذه الحالة التمهيدية إلي خلق تيار اشتراكي جديد " عماده الفئات الشابة البعيدة إلي حد ما عن الاستقطاب الإيديولوجي الحاد " يسير نحو التوجهات الاجتماعية التي تنطلق نحو تصحيح مسار العلاقة بين قوي الإنتاج وتوزيع الدخل القومي.. واعتقد أننا معنيون في بحثنا في الفكر الاشتراكي بتناول الجذر الفلسفي المؤسس له وتتبع تداعيات وامتدادات المقولة الفلسفية الاشتراكية في إطارها التاريخي والزمني، والسبل المشتركة بين الثقافة العربية بمستوياتها المتعددة والفكر الاشتراكي بتطلعاته المثالية لإنسان من نوع جديد. إن أمراً من هذا القبيل يشترط دراسات جادة ومتطورة ومتواكبة مع إنجازات العصر، واحسب أن تلك المهمة لهي أولي المهام التي تقع علي كاهل المهتمين بالجوانب النظرية من الاشتراكين المصريين، ونعني بالتحديد تطوير نظرية المعرفة الاشتراكية وإعادة أدلجة تصوراتنا المختلفة التي اكتسبناها بحكم خبرات وتطورات معرفية ومعلوماتية ناتجة عن الثورة العلمية التكنولوجية المعاصرة.وإعادة النظرة الإحيائية للاشتراكية من جديد.وكل هذا سيضيع هباء ما لم نمتلك ذراعا جماهيرية وشبكة تواصل شعبي متماسكة وحية ويقظة تستطيع أن تصل الرأس بالأطراف وهو أمر يحتاج بالضرورة إلي إبداع تنظيمي غير مسبوق، مرن ،رأسي ، شاب، متحرر من الضوابط النظرية الجامدة، ليس بالضرورة قادرا علي فهم الكل النظري ولكن من المؤكد أن يكون قادرا علي تفسير الجزء، فنحن لا نريد جماهير تستوعب الفكر النظري بتفاصيله نحن في حاجة إلي أنصار يعرفون كيف يدافعون عن حقوقهم التي ربما لا تتجاوز لدي الكثيرين سوي المأكل والملبس والعمل والسكن والعلاج والأمن الاجتماعي وفي حدود تلك المطالب ليس لنا علي الناس سوي البحث معهم من أقصر الطرق عن وسائل تحقيق ذلك . والسؤال الذي يطرح نفسه الآن ، في ظل دولة مهددة بالظلامية وثورة مهددة بالسرقة العلنية ماذا يجب أن نؤيد وماذا يجب أن نعارض ؟ وهل يمكن أن نشارك في جبهة مع احد الأجنحة اليمينية التي تؤهلها ظروفها لاعتلاء منصات الحكم ؟ مثل هذا السؤال يتوقف علي قدرتنا علي انجاز وحدة العمل المشترك ، الذي لو تمكننا منه لصارت الجبهة ذات معني تعاضدي ايجابي أما إن لم نستطع فسنبقي أرقاما هذيلة في معادلة الوطن القادم. اللحظة الثورية الراهنة أمام الحركة الاشتراكية المصرية فرصة كبيرة لإعادة تنظيم صفوفها وأوراقها من جديد من أجل كسب مزيد من الجماهير الشعبية والعمل معا في سبيل تحقيق انجازات تقدمية في جميع مجالات الحياة. وربما من أهم انجازات الثورة المصرية - في تقديري - أنها أعادت الاعتبار لمصطلح " الثورة " وإمكانية التغيير الثوري في مجتمع ظن البعض أن مثل هذه الكلمات لا تنسجم مع مزاجه العام. ففي مرحلة حاسمة كهذه من مراحل تاريخنا الحديث تقف مصر علي أعتاب لحظة تاريخية ثورية سوف تتولد عنها لحظات أكثر ثورية وامضي إبداعا في الكشف عن قدرات المصريين وطاقاتهم وتحدد بشكل كبير ملامح مستقبل هذا الوطن. واحسب أن القوي الاشتراكية واعية لمثل هذا التحدي ومدركة لأبعاد تلك اللحظة الثورية ، لحظة تطل علي الواقع وتنحو باتجاه المستقبل وتولدت من رحم الثوار المصريين في العقود الأخيرة من احتجاجات واستنهاض الهمم والقوة الكامنة والطاقات التي فجرها الشباب ورجال الفكر في جسد هذا البلد بامتداده الجغرافي وعمقه التاريخي . وإذا كانت كل القوي السياسية بمرجعياتها الإيديولوجية تري نفسها مساهمة في صناعة الواقع السياسي وبالتالي صياغة المستقبل القريب ؛ فإن من بين هذه القوي بالطبع الحركة الاشتراكية المصرية لا سيما وأن برامجها وأدبياتها ورؤيتها العامة منحازة انحيازا فكريا وعلميا وأدبيا إلي صلب العقيدة الاجتماعية المصرية المكونة من البحث عن مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة منذ الفلاح الفصيح في مصر القديمة حتي شباب يناير 2011. وبالتالي فإن مستقبل الحياة السياسية المصرية في السنوات القادمة سوف تتجه بوصلته نحو هذه الطبقات الاجتماعية المحرومة من كل شيء في هذه الحياة. فالبشر لا يحيون بنسمات الحرية التي تهب علي بطون خاوية بقدر ما يحلمون بالحرية والعدل واحترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . إن حلما لا يمكن تحقيقه ليس سوي مشهد مسرحي لا يمكنه كسر الإيهام بين الممثل والمتفرج.