الثورة .. ورؤية جديدة لليسار(1-2) تناول دور اليسار في إطار مهام جديدة، ناهيك عن كونه مهمة مستديمة ،قضية مطروحة الآن بقدر من الجدية والسرعة لأكثر من سبب أهمها أن بعض اليساريين قد فهموا طبيعة المناخ الجديد بصورة خاطئة فاعتقدوا وفقا لهذا الفهم أن المرحلة الحالية أعطتهم حرية التشظي وليس حرية تجديد الفكر والعمل. النص الثوري الجديد يتبلور النص الثوري الجديد في اتجاه ترسيخ قيم الحرية والكرامة الوطنية والمساواة وحقوق الإنسان والدستور المدني، وهذا يعني عدة أشياء مهمة ، فالنص الثوري هنا هو صاحب القول الفصل في إعادة تجديد العلاقة بين الفكر والعمل بما لا يسمح بحالة التشظي السياسي داخل اليسار المصري التي كانت سمة واضحة في السنوات الأخيرة ، وبما يستلزم تجميد الاجتهادات الخاصة بالتنظيم والفكر والعمل التي تبلور فقه الاختلاف بين جماعات تنظيمية يسارية صغيرة أو ناشئة وتغليب الاجتهادات الكبري التي تسير في ركب مواكبة الفكر والعمل وفقا لاشتراطاتها الجديدة.لأن من أهم نتائج تلك الثورة أنها سوف تحدث تغيرات هيكلية علي بنية العمل السياسي في مصر، وهي تغيرات ستعيد إنتاج الواقع المصري لتجعله أكثر انفتاحا علي نفسه وأكثر قدرة علي تناول قضاياه بمزيد من الشفافية والوضوح . فالانجاز المصري العظيم رد الاعتبار للقاموس السياسي الثوري فصرنا نواجه حقائق الأشياء وطبائعها بشيء من المنطق والواقعية والقدرة علي التغيير بعد مرحلة طويلة من استنزاف النخبة المصرية في عمليات فكرية ممطوطة لتكييف مقولاتها مع أنظمة الحكم التي سادت في القرون الستة الأخيرة بما شهدته من حكم عسكري تأرجح بين الوطنية والتبعية ولكنه ظل حكما قمعيا استلهم تجارب الديكتاتوريات العالمية ومارسها علي المصريين بشكل ممنهج ومنظم استطاع بموجبه الفصل بين النخبة السياسية وقواعدها الشعبية. وفي تصوري أن من بين أهم منجزات ثورتنا الراهنة أنها ستعيد لحمة التواصل من جديد بين الأفكار والأنظمة السياسية من جهة والجماهير الشعبية من جهة أخري، بحيث يمكن التأكيد علي أن إلتفاف الأحزاب " القديمة والجديدة " حول جماهيرها وترسيخ عمقها الطبقي سيصير هو السمة الغالبة في السنوات المقبلة.وستضع القوي السياسية والتيارات الفكرية والثقافية أمام مسئولياتها المحددة التي ربما تكون هي المبرر الوحيد لإسباغ مشروعية العمل علي هذه التيارات ، بمعني أن السياقات المعرفية لتيار سياسي ما سوف تلزمه أمام المستقبل وأمام الجماهير بأن يؤسس بناء عليها مشروعه السياسي الجديد وبرنامجه العملي الذي يتوافق مع تطلعات جماهيره. وبالتالي فإن السمة العامة للمرحلة المقبلة ستدور حول الاستقطاب أو التجاذب المتبادل بين الحزب والطبقة ، وأيا ما كان التحدي المطروح علي المناخ السياسي المعاصر من قوي ربما لا تريد تطورا ديمقراطيا علمانيا للدولة المصرية فإن الثابت بالفعل أن ما أنجزته الطبقة الوسطي من ثورة مقتدرة بكل المقاييس يثبت بل ويؤكد أن متطلبات الاجتماع الإنساني تفرض سلطتها وسطوتها علي مقولات الفكر ورغبات بعض القوي السياسية التي تأسست مقولاتها في مناخ لا يسمح بأي بناء وطني أو ديمقراطي أو تقدمي . وذلك بشرط إدراك أن قوانين التاريخ علي خلاف قوانين العلم لا تعمل من تلقاء نفسها بل هي في حاجة إلي جهد ميداني لكي يمكن التنبؤ والتحكم بمجال فعل هذا القانون أو ذاك.وهنا يأتي الحديث عن مهام اليسار في ظل تلك التحديات وهل بإمكانه التقاط خيط المبادرة لتأكيد وجوده الفعال وطرح برنامجه الاشتراكي الواضح؟ ملامح الأزمة ونقطة الانطلاق في حديث كهذا الإقرار بأن ثمة أزمة حقيقية واجهت اليسار المصري بل والعربي في الربع قرن الأخير سمحت بانفلات العروة الوثقي بينه وبين الشارع واستحواذ قوي رجعية علي المستضعفين في الأرض بما سمح باستبدال معادلة الصراع الطائفي بدلا من الصراع الاجتماعي . وفي تقديري أن أهم عناصر تلك الأزمة يكمن في ملمحين أساسيين هما الفقر النظري الشديد الذي تمثل في تآكل التحليل الاشتراكي العلمي العميق المستند علي الأصول النظرية إضافة إلي عدم مواكبة التطور الفكري الاشتراكي في العالم الخارجي وخاصة معاهد الأبحاث الغربية المتخصصة في العلوم الاجتماعية والنظرية الاشتراكية ، أما الملمح الثاني فهو فقدان بوصلة التوجه المباشر مع الجماهير المصرية ليس استعلاء أو جهلا بسبل التواصل بقدر ما هو حالة إرجاء وتواكل أو رغبة في إحضار الذات في مواجهة المجموع، وتلك الفكرة مسئولة بدرجة ما عن اللا تجانس الحالي داخل الحركة الاشتراكية واعتقد أنها موروثة منذ زمن بعيد، وربما كانت كاشفة لفكرة أخري أكثر خطورة وهي " القبلية التنظيمية" . وما بين هذين الأمرين ، الفقر النظري المسئول عن غياب مفكرين ومنظرين علي درجة كبيرة من الحساسية الفكرية والقفر الجماهيري المسئول عن غياب كوادر جماهيرية لديها الكاريزما الفعالة والايجابية ؛ ما بين هذا وذاك وقفت كوادر الحركة الاشتراكية في المنطقة الوسطي تراهن علي قدرتها علي البقاء ، مجرد البقاء ، فماتت الفكرة الخلاقة والتجربة الحية الجريئة. هذه الوسطية السياسية التي ميزت الحركة جعلت منها حركة اشتراكية تقليدية غير محايدة لأي من الفكرة أو الواقع وبقدر محدود من المجازفة. وبناء عليه تكونت عبر سنوات عقلية اشتراكية تأويلية تسعي لتأويل كل من الفكرة الاشتراكية بمفهومها العام والواقع بتفاصيله الخاصة لخطاب الفرد مفرط الخصوصية بحسب ثقافة وقراءة كل فرد للنظرية والواقع ، وبحسب مستواه الاجتماعي وسلالته التنظيمية، فانقلبت الصياغة المنطقية وخضع العام للخاص ،والإيديولوجي للسياسي ، وتفوق التنظيم علي التثقيف والقيادة علي القواعد وتصويت الهيئة الحزبية علي البرنامج العام، والمنظر علي المفسر. إن الأزمة لن تحل بخلق كيانات تنظيمية جديدة خاضعة لذات العقلية القبلية ، لن تحل إلا بالتفاف الحركة الاشتراكية حول برنامج وطني تقدمي موحد ، ومعالجة الأزمات وتمر بالضرورة بخطوة أولي هي الاعتراف بها ، الإقرار أولا بما أصاب الحركة الاشتراكية من مرض يستوجب الفحص والتشخيص والعلاج.وهذا الأمر هو ما يضع الحصان أمام العربة ويفترض بالضرورة تكوين رؤية جديدة تمثل نقطة انطلاق لمهام مختلفة عن ذي قبل. الرؤية الجديدة ما الذي تحتاجه الحركة الاشتراكية المصرية في هذه اللحظة التاريخية ؟ هذا هو السؤال المهم ، وإن كان في حقيقة الأمر سؤال مطروح طوال الوقت إلا أنه مفروض بصورة شديدة الإلحاح الآن. هناك إجابات ثلاث علي هذا السؤال ، نحن في حاجة إلي مراجعات فكرية وتنظيمية لمسيرة ما يقرب من القرن تتعلق بالمسار الفكري بتنوعاته التي اختلفت من مرحلة إلي أخري حتي أنها لم تستقر علي فكرة تأسيسية واحدة طوال العقود الماضية. وثمة إجابة ثانية تقول إننا في حاجة إلي تجاوز التجربة الاشتراكية السابقة علي الثورة المصرية وإبداع كيانات تنظيمية جديدة تتواكب مع مطالب الحالة الثورية الجديدة متخلية في الوقت نفسه عن سلبيات التجربة الاشتراكية الرسمية السابقة. وتبقي الإجابة الثالثة دائرة حول أن الوجود القوي الفعال لليسار المصري لن يتحقق في ظل تفتت قواه وتشرذم كوادره في هيئات حزبية يختلف أفرادها أكثر مما تختلف أفكارهم. وعلينا أن نختار احدي هذه الإجابات أولا والاختيار هنا ليس حالة ذاتية فردية تحكمها الأهواء الخاصة ، وأحسب أن اللحظة الراهنة لا توجب تضخيم الذات ولا استباق الأنا للمجموع ومن ثم فالإجابة الثالثة تصبح فرض عين علينا جميعا مهما تجرع البعض في سبيل ذلك من مرارة . إن التجربة في بعض مراحل التطور هي أكثر فائدة للإنسان من التفكير النظري المجرد وكان الفيلسوف الانجليزي بيكون يؤمن بأن التجارب العلمية هي معيار الحكم الوحيد علي صدق النظريات ، وما نمر به الآن هو مرحلة التجريب السياسي الذي نختبر فيها مقولاتنا وبالتالي فالتجربة السياسية هنا بمثابة استكمال نظري يؤكد من الناحية الفلسفية اختبار المقولة الاشتراكية في الواقع الحي ، وإذا ما أردنا اختبار تلك المقولة الاشتراكية فعلينا أن نوفر لها شروط النجاح أي وحدة التنظيم والتنظير في إطار التنوع القادر علي إنتاج الخصوبة الفكرية لا الخصومة النظرية. علينا أن نبحث عن الجذر المشترك الأعظم وهو في تقديري مؤسس علي ثلاثة عناصر هي الدولة المدنية والاشتراكية الديمقراطية والاقتصاد الموجه من الدولة الوطنية. بكل ما تتضمنه تلك العناصر الثلاثة من موضوعات فرعية تتماس في جزء منها مع أفكار بعض الليبراليين أو القوميين أو التقدميين والوطنيين..الخ . الرؤية الجديدة إذن تميل إلي تحديد الملامح العامة وتوضيحها وإبرازها أكثر مما تهتم بالبحث في تنظيرات جديدة ربما لا يتوافق الواقع معها أو يتحملها . الرؤية الجديدة هي تبسيط القوانين العامة الحاكمة للحاضر والكاشفة لمسار المستقبل . هي رؤية موجزة ومكثفة وبسيطة ومضيئة، نريد من خلالها الانتقال من حالة إشباع الذات إلي حالة إقناع الآخر ،ومن مرحلة حقنا في التفكير إلي مرحلة حقوق الآخرين في المعرفة، ومن قاعة المناقشات الفكرية إلي ساحة الحوارات السياسية وهكذا . ولكي يتم ذلك نحن في حاجة إلي إعادة النظر في تقييم أنفسنا وتغيير المراتب التنظيمية فنعطي الصدارة للمفسرين لا المنظرين، للشارحين لا الفالحين في القدرة علي القراءات المنظمة. نحتاج لبسطاء الاشتراكيين الذين يعرفون لغة الشارع فنغذي لديهم روح التبشير بالاشتراكية المعني لا المبني. نحتاج للتحرر الفكري والتنظيمي، فليس هناك خطأ نظري في فهم الاشتراكية ولا خطأ علمي في تفسير فلسفي من هنا أو هناك ،فقط هناك خطأ عملي في ترك الناس عرضة لهجمات التكفير . إنني أصبو إلي رفع شعار فيلسوف العلم العظيم فييرابند " كل شيء صالح للعمل " ما دام مرتبط بالعناصر الثلاثة المؤسسة للرؤية الجديدة، فحرية الفكر والعمل والتنظيم والاجتهاد داخل وحدة اشتراكية بين الجميع هي مطلبنا وأملنا الوحيد في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة ، والتي سنتحدث عنها في الجزء التالي من المقال.