ما أحلى أن تقول الحبيبة للمحبوب ارحل بطعم ابقى أكثر .. هكذا تكون روعة الفنان المبدع الأديب بلغته الثرية .. فنحن بصدد قصيدة نثرية .. تعلمنا أثر العشق على العاشقين .. فيجب أولا أن نعرج قليلا عن فن القصيدة الشعرية النثرية الحديثة .. هل هي وجدت لعجز الشاعر الذي يكتبها عوضا عن القصيدة الخليلية الكلاسيكية كما يقول البعض ؟ أم هي فن الشعر المتطوّر في أدواته ليصبح لغةً واحدة ملتصقا ومتعانقا مع الأدب العالمي ويجاريه ويوازيه ويفوقه ؟ اسمحوا لي أن أجيب على قدري ، ومدخلا لقصيدة ارحل للشاعرة رفيعة بوذينة .. حتى نستطيع أن نكشف على قدر استيعابنا جماليات أنشتنا بها .. فالإجابة : لا واللهِ .. فالعدل يقول أن الكاتب يكتب بعد أن يقرأ ، ويهضم ما يقرأه ، ويستلذ ويعجب به فيحفظه ، فنحن اليوم أمام قارئة مثقفة ، فهي بالتأكيد مرّت على المتنبي ، وعنترة ، والبحتري ، ومرورا على أبي النوّاس ، وزهير ابن أبي سلمى ، والنابغة الذبياني ، وامرؤ القيس ، و مرورا بأبي فراس الحمادني ، وأبو القاسم الشابي ، وأحمد شوقي ، وأحمد رامي ، وصلاح عبد الصبور ، وأحمد فؤاد نجم .. فيختمر ماقرأت ، واحتكاكها بالأدب العالمي ، وشعراء الغرب مثل شكسبير تشارلز ديكنز إدجار ألن بو جوته أبسن ، وغيرهم وغيرهم فنضجت بنضج المحدثين فأرادت أن تكتب للعالم كله ، فكتبت بما يماثل العصر من تطور ولغة ، فك طلاسم ورموز هذا العالم ، وعوالم الإنسان الخاصة في تركيبته الحديثة ، أما على التطور النقدي ومدارسه الحديثة ، في الاسلوب والسرد ، والشكل ، واللغة نجدنا أمام ظواهر إبداعية جديدة ، فتغير الشعر من حيث الشكل ليضيف لماسبقه ، وأيضا في مجال القصة القصيرة ، ثارت على الشكل ، ونافست الشعر ، وجاءت القصة الومضة ، فنحن لا نقف أمام إبداع أدبي جديد طالما حكى المجتمع المعاش ، وأخذ مساره ، وأصبحت الأفواه تلوكه ، وتتذوقه . فالقصيدة النثرية هي نتاج طبيعي لتصوير الإيقاع المجتمعي ، ليدور في فلك العولمة ، والتعبير العالمي الواحد ، ولكنها مشروطة بثقافة الأديب وإطلاعه ، مثلها كمثل كل أدبٍ يكتب ... ارحل .. وتعدديتها .. ارحل من حّلمي ، أتت أشبه برجاء المستضعفين المستلذين المنصاعين لعذابهم ، فاختيار بداية الرحيل من الحلم حتى أدرك من أنا .. لو رحلت من حلمي طعمت الواقع وتجرعته كباقي الخلق .. أتت القصيدة في شكلها بمراوغة عالية متمكنة ، وفقا لطبيعة المرأة في توراثها مع الرجل ، مادام رجل تعلم أنه شاريك الحياة ولا مفر منه هي منه وإليه فمباراتها معه كثيرة ، ولكنها دائما مشحونة بالرغية ، فالصنعة كانت عالية في القصيدة إذ نسجتها على منوال العكسية .. ارحل وأنا باموت فيك وبعشقك .. ارحل بمعنى ابقى ، الإقلاب أعطى جمالا من أول لحظة للمتلقي ، وشده وجذبه على هذا النوع من الرحيل . فنجدها تقول : ارحل من حلمي .. من ثغري .. من جدائلي البيضاء ، وأدخلتنا في تفاصيل الرحيل الممتع الشيّق الذي يصرخ من كل ثناياه وتعريجاته الأنثوية .. بالبقاء . التعدد بتفاصيله يدل على مدى الإحتلال .. إحتلال المحبوب لكل شيء فيها ، ومدى تغلغله فيها .. أي رحيلك مستحيل .. كيف أتخلص منك ؟ بربك قل . في حلمي أنت كل حلمي .. على ثغري (يا جماعة القصة القصيرة تعالوا أنظروا فن التكثيف في النص الأدبي) عندما تقول .. من ثغري (يا الله على إبداع اللغة العربية) نكتشف الفرق بين حرف الجر من وحرف الجر على .. لو قالت : من على ثغري لأدركنا أن ثغرها موجود كما هو بجغرافيته ، وأتى شيء عليه لا نعرف درجة ثباته عليه ، إنما بإبداعها قالت : من ثغري أي أنه أصبح من تكوين ثغرها ( أي أننا ممكن أن نؤوّل أنها من بداية دخولها في طور الأنثى التي تتكون معالمها ومفاتنها أنت معي .. بعلاقتنا .. بحبنا ، فتشكل ثغري منك من حبك من لماستك .. من أي شيء حدث ولا حرج ، واللفظ المختار يسمح) فعملت تباين وتناظر جميل في المقطع الذي يليه : من جدائلي البيضاء ، وسنضع البيضاء بين قوسين (البيضاء) ، أدركنا من ارحل من ثغري أن الحبيب معها فيها مذ نعومة أظافرها ثم أرادت أن تفهمنا أنه مازال معها ، وفي تكوينها حتى أبيضت جدائلها (الله .. أسطى) ، وفي المقطع القادم سنرى معا المبارة الجميلة حينما تقول : من قلبي الربيعي .. أنا هنا أريد أن أقف على جماليات ألفاظ اللغة العربية ، ومدى تفسيرها للمفاهيم الإنسانية الشعورية ، أي لغة في العالم لا تستطيع بناء جملة كاملة المعنى مفيدة من لفظين بهذا الشكل (قلبي الربيعي) نحن في مفارقات تضعنا فيها الشاعرة ، في المقطع السابق قالت : من جدائلي البيضاء ، وفي هذا المقطع تقول : من قلبي الربيعي ، في السابق أفهمتنا أنها شابت في تكوينه وحبه ، وفي هذا المقطع تقول قلبي بحبك شابا لا يشيخ .. تكثيف وإيجاز وبناء صنعة محكم . كان لا يصح أن تقول من قدمي ثم تقول بعدها من اخمص قدمي كانت اكتفت بواحدة ، وعلى الأرجح : من اخمص قدمي .. أفادت المعنى وحكت الكثير . من قسمات وجهي المتعبة .. المرهقة سنين حبك وعذابي فيك لفظ (متعبة) هذا جميل ، لو قالت أي لفظ آخر دل على مرور السنين على قسمات وجهها كنا قلنا سنين بتمر على الإنسان تغيّر من معالمه ، وتأكل من نضارته إنما لما نلحقها بالتعب يصبح مصحوبا هذا المشوار الطويل بالعناء والتفكير فلفظ تعب واضح .. من ليلي العسجد .. من ليلي الدرر .. الجوهر ، لو لم تكن القصيدة آتية من الإقلاب في المعنى كنا أخذنا عليها ليلي العسجد سقطة ، ولكن الإقلاب بمعنى ابقى جعلت ليلي بك الدر الجوهر الجميل الممتع مناسبة (كما يقول الحبيب لمحبوبته سأرحل عن جنتك " يعني هي جنة وهترحل من الجنة ازاي يعني") من قلادتي ..... من درري من الياقوت المرصع على صدري .... أي أن كل شيء أتحلى به منير مذهو مجوّهر بك ثم فالت : انزع اليوم ما تبقى من شعيرات ذقنك الذائبة على خدي المنهك .. هذه الصورة ضعفت بلفظ (ذقنك) لو كانت استبدلتها بلفظ (صدرك) لأصبحت صورة في منتهى الروعة .. الصدر سيدلنا على قوة انغماسها فيه يوافق اللفظ المبدع (انزع) وتماثل الصورة في بنائها النزع من الصدر أي الخروج منه ، لأنها تطلبه بالرحيل هي الطالبة هي في المعنى تطلب الخروج .. تحاوله بمفردها لا تستطيع فتطلبه منه ارحل عني .. عن كلي حتى حجياتي التي أتزين بها إليك .. على قارعة الطريق أنفض ما تبقى منك ... يا سلام هنا الروعة في التقديم والتأخير في علم (المعاني) أيُّ طريق عائدة منه تنفضك بعد عودتها منك ؟. عندما أكون معك أتشبث أكثر .. أسرح أكثر .. أتوه أكثر .. يزداد احتلالك لي .. أين التقديم والتأخير هنا ؟ لأن بعده مقطع أخّرته للجمال .. لأعود الى البيت واعلن هدنتي .. من العشق والسهر ... ارحل ... لأجدني .. من الطبيعي أن تعلن الأول وجودها عنده ، ومدى تذوقها للعشق معه هناك ، حتى تأتي عائدة تلوم نفسها بهذا الحب المهلك الذي لا تحتمله أحاسيسها ومشاعرها نحوه ، ويحتلها احتلالا .. ارحل لأجدني ، وتنهي وهي تستحلفه .. بربك ... يا الله . في النهاية أنتِ أيّتها الشاعرة الفائقة في الإبداع كمن يجعلونني مذهوا بنفسي في عالم الأدب ، ومن يجعلونني أحمد الله على هذه المهنة بعد نعمه المتعددة عليْ .. أحمد ربي على أن جعل لي مهنة هي فن الحياة ، لأن موهبة التذوق الأدبي نعمة لا تحصى على العبد من ربه بها يدرك العالم من حوله ويؤوّله كله ... أشكرك