تمهيدا لعودة المواطنين إلى مناطقهم، البرهان يصدر قرارا بإخلاء الخرطوم من المسلحين    الجودو، منتخب الناشئين يخسر برونزية البطولة الأفريقية أمام المغرب    8 نصائح للوقاية من نزلات البرد والإنفلونزا وتعزيز المناعة    نقيب الصحفيين: استمرار جهود صرف زيادة بدل التكنولوجيا    الرئاسة السورية: نتابع بقلق بالغ ما يجرى من أحداث دامية فى الجنوب السورى    قطر والإمارات والكويت ترفض مخطط إسرائيل لتغيير وضع الحرم الإبراهيمي    هنا العلمين الجديدة: وجهة السياحة ومتعة الترفيه.. مهرجانات عالمية ونجوم من كل مكان    اقتربت العودة.. فليك يرغب في ضم تياجو ألكانتارا لجهاز برشلونة الفني    نتائج ألعاب القوى تتلألأ في البطولة الأفريقية بنيجيريا    محمد صلاح: أنا أعظم لاعب أفريقي.. ولقب دوري أبطال أوروبا الأغلى    تفاصيل سقوط كوبرى مشاة على طريق القاهرة الإسكندرية الزراعى.. فيديو    السيطرة على حريق بمخزن كرتون بالخصوص.. والمعاينة الأولية: شماريخ أفراح السبب    وسط أجواء هادئة.. كفر الشيخ الأزهرية تختتم أعمال تصحيح الثانوية    أنغام تغازل جمهورها فى مهرجان العلمين: بحبكوا أوى وانتوا الفرحة اللى ليا    عبد الله عمرو مصطفى يطرح أولى تجاربه فى عالم الغناء only you    افتتاح مهرجان الأوبرا الصيفى على المسرح المكشوف    "اللعب في الدماغ".. وثائقى ل"المتحدة" يرد على خرافة بناء الكائنات الفضائية للأهرامات    عبد السند يمامة عن استشهاده بآية قرآنية: قصدت من «وفدا» الدعاء.. وهذا سبب هجوم الإخوان ضدي    فوز فريقين من طلاب جامعة دمنهور بالمركز الأول فى "Health Care" و "Education Technology"    ريال مدريد يرفع درجة الاستعداد: معسكر تكتيكي مكثف.. صفقات قوية.. وتحديات في روزنامة الليجا (تقرير)    تين هاج يغلق الباب أمام انضمام أنتوني إلى ليفركوزن    شقق بنك التعمير والإسكان 2025.. احجز وحدتك بالتقسيط حتى 10 سنوات    عبدالعاطي يلتقي نظيره السعودي.. وكاتب صحفي: أحداث المنطقة تستدعي تكاتفًا عربيًا    لف ودوران    نصر أبو زيد.. رجل من زمن الحداثة    حسام حبيب يتعرض لكسر في القدم قبل أول حفل رسمي له بالسعودية    تراجع طفيف للأسهم الأمريكية في تعاملات الظهيرة    قوات الإنقاذ النهري وغواصين الخير يبحثون عن شاب غرق بشاطئ كناري في الإسكندرية    مفاجأة في واقعة مصرع 5 أشقاء بالمنيا.. الأب يعاني في المستشفى وابنته الأخيرة نفس الأعراض    أعقبته عدة هزات.. زلزال يضرب نابولي بإيطاليا    فحص 1250 مواطنا ضمن قوافل مبادرة حياة كريمة الطبية فى دمياط    هل مساعدة الزوجة لزوجها ماليا تعتبر صدقة؟.. أمين الفتوى يجيب    اتفاقية بين مصر وأمريكا لمنح درجات الماجستير    الصحة: حملة تفتيشية على المنشآت الطبية الخاصة بغرب النوبارية بالبحيرة للتأكد من استيفائها للاشتراطات الصحية    المبعوث الأممي إلى سوريا يدعو لوقف الانتهاكات الإسرائيلية فورا    ضبط المتهم بإدارة كيان تعليمي للنصب على المواطنين بالقاهرة    براتب 10000 جنيه.. «العمل» تعلن عن 90 وظيفة في مجال المطاعم    35 شهيدًا فى غزة منذ فجر اليوم بنيران الاحتلال الإسرائيلي    حزب مصر أكتوبر: العلاقات "المصرية السعودية" تستند إلى تاريخ طويل من المصير المشترك    الهيئة الوطنية تعلن القائمة النهائية لمرشحي الفردي ب"الشيوخ" 2025 عن دائرة الإسكندرية    جهاز تنمية المشروعات ينفذ خطة طموحة لتطوير الخدمات التدريبية للعملاء والموظفين    فتح طريق الأوتوستراد بعد انتهاء أعمال الإصلاح وعودة المرور لطبيعته    وزير الأوقاف ومفتي الجمهورية ومحافظ كفر الشيخ يفتتحون المرحلة الأولى من تطوير مسجد إبراهيم الدسوقي    مصرع عامل في حريق اندلع داخل 3 مطاعم بمدينة الخصوص    بعد تصريحه «الوفد مذكور في القرآن».. عبدالسند يمامة: ما قصدته اللفظ وليس الحزب    إيطاليا: كنائس القدس قدمت 500 طن من المساعدات إلى غزة    «الإصلاح والنهضة» يطلق حملته الرسمية ل انتخابات الشيوخ 2025    سد النهضة وتحقيق التنمية والسلم الأفريقي أبرز نشاط الرئيس الأسبوعي    وزير الخارجية يواصل اتصالاته لخفض التصعيد بين إيران وإسرائيل وتفعيل المسار الدبلوماسي    نصر أبو الحسن وعلاء عبد العال يقدمون واجب العزاء في وفاة ميمي عبد الرازق (صور)    الرعاية الصحية وهواوي تطلقان أول تطبيق ميداني لتقنيات الجيل الخامس بمجمع السويس الطبي    قبل ترويجها للسوق السوداء.. ضبط 4 طن من الدقيق الأبيض والبلدي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 18-7-2025 في محافظة قنا    «أمن المنافذ» يضبط قضيتي تهريب ويحرر 2460 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : فشكراً أشرف!?    انخفاض أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة 18-7-2025    الهاني سليمان: الأهلي لا تضمنه حتى تدخل غرف الملابس.. والزمالك أحيانا يرمي "الفوطة"    هل تعد المرأة زانية إذا خلعت زوجها؟ د. سعد الهلالي يحسم الجدل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فن الحرف وصناعة الكلمة في الإسلوب الأدبي،
نشر في شموس يوم 11 - 12 - 2013

جماع شتات ألفاظ اللغة العربية لتكوّن نصًا أدبيًا ممتعًا... يعلم الشعور والحواس....للشاعرة/ نعيمة خليفي وقصيدة : تجليك.... سطر هواي
تجليك .. سطر هواي
سأنتظرك سطرا يمشي كأقدام الشارع على ورقي
سأقتفيك ظلا لا تنازعه رياح الشك .. بأنك الأوحد في طريقي
رابض في دفاتري ,كموج البحر
ومخالبك مرشوقة على الصفحات...كحوافر الوقت لا تبرحني
سأقتفيك عطرا لا تخطئه فوضى الحواس ..بين كرنفال العطور
كيف تخطئه و أنت السادر في ارتجافة أرجوان الوتين ؟
كلما اهتاجت ريح الذكرى يزداد يقيني
أنك هناك في وميض ضباب المطر
أنك هناك..في لغة سعف النخل أتسمعك صوتا بلا ملامح
رغم أنك تتشاهق كالأبراج
وقطاف المستحيل يرصدك
أنت هناك ..شبيه بالرسومات ..في زعفران المحو
و أنت خارج الفصول أجابهك
معلنة للتخوم أنك لا شيء و لا شيء يشبهك !!؟
إن يستحيل تجليك ..أقيم قداسا لشهادة الغياب ,,إد يمجدك
في عدالة الاحتفال اعتبار توسمك بطبيعة الطير
وأمجدك اكثر حين يحل المساء
:لا تهزمني غير غرابتك القصوى في صمتك الكثيف
يهزم الوقت
فتهزم كل أشيائي
بداية أراني مدفوعًا من داخلي أن أتكلم عن النقد الأدبي وتعريفه بأبسط صورة له، لا لكي أعرف القارئ المحترم العزيز ما يجهله عن هذا العلم، ولكن لاحترامي له، وهذا الاحترام يجعلني أدرك أنه حقه عليّ.. أن يعرفني جيدًا، ويعرف أن ما أكتبه هنا ينتمي وصاحبه للنقد الأدبي، وأني ليس جاهلا لهذا العلم، ولا أمتلكه كله حتى أتصوّر نفسي أني فريدًا في هذا المجال، وكما تعلمنا ممن أصّلوا الكتابة الأدبية وفنيتها، مثل ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) تعلمنا أن لكل مقامٍ مقال، ولكل مناسبة قول يليق بها.. لا أكثر ولا نقصان.
أما أننا نجمتع هنا في محفل عالم الفيس بوك السريع الإيقاع، وجبر الجميع ممن يتعاملون معه على السرعة، ولا يطيق أغلبهم أن يقرأ موضوعًا يحوي أكثر من صفحة، فتعلمنا أن نتعامل مع الجميع ونخاطبهم على قدر طاقتهم والحالة النفسبة والسلوكية التي تتلبسهم على الفيس، وهذا أيضًا مما تعلمناه من الأدب، وحتى لا أطيل عليكم وأنا مجبور على هذه الإطالة لمناسبتها، فأنا لم أقل يومًا أني درست علم النقد، ومازلت، ولا يهمني، ولا يهم كل لبيب يستعمل عقله في كل أمر، وأعتقد أنه لا يهمكم أيضًا أن يقول أحد أنه حاصل على الدكتوراه في كذا وشهادات كذا حتى نجبر على الإيمان بكلامه، والأخذ برأيه، ولكن ما يهم المتلقي ما أنتجته هذه الشهادات والدراسات من علم نافع، أي ما أكتبه هو الحكم الوحيد على ما أكتب.. بعد دراسة ظروفه، ومناسبته، فكل العلوم الإنسانية والأدبية هي اجتهادات بشرية متطورة، وما زالت.
تعريف النقد في اللغة : تمييز الأشياء من حيث جيدها من رديئها، والنقد في النثر والشعر هو أن أظهر ما فيه من عيبٍ أو حُسن.
وفي النقد الأدبي الحديث نشأت طرق ومذاهب كثيرة لتفكيك النص الأدبي وتحليله، حتى نضع أيدينا على الرديء فيه والحسن.
أما هذه القصيدة التي نحن بصددها الآن.. لا طاقة لي ولا للمتلقي أن أنقدها نقدًا علميًا معمقًا، ولم يتح لي ذلك على الفيس بظروفه، ورغم ذلك سيشتمل ما أكتبه عن هذه القصيدة على نقدٍ مفيد للمتعلم والمتذوّق، وسأتناولها من خلال مذهب نقدي يعنى بالشكل والمضمون، وكما قرر النقاد الروس الذين آثروا هذا المذهب النقدي.. أن مذهب النقد الشكلي يركز على البنيوية الداخلية للعناصر الأدبية المكوّنة للنص الأدبي، وتأثيرها على السامعين.
أي عندما أتناول عناصر النص الأدبي وهي : الأفكار، والألفاظ، والعواطف، والأخيلة، والموسيقى، والصور البلاغية من تشبيه، ومجاز، وكناية، فنجمع لها الإجابيات والسلبيات، ولكني سأجملها كلها في (سندوتش) سريع يفيد ولا يخل للمهمة، بأسلوب يخصني أنا (أي أني لا أتكلم عن كل عنصر بالتفصيل تحت بند يخصه على حدى) وأرجو أن أكون قد وفقت في هذا لإفادة مايريد أن يستفيد، ولكني أبدا لا أفيد، ولا أرضي ماحاولت ولا استطعت كل من يقرأ كي يتصيّد الأخطاء.
نعيمة خليفي... شاعرة من طراز حساس دقيق تتغنى في الوجود وتتغنى به، كما تتألم معه وتؤلمه، وتعيش في قصائدها كما الفراشة الحرة الفطرية... تهبط ما تشاء لتمتص كل أنواع الرحيق من كل زهور الدنيا لتستخرجه عسلا شافيا نقيا على كلمات قصائدها، أرى الشاعر بداخلها يقرض بحرية المجنون بلا ضابط، وهذا جنون الإبداع... أي أنه جنون به خصوصية الإتزان، فعندما تقرض لنا قصيدة بعنوان / تجليك.... سطر هواي، أي أنها ومن أول لحظة تقول للمتلقي : قف... قف عندي للحظات من فضلك، فأنا سأعلمك فن الحكي والسرد، وسأنشيك.
هنا العنوان يشير على أنها تتكلم عن حالة عشق خاصة جدًا لعشيق يحتلها، ولا تستطيع أن تعثر عليه، ولا أن تحتويه بالشكل المادي الملموس.
تجليك.... سطر هواي، فهنا تجسد التجلي للمحبوب على سطر هواها، كما أنها جسدت هواه الذي ظل بداخلها لا يبرحه، وجعلها على هذه الحالة التي بدت في القصيدة، وكأنه سطر من صفحات كتابها في الحياة، وليس لقلة الحب، ولكن لمقدار حبه الهائل الكبير، وعشقها به الذي لا يتحمله كتاب حياتها، ولِما لا وقد قال سيدنا جبريل لرسولنا الكريم محمد عليه أفصل الصلاة وأزكى السلام، في رحلة الإسراء والمعراج عندما عرجا عند سدرة المنتهى قال له : إلى هنا ينتهي دوري، إن شرعت في التقدم احترقت، وهي أيضا ستحترق وستتلاشى لو احتل منها أكثر، هذا هو العنوان الذي به نادت على المتلقي.
(سأنتظرك سطرا يمشي كأقدام الشارع على ورقي)
صوّرتِ حالة فراق ووحشة من حبيبة لحبيبها في أروع صورة للفقد والعشق الدائم رغم الهجر، فهو موجود بداخلها وطرح على كل ماتراه عيناها من جماليات التعبير في كونها حتى نرى الشاعرة تقول في اصرار الحبيبة على عودة الحبيب : سأنتظرك سطرا يمشي كأقدام الشارع على ورقي، هذه الصورة البطل (الماستر سين) الكلية المفروضة على أوراقها، عندما شخصت الشارع به كإنسان يمشي على ورقها، وتشبيه من تشبيه به جمال آخر وهي تصوره كأقدام الشارع، وهنا صورت خطوط الشارع الطويلة الممتدة كلها كلها كأقدام غير منتهية باقية، صورة بها قدرة متميزة من شاعرة ابتلعت الكون كله وأخرجته شعرا، ترجمت كل برعم في الحياة بمزيج ثقافاتها الخاصة وإحساسها الشاعر الفريد حتى رأت الكون كله بعينيها الخاصة بمذاق الشاعر بداخلها.
(سأقتفيك ظلا لا تنازعه رياح الشك بأنك الأوحد في طريقي).
(سأقتفيك) بدأ الفعل المضارع أيضًا بحرف السين لتعين الفعل المضارع على الإستقبال والتتبع.
(أقتفي) الأثر. تشخيص الظل على أنه إنسان (هو الحبيب) تقتفي أثره في طريق حياتها، وهو الأوحد في هذا الطريق.. لا غيره، لا تنازعه رياح الشك.. وسر جمالها مافيها من تشخيص... تصوير جميل للملهوف لإستحضار غائب في ذكراه من خلال أثره المتشخص في الظل الذي تقتفيه، وكناية (إقتفاء الإثر باقتفاء الظل) كناية أقوى تعبيرًا... إستبدال أثر الأقدام بالظل أعطت إنسجامًا وضحته الشاعرة في المقطع الأول من خلال الصورة البديعية وهي تشخصه كإنسان يمشي على أوراقها كأقدام الشارع... أي على مشوار حياتها. متمثلة في المقطع الثاني بظل الإنسان استعارة مكنية الذي يلازمها ويمشي معها في هذا الطريق... مشوار الحياة...
(رابضٌ في دفاتري) رابض قائم.. لاصق كالأسد على فريسته وقع عليها وتمكن منها، جسدت الدفاتر بالفريسة، تشبيه يوحي بالقوة والبقاء والصمود، والدفاتر هنا تعنيها هي، ووقائع حياتها وتفاصيلها وأسرارها وهو رابض عليها... اقتنصها لا يبرحها.
(كموج البحر) أي مقيم ثابت بداخلها، كالبحر يلازمه الموج بصوره.. الصخب، القوة، العنفوان، والصد، والهجوم. تشبيه يشير على الرومانسية والعاطفية، يحدث مفارقة لها تحليلها المتأني، عندما قالت لفظ رابض كالأسد وهو يقبض على الفريسة ثم كموج البحر.. رغم أن الاثنين بهما قوة تختلف في شكلها غير أن البحر وموجه بما فيه من صخب وعنفوان غير أنه يؤثر في عاطفتنا، ويحيلنا إلى الرومانسية التي هي مكوّن رئيسي في العلاقة العشقية الوجدانية التي يتكلم عنها النص.
(ومخالبك مرشوقة على الصفحات) جسدت الوقت بحوافره بالحيوان المفترس صورة بديعية فيها الكلية والشمول... مستحوذة، تواصل تجسيدها بالمخالب المرشوقة على الصفحات.. على الثياب.. على الجسد.
(كحوافر الوقت لا تبرحني) وهنا شبهت الوقت بالوحش بحوافره، وقبلا شبهته بالحيوان المفترس بمخالبه، وهنا استبدلت المخالب بالحوافر، لأن كل منهما له فعل وأثر، فالمخالب ترشق وتنهش فتليق بالصفحات المشبهة بالثياب والجسد، أما الحوافر فهي تدق وترسم وتختم تنقش.. معنية بالأثر واقتفاءه ودليله على الجسد والحياة (حياتها) المرصعان بها...
وتجسيد الحوافر بالوقت صورت الوقت بالحيوان الثقيل ذات الحوافر الراسخة الثابتة كأنها توشم جسد الأرض وتختمه ختمها.
هي في الأصل معنية بالوقت وبرزت معاناتها معه ومدى شقائها بجملة سريعة من كلمتين (حوافر الوقت) الوقت الذي أصابه المرض العضال المزمن (قصة عشقه لها).. حبه أصاب الوقت وأمرضه لا يبرحه ولا يبرحها.
(سأقتفيك عطرًا لا تخطئه فوضى الحواس) كلمة فوضى هنا بارعة خارقة هي لفظ في كون اللغة العربية ليس له أثرًا ولا وزنًا معينًا بأهميته المفردة... لفظ يكاد يكون مهلك في استعماله، ولكن عندما أردفت خلفه لفظ آخر (الحواس)، فأصبحت جملة مثيرة مرعبة لها وزن وتأثير حقيقي.
بدأت أيضًا المقطع بحرف السين قبل الفعل المضارع للتنوع في الإستقبال، وهي تدور وتلف وتبحث وتقتفي أثره في كونها وعالمها، وبعينيها الخاصة عندما تقول : سأقتفيك عطرًا لا تخطئه فوضى الحواس، وهنا عودة لكلمة فوضى وإكسابها القدرة والقوة والدلالة داخل المقطع، والمؤثر العاطفي لدى المتلقي.
فالنظر إلى الحواس نراها قد تخطئ أحيانًا... بقصد عدم التركيز لقلة الأهمية، أو أن المشموم ليس له أثرًا، أو بحجة الإستلذاذ في الشم فنتعمد الخطأ لنطيل عملية الشم لتبقى وقتًا أطول، ولكن عندما تكون في محفل عطور (كرنفال) هنا تتفاعل كل حواسنا مع حاسة الشم، وتتطاير كطيور متعددة حبست كلها في قفص واحد فتخرج دفعة واحدة فجأة تتخبط في فوضى..
ها أنا أقتفي أثرك مرة أخرى أقتفيك عطرًا هذا الفعل (اقتفى) استندت عليه الشاعرة إستنادًا بارعًا لتمطّه وتعدده، وتعطيه صورًا جديدة في اقتفاء أثر الحبيب (اقتفيك ظلا وليس خطوات) ( اقتفيك عطرًا وليس خطوات) بإمكانها أن تقعد على هذا الفعل مئة اقتفيك، وكل مرة بتنويع جديد وصورة جديدة حتى تؤكد على حالة المحبوبة وتأكيد وصولها للمتلقي.
اقتفيك عطرًا تؤكد على أن المحبوبة لا تشم رائحة حبيبها المميزة المعهودة التي تدل على وجوده الحقيقي، ولكن وجوده في داخلها يصنعه .. يجعل حاسة الشم عندها خبيرة في معملها الكيميائي لإستحضاره (أي استحضار عطره) وكأنها تستطيع أن تدخل كل هذه العطور الأقل من عطره في معادلات كيميائية في معملها لتقتفي عطره، وتحصل عليه في هذا الكرنفال...
وهنا فوضى الحواس أن تضع حاسة الشم في فوضى... عطر غريب على آخر أغرب منه. كما تتعجل حاسة النظر في البحث عنه، وحاسة اللمس للمس عشوائي آخر لتجده فيه، والسمع تتسمعه في عشوائية التشوّش، وتتذوّق الأنفاس والكلمات لإستحضاره.. كل يتسابق في عجل وغوغائية فتسمى فوضى الحواس في كرنفال عطور، لأن كل الحواس سوف لا تخطئ وتعمل على تغيير ايدلوجيتها لتتحول إلى حاسة واحدة.. حاسة الشم وتحول، كل مافيه وكل ما هناك إلى عطر تتشمّمه مرغمة مستلذة.
بين كرنفال احتفال : هنا (بين) أخلّت المعنى، لأن الحبيب لو كان موجودا وجود حقيقي في هذا الكرنفال كانت سوف تعثر عليه مختبئًا بين بين، ولكن كان الأجدر أن تستخدم حرف في.. (في كرنفال عطور)، في.. هنا لاتدل على أنه موجود بذاته، ولكنه متناثر فيهم جميعا وهي سوف تقتفي أثره وتستحضره.
(كيف تخطئه وأنت السادر في إرتجافة أرجوان الوتين؟)
هذا المقطع أعترض عليه اعتراضًا كاملًا، لقد خان الشاعرة جنِّي الشعر، وجعل يقرض على لسانها طلاسم في اللغة غير قابلة للفهم، وتفتقد المعنى الواضح، فالسادر آتية من سَدَرَ وسَدِرَ: أي تحيّر بصره من شدة الحر، ولم يهتم ولا يبالي ما صنع، فهو سادِر أي تكلم سادِرًا غير متثبت في كلامه، والأرجوان عنصر غازي عديم اللون والرائحة يستخدم عادة في ملء المصابيح الكهربائية، والوتين هو الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب، فلهذا لم أصل للمعنى الذي تود أن تقوله الشاعرة في هذا المقطع، ربما أرادت أن تقول : كيف وأنت الثابت ثبوت اليقين في ارتجافة (رعشة) الأرجوان في مصباح شريان القلب الجاري في الجسم، ولكنها لم تقل شيئًا.
(كلي اهتاجت ريح الذكرى... يزداد يقيني أنك هناك.. في وميض ضباب المطر).
اهتاجت تصريف هذا اللفظ على هذا الوزن أعطى حركة وقوة واستمرار، والإستمرار أتى لفعل الهياج في الجسد والحواس،وأكدته بلفظ (كلي) تأكيد لفظي، كلي اهتاجت واشتعلت بالهياج، واحترقت بريح الذكرى... لم تقل رياح، لأن الرياح تأتي بتباشير الخير، بينما الريح تأتي بنذير الشر ، كما في (ريح صرصر) فريح الذكرى التي هبت عليها قدمت الخبر (اهتاجت) قبل المبتدأ للترويع والهول ، وأكدته بلفظ (كلي) للشدة والتواصل، فسيحضر الذهن باليقين أنك هناك... أين؟... أين؟...يالروعة والتجديد في تركيبات ألفاظ اللغة، في وميض ضباب المطر...يا الله. الوميض والضباب واجتماعهما على معزول غريب آخر لا يمس صفة كل منهما وروحه وهو المطر.
سنرى كيف خلقت الشاعرة هذه الصورة البلاغية البديعية؟ وهي تصور لنا الوميض اللمعان الخفيف كأسلاك البرق الخفيفة السريعة كي تتماثل مع غزلها لخيوط ماء المطر في حالة الإشتعال والحريق من الهياج، وريح الذكرى التي تسببت في صنع ذلك مع ضباب السحاب الخفيف كالدخان...
إذن هي صورة حالة مكتملة أجادت بإتقان في تصويرها.
(أنك هناك... في لغة سعف النخل أتسمعك صوتًا بلا ملامح.
رغم أنك تتشاهق كالأبراج وقطاف المستحيل يرصدك.
أنت هناك... شبيه بالرسومات في زعفران المحو).
تصور الشاعرة هنا روح المحبوبة هائمة في الكون.. مجنونة بيقين رؤية الحبيب في كل شيء من حولها، فهي تؤكد أنه هناك في لغة سعف النخل... تصور سعف النخل وعزفه وضرب ريشه في بعضه واحتكاكه على أنه لغة تمثل صوته في أذن المحبوبة... تصوير بديع ... بلا ملامح ... فقط صوتك، وذكر لفظ ملامح هنا يشير بعدم استخراج كلام يقيني مفهوم.. فقط صوت يدل عليه، والصورة بها موسيقى عالية الإيقاع، وكم هي تطرب .
(رغم) هنا غير مفيدة على الإطلاق، فهي تعلن وجوده هناك شاهقًا كالأبراج في علو يستحيل قطفك، وتحويل فعل يستحيل لاسم به قوة للتعظيم وتجميع كل الاستحالة أي المستحيل كله مضافًا إلى قطاف .. اسم من فعل (قطف) وهي مستمرة على هذه الحالة... اشتقاق الأسماء من الأفعال لتعطيها درجات متعددة في التأويل لتحولها لمعاني مؤثرة جديدة...يعجز قطاف المستحيل حتى أن يرصدك هناك.
(أنت هناك... شبيه بالرسومات في زعفران المحو)
أعترض على هذا المقطع... خانك فيه التعبير أيضا، ما معنى زعفران المحو؟ وماذا تعني بشبيه بالرسومات في زعفران المحو؟ لامعنى...
الزعفران هو نبات بصلي من الفصيلة السوسانية، ومنه نوع طبي صبغي مشهور، فما هو المعنى الموحي في هذا المقطع؟
(وأنت خارج الفصول أجابهك... معلنة للتخوّم أنك لا شيء ولا شيء يشبهك).
وهذا أيضًا بالغتي فيه حتى انكسر المعنى وضاع.
(إن) هنا جميلة جدًا.. إن يستحيل تجليك. استحضارك، وهذا محال بعد كل هذا أن يستحيل تجليك، إن يستحيل في ذات مرة أو في ذات لحظة تجليك عليّ بعد إدراكِ أنك غير موجود... أنك تلاشيت.. أن احترقت صور ذكرياتك... وحوافرك... ومخالبك.. وعطرك... وروحك في سعف النخل والكون.. أن استفيق منك ذات يوم... سأقيم
(أقيم لك قداسًا بشهادة وفاة.. شهادة غياب.. إذ يمجدك في عدالة الإحتفال بتوسمك طبيعة الطير المهاجر المفارق).
(وأمجدك أكثر حتى يحل المساء) هذا المقطع زائد ليس له ضرورة.
(وأخيرًا أدركت أن لا يهزمني غير غربتك القصوى).
غربتك.. أدركت أن الغربة شيء أساسي فيك طبيعي، فهي فقط التي هزمتني وصمتك الكثيف..
فنراها هنا جمعت جمعًا جديدًا للقصوى مع الغربة أعطتها شدة من القصوى واللا مبالاة تفسر الطبيعة، وأيضًا الكثافة مع الصمت.. غزل بديع، الكثافة هنا مدتها بمدى لا ينتهي لا يشف ولا يرق ولا يفنى ذلك الصمت الأبدي المماثل أيضًا للطبيعة.
(يهزمني الوقت فتنهزم كل أشيائي).
يهزمني الوقت لا تبرحني فتنهزم كل أشيائي.. كل كل أشيائي التي عانيت في تصويرها خلال القصيدة حتى وصلت بأشيائي هذه..
أن كلها هي سوف تنهزم، وكأنه إعلان ختامي مروّع أنها سلّمت، وأستسلمت بالهزيمة لأنها كانت لا تدرك، بأنه هلامي خيالي خرافي بطبيعة الطير المهاجر المفارق في غربته وصمته الكثيف..
أكثر من رائعة نعيمة خليفي... شاعرة ملهمة من الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.